ملخص: "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب"! لا تخرج هذه الحكمة القديمة عن الوصف الدقيق لحال العديد من العلاقات الزوجية في الوقت الراهن، وعلى عكس ما قد يعتقده الكثيرون فإن الصمت قد يصبح فضيلة من فضائل العلاقة الزوجية التي تجب المراهنة عليها، وإليك أسباب ذلك.
محتويات المقال
عادةً ما يُقرن الصمت بالمسكوت عنه أو العجز عن التواصل لكن هذا السلوك ذو دور مهم في الحياة الزوجية؛ إذ ينشّط الرغبة ويتيح لكل واحد من الزوجين فرصة العناية بمشاعره الخاصة. وعندما يمتزج الصمت بالإصغاء والحضور، يصبح دعامة أساسية للحب.
بينما تتعالى أصوات نغمات الموسيقا والضحكات والأحاديث في المطعم، يجلس زوجان وقد انغمس كل منهما في عالمه الخاص. منذ أن جلسا على الطاولة وجهاً لوجه، لم يتبادلا أيّ كلمات فيما بينهما. تتوالى أسئلة وملاحظات رواد المطعم وهم يسخرون ويتهامسون: "ألم يعد بينهما أيّ كلام يتبادلانه؟"، "أكيد أنهما غاضبان"، "يا للمسكينَين"، فيشعر الزوجان بالانزعاج. يبدو هذا المشهد روتينياً بعد أن أصبح الصمت فزاعة من فزاعات عصر الثرثرة الذي نعيش فيه؛ حيث تسود الثقة العمياء في سلطة الكلام.
اكتب عبارة "صمت الأزواج" في أيّ محرك بحث وستجد هذا الموضوع مقترناً بعناوين ومحاور مثل "التواصل العنيف جداً" و"الأضرار" و"التلاعب" وغيرها من المظاهر السلبية. ومن المؤكد أن الصمت مخيف؛ بل ثمة أنواع قاتلة من الصمت، والقضايا "المسكوت عنها" يمكن أن تدمر العلاقة الزوجية.
وبينما يتجه المجتمع نحو جعل التحدّث بين الزوجين سلوكاً إلزامياً ومعياراً جديداً من معايير التواصل العاطفي، للبوح بكل شيء وتحليل العلاقة الزوجية والتصريح بالرغبات، فثمة خطر داهم وراء ذلك لا يهدد فقط بالقضاء على جدوى الكلام من خلال إفراغه من محتواه؛ بل قد يؤدي أيضاً إلى إضعاف رابطة الحب، تحت تأثير الوضوح المزعوم والشفافية الزائفة.
ما الذي يؤدي إلى صمت الأزواج؟
تقول المعالجة النفسية فيولين جيلي (Violaine Gelly): "يمكن تلخيص مسألة تبادل الكلام بين الزوجين في المقارنة بين الفراغ والانشغال، هل يملأ الكلام فراغاً معيناً أم يردّ خوفاً من هذا الفراغ؟ وفي المقابل يجوز لنا أن نتساءل: ألا يمكن أن يكون الصمت امتلاءً؟ في الواقع لا محلّ للكلام إذا كنا سنملأ به الفراغ دون توقف، مثلما نفعل من خلال ممارسة أنشطة أخرى. كذلك، فإن الصمت ليس بالضرورة إشارة سيئة، فالأمر يتوقّف على طبيعته".
لنعد إلى حالة الزوجين الجالسَين في المطعم. لماذا يثير صمتهما الشكوك على الرغم من أنه قد يكون مجرد ارتباك في أول لقاء أو تواطؤاً بين عاشقَين قديمَين؟ يقول سمير البالغ من العمر 59 عاماً، والمتزوج منذ أكثر من 30 سنة من زوجة ثرثارة: "ثمة حركات ونظرات وغمزات تعبّر أكثر من الكلمات، صحيح أنني ألجأ إلى الصمت للدفاع عن نفسي عندما تهاجمني زوجتي فادية بكلامها، وأحياناً أصمت لإنهاء التصعيد اللفظي بيننا عندما تتوتر علاقتنا. لكنني أصمت في أغلب الأوقات لأنني أرتاح في ذلك ببساطة، فأجلس إلى جانب زوجتي، أنظر وأصغي إليها، وربما أكون أكثر حضوراً من فادية التي تبدو من كثرة كلامها منشغلة بنفسها". قد ينتهي بنا الأمر إذاً إلى الصمت بسبب كثرة الكلام؛ بل إن تدفق الكلام يمكن أن يتحول إلى أحد أساليب الابتعاد عن الآخر، ويصبح فيضاً جارفاً أقل "تمتيناً للعلاقة" الزوجية من بعض أشكال الصمت.
تضيف فيولين جيلي: "سواء تكلمنا أو صمتنا فإن العبرة تكون بالتساؤل عن المكانة التي نخصّصها للآخر، والتأكد من موافقتنا معاً على أيّ من الخيارين. ومن الصعب أحياناً فهم دلالات الصمت؛ لذا فإن السلوك المثالي يتمثل في قدرة أحد الزوجين على طرح السؤال على الآخر: لماذا لا تتكلم؟ وقدرة الآخر على الرد: لأنني بخير، وأشعر بالهدوء والسكينة إلى جانبك، ولا حاجة لي بشيء آخر".
ما فائدة الصمت بين الزوجين؟
الصمت لغة قائمة بذاتها، سواء كان إعلاناً عن الشعور بالطمأنينة أو الحب. ونحن نعلم جيداً أن العشاق يتجاهلون الكلمات واللغة "الاجتماعية" التي توظَّف للاستدلال والتبسيط والتفاوض والتضليل وغير ذلك، ويحبّون ابتكار المفردات الخاصة بهم. وحالات الصمت إحدى هذه المفردات؛ أولاً لأنها تمثل الجانب الغامض في شخصيتَيّ الزوجين. تقول لبنى البالغة من العمر 37 عاماً: "أحبّ زوجي أسعد عندما يصمت لأن ذلك يذكرني بغموض شخصيته، مع أننا قد نتكلم كثيراً، ونروي الكثير من الأمور. لكن أحياناً لا تكفي الكلمات أبداً، وعندما نصمت جميعاً إلى درجة نسمع فيها أنفاسنا، فإنني أرتبك كثيراً، فيعود أسعد مرة أخرى ذلك الغريب الذي عرفته في البداية، ويخيفني من جديد. إنه شعور مثير"!
ويشكّل الاستغناء عن الكلام أحياناً أفضل وسيلة للحفاظ على مسافة معقولة بين الزوجين أو اتخاذها من أجل إثارة الرغبة والحبّ، الذي يتغذى كما نعرف على الحرمان والفراق. إنها طريقة لمقاومة الفخّ الطفولي الخطِر الذي يدفع نحو المبالغة في الالتحام بين الزوجين والمصارحة بينهما ("نبوح بكل شيء، سأعرف عنك وتعرف عنّي كل شيء"). تعبّر فيولين جيلي عن ذلك قائلة: "إن هذا الفخّ يمثل رغبة الزوجين في التحول إلى توأم في الرحم نفسه.
وهذا يحيل على الرغبة في مواجهة الإكراه الوجودي الذي يشعر به الإنسان: الوحدة؛ وكأن البوح "بكل" شيء سينهي شعورنا بالوحدة إلى الأبد. لكننا لا يمكن أن نفلت في الحقيقة من الوحدة الوجودية، وسيظل الآخر دائماً أجنبياً مهما كانت قوة الحبّ الذي يجمعنا، والأوقات التي قضيناها معه والكلمات التي تبادلناها".
كيف يتيح الصمت مساحة خاصة ضرورية؟
الصمت فرصة للزوجين تستدعي، مهما كان شكلها أو مدّتها، معرفة كيفية الحفاظ على الارتباط بينهما، فهما كائنان مستقلان لا يتوقفان عن الاستكشاف المتبادل واستقبال كل ما يعرفانه عن بعضهما بعضاً؛ بل وكل ما لن يعرفاه أبداً! لا علاقة لهذا الصمت "بالمسكوت عنه" الذي ينكشف أحياناً بعد سنوات، فيمزق العلاقة بين الزوجين ويؤدي إلى انفصالهما؛ إنما المقصود به تلك "الخصوصية" أو الحيّز الضروري لحياتنا النفسية منذ طفولتنا الأولى، والمرتبط بعالم تخيلاتنا ومصدر إبداعنا ورغبتنا، هذا الجانب الذي يحمينا من التطفّل والتعسّف والانصهار في الآخر؛ كما يبعدنا بما يكفي عن بعضنا بعضاً مهما كانت درجة الحميمية بيننا، من أجل الحفاظ على الرغبة في التقرب المتبادل بيننا.
تقول ماجدة البالغة من العمر 31 عاماً، والمتزوجة من كمال منذ أكثر من 10 سنوات: "أنا منفتحة إلى حد ما لكنني أعتقد أن التمكن من السكوت مسألة حياء ورِقّة؛ إذ ليس من المبَّرر أن نقول كل شيء، إنه تحدٍ مستمر يُضعف العلاقة ويثير المخاوف. والسكوت تعبير عن الثقة والوداعة لكن دون تكتُّم، وأعتقد أن البوح بكل شيء فوراً وباستمرار سلوك خاطئ لأن المهم هو إيقاع هذا البوح المتبادل". إنه في الواقع مزيج ذكي بين احترام الآخر واحترام الذات وبين الإصغاء إلى الآخر والانتباه إليه. وتضيف ماجدة: "الصمت تنفّس ولحظة استراحة وأخذ نفس ضروري مثل لحظات الصمت في الموسيقا".
الصمت لا ينفي الحب
عندما يسود الحبّ بين الزوجين فإن الصمت لا يكون نقيض الكلام؛ بل يمثل ذلك الحيّز البِكر الذي يمكن أن ينبع منه الكلام ويتردّد ويأخذ معناه. إنه لغة لوصف ما لا يوصف، تأخذ مكان الكلمات عندما تصبح عبثية بلا جدوى ودون معنى، وتهدد بإفساد سحر اللحظة.
يقول رائد الذي يبلغ 53 عاماً من العمر: "أمر عجيب أن يصبح الزوجان قادرين في لحظة من اللحظات على الاستغناء عن الكلمات فيتحوّلان إلى كائنين يتبادلان النظرات، ويتحدثان في صمت عن مشكلاتهما ويحلانها؛ إنها كيمياء رائعة". لذا فإن اللحظات الحميمية المهمة في حياة الزوجين غالباً ما تكون صامتة؛ مثل الاتصال الحسي والجسدي والروحي بينهما.
تذكر فيولين جيلي إن: "الكاتبة فرانسواز دولتو (Françoise Dolto) تقول إن الحبيبين يتحاوران في أثناء النوم بوساطة اللاوعي، فمن خلال الصمت نتحاور على مستوى آخر يتجاوز الكلمات، في تواصل لا يتأتّى إلا إذا شعرنا بالأمان التام". في عالم الصمت لا نختفي وراء الأسوار ولا نراوغ ولا نحضّر الردود الفورية. إن الصمت وجود أعزل وانفتاح دون قيود لا مفرّ فيه من التقرب من الآخر وتركه يتقرب منّا. وعلى الرغم من الضعف البالغ الذي يُشعرنا به فإننا نكون منفتحين إلى أبعد حد، تملأنا الحيوية وننبض بالحياة. "لقد كتب الشاعر الفرنسي أراغون في ديوانه "مجنون إلزا" (Le Fou d'Elsa)، عن الحبّ قائلاً:
"إنه سماع صمت الآخر، هذا النفَس الخفيف، هذه الجواهر اللّامرئية المختبئة وراء الشفتين، تلك الكلمات المكتومة في أحضان نظرة لا يراها إلا الحب. الحب الحقيقي هو أن تحبّ في صمت بالأفعال لا بالأقوال، فيغمرك صمت المحبّة الذي يصمّ الآذان".