الصمت لغة قوية ذات دلالات عديدة قد نسعى من خلالها إلى إرسال رسائلَ مهمة للآخرين؛ لكنه ليس واحداً في كل المواقف أو لدى كل الأفراد، فعلى الرغم من اختيار البعض الصمت رغبةً في ذلك؛ قد يصمت آخرون في بعض المواقف أو أمام بعض الأفراد نتيجة القلق الشديد، فيما يُعرف بالصمت الاختياري أو الانتقائي (Elective or Selective Mutism).
تتعدد أسباب هذا الصمت الاختياري، وقد يبدأ لدى الأطفال بسبب شعورهم بسوء فهم مَن حولهم لهم، وربما زيادة التوتر والقلق داخل بيئتهم؛ حيث يشعر الطفل في هذه الحالة أنه واقف على خشبة المسرح في كل دقيقة، ويلوذ بالصمت كوسيلة للتكيف مع الضغط والقلق الشديدَين.
ما الصمت الاختياري؟
الصمت الاختياري هو اضطراب قلق شديد لا يستطيع الشخص فيه التحدث في مواقف اجتماعية معينة، إلى زملائه في المدرسة أو أقاربَ لا يراهم كثيراً مثلاً، وهو عادةً ما يبدأ خلال مرحلة الطفولة المبكرة، بين سن 2-4 سنوات، وإذا تُرك دون علاج يمكن أن يستمر حتى مرحلة البلوغ ويطلق عليه "الخرس الاختياري" أيضاً.
وغالباً ما يُلاحظ الخرس الاختياري لأول مرة عندما يبدأ الطفل في التفاعل مع أشخاص خارج نطاق أسرته؛ مثل عندما يبدأ في الذهاب إلى الحضانة أو المدرسة.
يؤثر الخرس الاختياري في نحو 1 من كل 140 طفلاً، وهو أكثر شيوعاً بين الفتيات والأطفال الذين يتعلمون لغة ثانية؛ مثل الذين هاجروا مؤخراً من بلد ولادتهم.
والصمت الاختياري لا يعني عدم رغبة الشخص في الكلام في بعض المواقف بل عدم قدرته على فعل ذلك؛ حيث يولّد توقع التحدث إلى بعض الأشخاص مشاعر الذعر لديه، ويصبح التحدث أمراً مستحيلاً. وبمرور الوقت يتوقع الشخص المواقف التي تثير ردود الأفعال المؤلمة هذه، ويحاول تجنبها بشتى الطرق.
لا يعني ذلك أن هؤلاء الاشخاص يعانون من مشكلات الكلام بشكل عام، فهم قادرون على التحدث جيداً إلى أشخاص معينين مثل الأقارب والأصدقاء المقربين، عندما لا يكون هناك أي شخص آخر في الجوار لإثارة استجابة الذعر تلك.
أعراض الصمت الاختياري
يمكن للأطفال الذين يعانون من الصمت الاختياري التفاعل بشكل جيد في بيئة مريحة، فقد يصفهم الوالدان بأنهم صاخبون واجتماعيون وفضوليون في المنزل؛ لكن هذه الحالة من الخرس تنتج عن عدم قدرتهم على التحدث والتواصل بشكل مريح في بعض الأوساط الاجتماعية.
في كثير من الأحيان؛ يُظهر هؤلاء الأطفال علامات القلق قبل معظم الأحداث الاجتماعية وخلالها، وتظهر الأعراض الجسدية والسلوكية قبل الذهاب إلى المدرسة أو النزهات الاجتماعية؛ ما يعني أهمية إدراك أن هذه الأعراض ناتجة عن القلق وأن العلاج يحتاج التركيز على مساعدة الطفل على تعلم مهارات التأقلم لمكافحة هذه المشاعر.
تظهر العلامات التحذيرية الرئيسية لدى الطفل المصاب بالخرس الانتقائي في التباين الملحوظ في قدرته على التعامل مع أشخاص مختلفين، مقارنة بسكون مفاجئ وتعابير وجه متجمدة عندما يُتوقع منه التحدث إلى شخص خارج منطقة الراحة الخاصة به.
وتتمثل الأعراض السلوكية في:
- عدم التحدث أو الرد على أشخاص خارج نطاق العائلة؛ بمن في ذلك الأجداد ومقدمو الرعاية والمعلمون وزملاء الدراسة.
- عدم القدرة على التحدث إلى الوالدين في أماكن فيها أشخاص آخرون يمكنهم سماعه.
- تجنب التواصل البصري مع الآخرين والنظر بعيداً عندما يعتقد أنهم ينظرون أو يتحدثون إليه. وفي هذه الحالة يخفض صوته أو يهمس، أو يستخدم كلمات أقل، أو ينظر إلى الوالدين أو الشخص المقرب عندما يتحدث إلى شخص آخر.
- مواجهة صعوبة في الانضمام إلى اللعب أو الأنشطة مع الأطفال الآخرين وتكوين الصداقات.
- تجنّب الأنشطة التي تجعله محور الاهتمام؛ مثل التقاط صورة له أو ممارسة الرياضة أمام الناس.
- صعوبة طلب المساعدة من الآخرين؛ مثل إخبار شخص مقرب عن حدث يؤذيه أو طلب الذهاب إلى المرحاض.
كما يمكن للأطفال الأكثر ثقة الذين يعانون من الصمت الانتقائي استخدام الإيماءات للتواصل مثل هز رأسهم للإجابة بـ "نعم" أو "لا"؛ لكن الأطفال الأكثر تضرراً يميلون إلى تجنب أي شكل من أشكال التواصل.
بينما تتمثل العلامات الجسدية في:
- عدم القدرة على الحركة.
- الاضطراب والتوتر.
- الرجفة واحمرار الوجنتين.
- تسارع ضربات القلب أو تعرّق الأيدي أو ألم في المعدة.
ما أسباب الخرس الانتقائي؟
لا يزال السبب الرئيس للخرس أو الصمت الانتقائي غير واضح تماماً؛ لكنه غالباً ما يكون مرتبطاً بالقلق. من المهم أيضاً تحديد ما إذا كان هذا الصمت ناتجاً عن حالة صحية أخرى مثل إصابة في الدماغ، أو تابعاً لعمليات جراحية في المخ لإزالة الأورام.
في هذه الحالة؛ غالباً ما يستعيد الطفل قدرته على الكلام مرة أخرى بعد فاصل زمني لبضعة أيام، وقد يستمر لعدة أشهر أو أكثر، ويتبعه عسر التلفظ بحسب عالم النفس نيل غوردن.
إذا كان الطفل يعاني من اضطراب في الكلام أو مشكلة في السمع فيمكن أن يجعل ذلك التحدث أكثر إرهاقاً. وفي حال مواجهة الطفل مشكلة في معالجة المعلومات الحسية -مثل الضوضاء- فيما يُعرف بخلل التكامل الحسي؛ يكون أكثر انغلاقاً على ذاته وغير قادر على التحدث عند التواجد في البيئات المزدحمة.
ما الفرق بين الصمت الاختياري والصمت بعد الصدمة؟
وفقاً لمديرة مركز علاج قلق الصمت الانتقائي والاضطرابات ذات الصلة في بنسلفانيا، إليسا شيبون بلوم، فقد يتقاطع الصمت الاختياري مع كرب ما بعد الصدمة كعلامة للانسحاب ومحاولة للتكيف مع التوتر الناتج عن هذه المواقف؛ لكن هناك بعض الفروق.
فالأطفال الذين يعانون من الصمت الانتقائي يتحدثون في مكان واحد على الأقل، ونادراً ما يكونون صامتين في جميع البيئات؛ أي أنهم يستخدمون الصمت كوسيلة لتجنب مشاعر القلق التي تثيرها اللقاءات الاجتماعية.
بينما يظهر الصمت الاختياري في حالة كرب ما بعد الصدمة بشكل مفاجئ، ويكون مصاحباً لجميع المواقف، ويحدث نتيجة تعرّض الطفل لحدث صادم؛ مثل مشاهدة وفاة شخص عزيز أو حدث صادم آخر، ويكون غير قادر على معالجة الحدث فيلجأ إلى الصمت في جميع البيئات والظروف.
كما يفقد معظم الأطفال المصابين بكرب ما بعد الصدمة المهارات التنموية المكتسبة ومهارات التواصل بشكل عام، بالإضافة إلى الأفكار المتداخلة والمشوشة، والأحلام المزعجة المرتبطة بالصدمات، والذكريات الأليمة، بالإضافة إلى انخفاض الاهتمام بالأنشطة.
وبحسب دراسة من قسم طب الأطفال بمركز ماديجان الطبي العسكري في واشنطن، ففي حالة الصمت الاختياري الناتج عن صدمة؛ قد يكون توقف الكلام مع العالم الخارجي بمثابة آلية تكيف داخلية للطفل مع الحدث الصادم.
في هذه الحوادث، يبدو أن الطفل ينفصل بشكل لا إرادي دفاعاً عن النفس، ويُظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بسمات فصامية مثل الخدر، وتبدد الشخصية، وحجب الكلام.
الصعوبات المصاحبة للصمت الانتقائي
غالباً ما يعاني الطفل المصاب بالخرس الانتقائي من مخاوف وقلق اجتماعي آخر؛ كما قد يعاني أيضاً من صعوبات إضافية في الكلام واللغة، ويكون حذراً من فعل أي شيء يلفت الانتباه إليه لاعتقاده أنه من خلال القيام بذلك يتوقع الناس منه التحدث.
على سبيل المثال؛ قد يخشى الطفل تغيير روتينه تجنباً للتعرض لأي تعليقات أو أسئلة بخصوص ذلك؛ كما قد يواجه صعوبة في أداء الواجبات المنزلية أو موضوعات معينة لأنه غير قادر على طرح الأسئلة في الفصل.
بالإضافة إلى ذلك؛ قد لا يطور المراهقون المصابون بالصمت الاختياري الاستقلال لأنهم يخشون مغادرة المنزل دون مرافق.
علاج الخرس الانتقائي
لا يركز علاج الخرس الانتقائي على التحدث بحد ذاته؛ بل على تقليل القلق المرتبط بالكلام. وتعتمد فعالية العلاج على:
- مدة معاناة الشخص من الصمت الانتقائي.
- وجود صعوبات أو مخاوف إضافية في التواصل أو التعلم أو لا.
- تعاون كل من يشارك في تعليمهم وحياتهم الأسرية.
ومن أهم أنواع العلاج في حالات الصمت الاختياري، العلاج المعرفي السلوكي والأدوية. يبدأ العلاج بإزالة الضغط عن الشخص للتحدث، ثم التقدم تدريجياً بقول كلمات وجمل مفردة لشخص واحد في المدرسة أو المنزل، قبل أن يتمكن في النهاية من التحدث بحرية إلى جميع الأشخاص في جميع الأماكن.
1. العلاج المعرفي السلوكي
يساعد العلاج المعرفي السلوكي (CBT) على علاج الصمت الانتقائي، وهو أكثر ملاءمة للأطفال الأكبر سناً والمراهقين، لا سيما أولئك الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي. وهو يساعد على تعزيز السلوكيات المرغوب فيها مع استبدال العادات السيئة بأخرى جيدة، فبدلاً عن فحص ماضي الشخص أو أفكاره؛ يركز هذا العلاج على المساعدة في مكافحة الصعوبات الحالية باستخدام نهج تدريجي للمساعدة على تجاوز المخاوف.
تشمل التقنيات المستخدمة في العلاج المعرفي السلوكي:
- التعرض المتدرج: يتم التعامل مع المواقف التي تسبب أقل قدر من القلق أولاً؛ مثل الرد على الهاتف أو سؤال شخص غريب عن الوقت. ومع تكرار ذلك؛ ينخفض القلق المرتبط بهذه المواقف إلى مستوىً يمكن التحكم فيه.
- تلاشي المحفز: في هذه الحالة؛ يتواصل الشخص المصاب بالخرس الانتقائي في البداية مع شخص مقرب مثل أحد الوالدين في حالة عدم وجود أي شخص آخر، ثم يتم تقديم شخص آخر للمشاركة في الحوار، وبمجرد تضمينه في الحديث ينسحب الوالد.
- التكييف السلوكي: تتضمن هذه التقنية استخدام استراتيجيات تُنتِج لدى الشخص المصاب استجابة أقرب إلى السلوك المطلوب منه؛ مثل بدء القراءة بصوت عالٍ، ثم التناوب على القراءة، متبوعاً بألعاب القراءة التفاعلية، وأنشطة التحدث المنظمة، وأخيراً المحادثة ثنائية الاتجاه.
2. الأدوية
تكون الأدوية مناسبة للأطفال الأكبر سناً والمراهقين والبالغين الذين تفاقم قلقهم إلى اكتئاب ومشكلات أخرى، ولا ينبغي وصفها كبديل للتغيرات البيئية والأساليب السلوكية المطلوبة.
ومع ذلك؛ يمكن استخدام مضادات الاكتئاب جنباً إلى جنب مع برنامج علاجي لتقليل مستويات القلق، خاصة إذا فشلت المحاولات السابقة وحدها في علاج الفرد.
وأخيراً؛ يعتمد علاج الصمت الاختياري على تقليل مستويات التوتر لدى الشخص ومساعدته على الاندماج في بيئات مختلفة والتفاعل اجتماعياً دون خوف شديد، بتعليمه وسائل التكيف شيئاً فشئياً.
لذلك يجب على الآباء مساعدة طفلهم على ذلك الأمر وعدم دفعه فجأة لمواجهة مواقف تثير لديه القلق ويكون فيها عاجزاً عن التفاعل والتعامل الجيد، حتى لا يتفاقم الأمر لديه أو يأتي بنتائج عكسية.