هل تعيد الصدمات النفسية تشكيل ذاكرتنا؟ دراسة تجيب

10 دقائق
الصدمات النفسية
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

كشفت دراسة بحثية حديثة نشرتها مجلة علم الأعصاب (The Journal of Neuroscience) في مارس/آذار 2025 أن التعرض المتكرر للأحداث العاطفية القوية مثل الصدمات النفسية يغير نمط عمل الذاكرة، لا سيما في حالات اضطراب ما بعد الصدمة، حيث تخلق تلك الأحداث العاطفية الصادمة أنماط ذاكرة محددة تستقر في الدماغ وتترسّخ مع مرور الوقت، وإليكم في هذا المقال تفاصيل الدراسة البحثية، والعلاقة المعقدة بين الصدمات النفسية وأنماط الذاكرة.

وفقاً للدراسة: ما هو التغيير الذي تحدثه الصدمات النفسية في الذاكرة؟

أكدت الدراسة البحثية السابق ذكرها أن التعرض المتكرر للصدمات النفسية يؤثر تأثيراً قوياً في كيفية معالجة الدماغ لتلك الصدمات وذلك عبر طريقتين:

  1. الطريقة الأولى ترتكز على فكرة مفادها أنك في كل مرّة تمرّ بحدثٍ صادم، يجري ترميزه على نحو مُختلفٍ قليلاً في الدماغ بسبب تغيُّرات السياق أو عوامل أخرى، ما يُنشئ مساراتٍ متعددة للوصول إلى الذاكرة.
  2. الطريقة الأخرى هي أن التكرار يُعزّز أثر الذاكرة الأصلي، ويجعله أقوى في كلّ مرّة يُعاد تنشيطه.

وأوضح رئيس قسم علم النفس في جامعة هامبورغ (the University of Hamburg) ومؤلف الدراسة الرئيسي، لارس شوابي (Lars Schwabe)، أن معظم الدراسات البحثية السابقة تناولت تأثير الصدمة النفسية التي حدثت مرة واحدة، ولكن هذه الدراسة تتناول تأثير التعرض المتكرر للأحداث الصادمة في قدرة الذاكرة.

واستعان فريق البحث القائم على الدراسة بأكثر من 100 متطوع خضعوا لمسح دماغي باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، وخلال المسح، عُرض على المتطوعين سلسلة من الصور بترتيب عشوائي تشمل 30 صورة لأحداث عاطفية صادمة و30 صورة محايدة عاطفياً.

وكما هو متوقع، صُنفت صور الأحداث الصادمة على أنها أكثر سلبية وإثارة عاطفية من الصور المحايدة، ثم حُللت بيانات مسح الدماغ التي جُمعت في أثناء مهمة مشاهدة الصور، وأكدت نتائج الدراسة أن المشاركين تذكروا الصور الصادمة عاطفياً على نحو أكبر بكثير مقارنةً بالصور المحايدة، ما يُظهر ميزة الذاكرة العاطفية المعروفة، كما كشف تحليل مسوحات الدماغ أن اللوزة الدماغية والحُصين الأمامي أظهرا نشاطاً أكبر عندما شاهد المشاركون صور الأحداث العاطفية الصادمة.

وقد صرّح مؤلف الدراسة، لارس شوابي، أن التعرض المتكرر للأحداث العاطفية الصادمة، مقارنةً بالأحداث المحايدة عاطفياً، يؤدي إلى أنماط ذاكرة أكثر قوة واستقراراً، وهذه القوة في متانة الأنماط مدفوعة بالاستجابة الأولية لمركز المعالجة العاطفية الرئيسي في الدماغ وهو اللوزة الدماغية.

اقرأ أيضاً: لماذا تختلف استجابتنا للصدمات النفسية؟ وكيف نعالجها؟

ما هي الصدمة النفسية (psychological trauma)؟

وفقاً للجمعية الأميركية لعلم النفس (APA)، فإن الصدمة النفسية هي استجابة عاطفية لحدث مروع، مثل التعرض للاغتصاب، أو حدوث كارثة طبيعية، ويمكن أن تُسبب الصدمة النفسية مجموعة من المشاعر، سواءً فور وقوع الحدث الصادم عاطفياً أو على المدى الطويل، وفي هذه الحال قد يشعر الأشخاص المصدومون بالإرهاق أو العجز، كما يجدون صعوبة في استيعاب تجاربهم، علاوة على الشعور بمطاردة الذكريات المزعجة والقلق المستمر.

وعلى الرغم من أن معظم التجارب والأحداث الصادمة تنطوي على تهديدٍ للحياة أو السلامة، فإن أي موقف يُشعرك بالإرهاق والعزلة يُمكن أن يُؤدي إلى صدمة، حتى لو لم يتضمن أذىً جسدياً، ومن ثم فإن الأحداث الخارجية ليست هي التي تحدد إذا ما كان الحدث صادماً، بل تجربتك العاطفية الذاتية للحدث، فكلما زاد شعورك بالخوف والعجز، زاد احتمال إصابتك بالصدمة.

ويمكن القول إن هناك نوعين للصدمات النفسية والعاطفية وهما:

  1. الصدمة التي تحدث مرة واحدة مثل التعرض لهجوم عنيف أو كارثة طبيعية.
  2. التعرض المتكرر للأحداث العاطفية الصادمة مثل العنف المنزلي أو إهمال الطفولة.

كيف تُغير الصدمات النفسية بنية الدماغ؟

يمكن القول إن أحداث الحياة الصادمة لا تؤثر في سلوكك فحسب، بل يتغير دماغك استجابةً لها أيضاً، وعادة ما تتراوح آثار الصدمة العاطفية في الدماغ، حسب الحدث الصادم والشخص، بين طفيفة وشديدة، علاوة على ذلك تُغير الصدمة كيمياء الدماغ وبنيته، وخاصة اللوزة الدماغية، والحُصين، وقشرة الفص الجبهي:

1. تأثير الصدمة النفسية في اللوزة الدماغية

تؤدي اللوزة الدماغية دوراً محورياً في معالجة المشاعر، وخاصةً الخوف، وتكوّن الذكريات العاطفية، وتساعد الدماغ على الاستجابة للمُحفّزات العاطفية، علاوة على أنها تُنظّم استجابة الجسم للقتال أو الهروب التي تُعد ضرورية من أجل الحفاظ على حياتك في المواقف الخطرة، ولكنها قد تواجه مُشكلة عند تنشيطها بسبب الأحداث الصادمة، وذلك لأن تلك الأحداث المُجهدة تسبب زيادة نشاط اللوزة الدماغية، وإذا حُفزّت اللوزة الدماغية على نحو مفرط، فقد يتسبب ذلك في تفوق القلق على التفكير المنطقي، ما يؤدي إلى الذعر، ومع مرور الوقت تعجز اللوزة الدماغية عن العمل على نحو صحيح.

وإذا لم تعمل اللوزة الدماغية على نحو صحيح، فقد تعاني فرط اليقظة، حيث تُدرك باستمرار التهديدات المحتملة وتتوقع حدوث أسوأ السيناريوهات، ويُعد هذا عرضاً شائعاً في كل من اضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة.

2. تأثير الصدمة النفسية في الحصين

يرتبط الحُصين في المقام الأول بالذاكرة والتعلم، وقد أظهرت فحوص الدماغ أن وظيفة الحُصين تنخفض لدى المصابين باضطراب ما بعد الصدمة عند تعرضهم لشيء يُذكّرهم بالصدمة، ولا تتأثر وظيفة الحُصين بالصدمة فحسب، بل قد يتغير هيكله أيضاً تبعاً لمدى تأثرك بالصدمة، حيث وُجد أن المصابين باضطراب ما بعد الصدمة لديهم حُصين أصغر بكثير من أولئك الذين لم يعانوا الصدمات.

3. تغيرات قشرة الفص الجبهي الناتجة عن الصدمة

قشرة الفص الجبهي هي الجزء المسؤول عن الوظائف التنفيذية والتفكير والاستدلال، وقد وُجد أن الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة يعانون انخفاضاً في وظيفة قشرة الفص الجبهي ونشاطها عند تعرضهم لتذكيرات صادمة.

اقرأ أيضاً: كيف يتذكر جسمك الصدمات النفسية؟ وماذا تفعل لتخفيف أثرها؟

5 إرشادات تساعدك على التعافي من آثار الصدمات النفسية

تستمر أعراض الصدمة النفسية من بضعة أيام إلى عدة أشهر، وتتلاشى تدريجياً مع معالجة الحدث الصادم، ولكن حتى عندما تشعر بتحسن، قد تُزعجك من حين لآخر ذكريات أو مشاعر سلبية مؤلمة، خاصةً بصفتها رد فعل على مُحفزات مثل ذكرى الحدث أو شيء يُذكرك بالصدمة، وحتى تتعافى من آثار الصدمة النفسية حاول اتباع الإرشادات التالية:

1. اعترف بحدوث الصدمة النفسية

بعد الصدمة، قد تتردد في قبول الحدث الصادم، ومن ثم تنزلق في حالة من الإنكار وتتصرف كما لو لم يحدث شيء مهم، وعلى الرغم من ذلك، يجب أن تدرك جيداً أن تجاهل الحدث يوقف عملية التعافي ويحرمك الشعور بالثقة، لذلك اعترف بحدوث الصدمة النفسية وتأمل الموقف، سوف يكون الأمر مزعجاً بالتأكيد، ولكن الشفاء لن يأتي دون الشعور المؤقت بعدم الراحة.

2. حرّك جسدك

تُخلّ الصدمة بتوازن جسمك الطبيعي، وتُجمّدك في حالة من الإثارة المفرطة والخوف، هذا إلى جانب إفراز هرمونات التوتر، ولهذا عليك ممارسة التمارين الرياضية قدر استطاعتك حتى تتمكن من إصلاح جهازك العصبي. على سبيل المثال، يمكنك ممارسة المشي مدة 30 دقيقة أو الرقص في المنزل إذا كنت لا ترغب في الخروج إلى الشارع.

3. أحط نفسك بالأشخاص الداعمين

حين تتعرض إلى حدث صادم قد ترغب في الانعزال عن الآخرين والبقاء وحيداً بصحبة ألمك النفسي، ولكن دعني أخبرك أن العزلة تزيد الأمر سوءاً؛ إذ تغمرك بمشاعر الحزن واليأس والانخراط في المشاعر السلبية والتفكير فيها مراراً وتكراراً، علاوة على ذلك، يؤكد المختص النفسي إبراهيم الحكمي أن الصدمة النفسية قد تسلب الشخص القدرة على الشعور بالقرب من أي إنسان آخر، لأن الذي يعانيها غالباً ما يكون لديه شعور داخلي أنه سيئ بالفطرة، بل أن جميع من يقدّره ويحترمه قد خُدع به، وسوف يكتشف تلك الحقيقة قريباً.

ولكن على الرغم من ذلك، لا تستسلم لتلك الأفكار، وحاول قدر الإمكان إحاطة نفسك بالأشخاص الداعمين وتجنب قضاء الوقت بمفردك، ويمكن القول إن قضاء الوقت بصحبة أصدقائك وأفراد عائلتك لا يعني بالضرورة الحديث معهم عن الصدمة التي تعرضت لها، ولكن من المهم أن تشعر بأن ثمة شخصاً تشاركه مشاعرك وجهاً لوجه، شخصاً ينصت إليك بانتباه دون إصدار أحكام.

4. عُد إلى روتينك اليومي

يمكن أن تؤثر الأحداث الصادمة في كل جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك أفكارك ومشاعرك وسلوكك اليومي، وقد تشعر بالانفصال عن روتينك وحياتك الواقعية قبل التعرض للصدمة، ولذلك عليك العودة إلى روتينك وعاداتك القديمة لأنها ستساعدك على البقاء متماسكاً ومستقراً، وذلك عوضاً عن الانزلاق في فخ الحزن والاكتئاب.

اقرأ أيضاً: دليلك لتعزيز مرونتك النفسية ضد الصدمات

5. اطلب المساعدة من الطبيب النفسي

إذا لم تتمكن من التعافي عليك طلب المساعدة من الطبيب النفسي الذي يعد متخصصاً في التعامل مع الصدمات النفسية. مع مرور الوقت سوف يساعدك الطبيب المتخصص على التعرف إلى محفزاتك والتعرض لها على نحو تدريجي في بيئة آمنة، وذلك من أجل بناء شعور بالأمان والاستقرار في حياتك، بالإضافة إلى استعادة قدرتك على العمل بكامل طاقتك بعد الشفاء.

المحتوى محمي