حقائب تتخلف عن أصحابها وطوابير ممتدة من المسافرين لا يُرى آخرها، والكثير من الرحلات تُلغى بشكل مفاجئ، مشاهد جمعت بين أشهر مطارات أوروبا وأميركا ضمن أزمة يشهدها قطاع صناعة الطيران. يؤكد المسؤول التنفيذي بإحدى وكالات السفر الأميركية مارك كاستو، أنها لم تحدث في الخمس وعشرين سنة الأخيرة، فجميع القطاعات تعاني من نقص العمالة.
دعني أخبرك لتستوعب أبعاد الأزمة أكثر. أُلغيت 15,700 رحلة في شهر أغسطس/ آب القادم على مستوى أوروبا نتيجة إضرابات عمال المطارات التي لا تتوقف؛ مثل إضراب عمال مطار شارل دو غول ( Charles de Gaulle) الفرنسي في مطلع شهر يوليو/ تموز مطالبين بزيادة رواتبهم التي يرون أنها لا تتناسب مع التضخم الاقتصادي الحاصل، وكذلك إضراب عمال مطارات إيطاليا يوم 17 يوليو/ تموز الذي استمر 4 ساعات مسبباً إلغاء 500 رحلة.
الصحة النفسية للطيارين متدهورة وشركات الطيران تغض النظر
يمكن اعتبار الأزمة السابقة الجزءَ الظاهر؛ إنما الأزمة الخفية هي التي أشار إليها باحثو أحد مشاريع جامعة دبلن الأيرلندية الذي يدرس أثر الضغط النفسي في الطيارين، وأكّدوا أن شركات الطيران تتجاهل الصحة النفسية للطيارين في سبيل سعيها إلى إعادة حركة الطيران لوضعها الطبيعي، وتعويض الخسائر الناتجة عن فترات التوقف.
يحدث ذلك رغم أن العديد من الطيارين يعانون من القلق والتوتر والاكتئاب الناتج عن فترة الإغلاق التي صاحبت أزمة كوفيد-19، وذلك قد يؤدي لظهور مشكلات لاحقة تتعلق بسلامة الطيارين أو أمان الرحلات.
ليس مرتَّباً مغرياً فقط، ماذا يعني أن تعمل طياراً؟
ينظر الكثيرون إلى وظيفة الطيار على أنها من الوظائف المرموقة التي تضمن دخلاً مرتفعاً ونمط حياة راقياً< لكن على الجانب الآخر نجد أنها حلت في المرتبة الثالثة ضمن قائمة فوربس لأكثر الوظائف إرهاقاً.
يرجع ذلك بحسب رئيسة قسم علم السلوك بجامعة إمبري ريدل الأميركية للطيران (Embry-Riddle Aeronautical University) إيرين بوين (Erin Bowen)، إلى كونها وظيفة ذات عواقب مرتفعة، فأي خطأ يرتكبه الطيار يمكن أن تكون تكلفته باهظة.
وهو أمر يشكل مصدر توتر للطيارين، ومنهم الطيار الأميركي تيري ديتز (Terry Deitz) الذي يؤكد انشغال عقله خلال الرحلات بمسؤوليته عن الركاب الذي يجلسون وراءه. ليس ذلك فحسب؛ بل ويصل به الأمر إلى التفكير في حال عائلاتهم إذا ما حدث لهم مكروه.
يشرح ديتز أبعاد وظيفتهم أكثر بالإشارة إلى أنها غير مستقرة، وتتطلب منهم قضاء الكثير من الوقت بعيداً عن منازلهم وعائلاتهم، إلى جانب اختلاف المناطق الزمنية بين البلدان التي يسافرون إليها، وتأثير ذلك سلباً في الصحة النفسية للطيارين واستقرار نومهم.
ورغم أن معظم الرحلات الجوية تكون سلسلةً نتيجة تطور تكنولوجيا الطيران؛ لكن ذلك لا يلغي صعوبة عمليتيّ الإقلاع والهبوط اللتان يتطلبان رفع مستوى انتباه الطيار وتركيزه إلى أقصى درجة، ويكون مستعداً خلالهما لأسوأ شيء يمكن أن يحدث.
وظيفتك ليست مضمونة
عند إمساك خيوط أزمة الطيران العالمية من نهايتها، سنجد أنه بلغة أرقام شركة أوليفر وايمان (Oliver Wyman) الأميركية للاستشارات الإدارية فإن الأسوأ لم يأتِ بعد، لأنه بحسب تحليلاتها سيبلغ نقص الطيارين ذروته عام 2025 بعدد قدره 34 ألف طيار.
لكن ما الذي غيّر ملامح المشهد بهذا الشكل؟ بدأت الحكاية في ذروة وباء كوفيد-19 عندما أغلقت مطارات العالم أبوابها واصطفت الطائرات على مدرجاتها وهدأ ضجيج محركاتها. حينها أعلنت شركات الطيران وفقاً لشبكة بلومبرغ (Bloomberg)، عن فصل قرابة 400 ألف موظف أو إعطائهم إجازة مفتوحة، أو إبلاغهم أنه من المحتمل فقدان وظائفهم نتيجة جائحة كوفيد-19.
وفقاً لاستطلاع أجرته شركة جوسي البريطانية (GOOSE Recruitment Company) للتوظيف المتخصصة في قطاع صناعة الطيران؛ ذلك الانقلاب المفاجئ في حال الطيارين جعلهم يشعرون بعدم الأمان الوظيفي وعدم التقدير من جانب أصحاب الشركات التي يعملون فيها؛ ما دفع بعضهم للبحث عن وظائف جديدة، بالإضافة إلى أن هذا التغير غير المتوقع أثر سلباً في الصحة النفسية لـ 40% من المشاركين في الاستطلاع.
يؤكد المركز البريطاني لعلم نفس الطيران ضمن تقريره الصادر في أبريل/ نيسان 2022، حدوث أزمة ثقة بين الطيارين وشركاتهم جعلت حتى من عاد للعمل مع شركته يشعر بالرغبة في العودة إلى فترات الراحة من السفر مرة أخرى، إلى جانب الاستياء المتراكم من المعاملة غير اللائقة التي لاقاها خلال فترة الوباء، فقد اتضح له أنه يمكن الاستغناء عنه بسهولة عند أول أزمة.
تعليمات مشدَّدة للوقاية يُفصل من يخرقها
بحكم أن الطيارين يتنقلون بين بلدان عديدة فقد فُرضت عليهم قيود مشدَّدة خلال فترة رفع الإغلاق تدريجياً، وصلت في تايوان على سبيل المثال إلى حد منعهم لأسبوعين بعد العودة من الرحلات من حضور المناسبات الاجتماعية أو دخول المطاعم أو دور السينما.
أدى ذلك إلى تخوف الكثير من الطيارين من إصابتهم بالاكتئاب، نتيجة الاجراءات المشددة المتَّبعة معهم من ناحية، والتمييز الذي واجهوه من المجتمع من الناحية الأخرى، بنظرته إليهم على أنهم أحد أسباب إدخال الوباء للبلاد.
تجاوزت تلك التخوفات حدود تايوان، فقد أكد مسح أجرته جامعة دبلن الأيرلندية في أغسطس/ آب عام 2020 وشمل أكثر من ألفيّ طيار، أنهم عانوا من القلق والاكتئاب أكثر من عامة الناس خلال فترة الوباء.
رغم تلك المعاناة إلا أن شركات الطيران لم تتوانَ عن تنفيذ أقصى العقوبات على من خرق التعليمات الخاصة بالحجر الصحي، فقد فصلت إحدى شركات الطيران الصينية ثلاثة طيارين ثبت تركهم غرفهم الفندقية أثناء فترة الراحة بين رحلتين في مدينة فرانكفورت؛ ما أدى إلى إصابتهم بالفيروس لاحقاً.
ربما يكون الاعتراف باضطراب الصحة النفسية للطيارين مكلِفاً
كشفت دراسة علمية أجرتها جامعة هارفارد الأميركية عام 2016 أن الصحة النفسية للطيارين بشكل عام ليست في أحسن حالاتها، فمن بين 1850 طياراً خضعوا للدراسة كان منهم 12.6% مصايون بالاكتئاب، أما النتيجة الأخطر فهي وجود 4.1% من الطيارين لديهم أفكار انتحارية.
يجعلنا ذلك نعود بالذاكرة إلى عام 2015 عندما عمد الطيار الألماني أندرياس لوبيتز (Andreas Lubitz) إلى تحطيم طائرته عن طريق الاصطدام بجبال الألب؛ ما أسفر عن مقتل جميع الركاب البالغ عددهم 150 شخصاً، وتوصل التقرير النهائي للحادث لاحقاً إلى أن الطيار عانى من اضطراب نفسي أخفاه عن شركة الطيران التي عمل بها، وكان يتناول العقاقير النفسية حتى الأيام الأخيرة قبل انتحاره.
لكن رغم هذا الحادث الأليم فإن شركات الطيران حتى اليوم لا تتحقق من الصحة النفسية للطيارين قبل إقلاعهم، بينما تدقق بشدة عند فحص الحالة الميكانيكية للطائرات، ويؤكد ذلك كواي سنايدر (Quay Snyder) المشرف على قمة المؤسسة الأميركية لسلامة الطيران عام 2022.
يكمن السر في الخوف من فقدان رخصة الطيران، فوفقاً لدراسة أجراها مركز بروك الطبي العسكري بأميركا؛ يتجنب 56% من الطيارين الحصول على الرعاية الصحية الرسمية خوفاً من تأثير ذلك في مسيرتهم المهنية، وهذا ما جعل 45% منهم يسعون للحصول على رعاية طبية غير رسمية حتى يكونوا في أمان، إلى جانب حجب 26% منهم بعض المعلومات عن الاستبيان الرسمي للرعاية الصحية.
وبحسب الموقع الرسمي لإدارة الطيران الفيدرالية؛ هناك بعض الأمراض النفسية التي يُستبعد الطيار المصاب بها من العمل على الفور مثل الذُّهان والاضطراب ثنائي القطب، وكذلك بعض اضطرابات الشخصية.
ماذا فعلت جائحة كوفيد-19 بالصحة النفسية للطيارين؟
نجحت دراسة علمية أجرتها جامعة كومبلوتنسي الأسبانية في تقديم شرح مفصَّل حول التأثير الذي أحدثته جائحة كوفيد-19 في الصحة النفسية للطيارين.
فقد توصلت إلى أن الحالة الوظيفية للطيار عامل مهم للغاية، فهناك 84.4% من الطيارين العاطلين عن العمل أكدوا معاناتهم من الضغط المستمر، بينما عند سؤال المجموعة التي خضعت للدراسة عن شعورهم بالحزن والاكتئاب أجاب 31% من الطيارين الذين ما زالوا في الخدمة بالإيجاب؛ لكن النتيجة المثيرة للتوقف أن 40% من الطيارين الذين فقدوا عملهم فقدوا معه ثقتهم في أنفسهم.
تؤكد ذلك اختصاصية علم نفس الطيران الطبيبة إدما نداف (Edma Naddaf) بقولها إن تأثير الوباء في الطيارين كان جسدياً ونفسياً، وجعلها تشاهد مشكلات تتعلق بالثقة في النفس لدى طيارين عُرفوا بالكفاءة والاحترافية.
هناك تغير مهم أيضاً طرأ على حياة الطيارين خلال فترة الإغلاق، هو أن بعضهم وجدوا أنفسهم غير مستعدين لقضاء وقت غير متقطع مع شركاء حياتهم مثلما كان يحدث أثناء عملهم؛ ما أدى أحياناً إلى حالات انفصال، أو حدوث توترات في العلاقة أثرت في استقرارهم النفسي.
أخطاء فادحة غير متوقَّعة!
(يُعتبر العامل البشري عامل الخطر الأساسي الآن في مجال الطيران)
* التقرير السنوي لشركة "أي أو إن" البريطانية للتأمين (AON Insurance Company)- عام 2016
بالتزامن مع العودة إلى جدول طيران مزدحم بالمقارنة مع الوضع خلال ذروة الجائحة، ارتكب الطيارون أخطاء كارثية، فأحدهم نسي تشغيل المحرك الثاني للطائرة عند إقلاعها وكان سيُحدث كارثة؛ لكن الأمر مر بسلام، وآخر بعد توقفه سبعة أشهر عن الطيران لم ينزل العجلات أثناء هبوط الطائرة، واكتشف ذلك على بعد 240 متراً من المدرّج؛ ما جعله يعيد الإقلاع.
الحوادث السابقة وفقاً لعالم النفس بول ديكنز (Paul Dickens)، متوقَّعة عند ابتعاد الطيار عن العمل لفترة طويلة، فهو يرى أن مهارات أي شخص لا يستخدمها عملياً لفترة حتماً ستتدهور. لذلك يحتاج الطيارون إلى القيام بعدد معين من عمليات الإقلاع والهبوط كل 90 يوماً للحفاظ على مهاراتهم، وإلا فإنهم سيفقدون وعيهم الظرفي الذي يعني استيعابهم الجيد للعناصر المتعلقة بالزمان والمكان؛ ما يجعلهم يعانون في اتخاذ القرارات وحل المشكلات، وذلك يزيد احتمالية ارتكابهم للأخطاء.
وبحسب التقارير الرسمية لم تعد تلك الحوادث فردية، فقد أصدر الاتحاد الدولي للنقل الجوي تقريراً في يوليو/ تموز 2020 أشار فيه إلى أن عمليات الهبوط التي كانت فيها سرعة الطائرة أو اتجاهها أو معدل هبوطها خاطئين، تضاعفت بالمقارنة مع المستويات المعتادة قبل الجائحة. كذلك نشرت شركة الطيران الوطنية الأسترالية كانتاس مذكرة تسربت للصحافة تضمنت الأخطاء التي ارتكبها طياروها نتيجة توقفهم لفترات طويلة، كان أبرزها بدء عملية الإقلاع مع تشغيل الفرامل.
لا يهدف هذا المقال إلى إخافتك من السفر بالطائرة؛ إنما هو محاولة لرصد تأثير جائحة كوفيد-19 في الصحة النفسية للطيارين من واقع دراسات وأبحاث علمية، فمعظم البشر يعانون من تبعات الجائحة النفسية بشكل أو بآخر؛ لكن المهم هو السير في طريق التعافي، ولنتذكر دوماً أن أولى خطوات حل المشكلة هي الاعتراف بوجودها.