كيف تؤثر رحلات رواد الفضاء في صحتهم النفسية؟

الصحة النفسية لرواد الفضاء
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تسبب العزلة الاجتماعية واضطرابات النوم والأشعة الكونية وغيرها من العوامل العديد من الأضرار بالصحة النفسية لرواد الفضاء.

يومَ 21 مايو/ أيار من عام 2023، انطلق أول رائدَيّ فضاء سعوديَّين، ريانة برناوي وعلي القرني، إلى محطة الفضاء الدولية في مهمة استغرقت 10 أيام وانتهت بعودتهم يوم 31 مايو/ أيار، منضمين بذلك إلى رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي؛ الذي بدأ مهمته التي تستغرق 6 أشهر يومَ 3 مارس/ آذار من عام 2023.

وبالطبع، لطالما كان استكشاف الفضاء مهمة تنطوي على شرف كبير، وعلى الكثير من التدريبات المعقدة أيضاً؛ سواءً كانت فحوصات طبية أو تدريبات بدنية أو تدريبات على التجارب أو الصيانة. لكن، هل فكرت سابقاً في الوجه الآخر لرحلات استكشاف الفضاء؟

العيش في علبة معدنية طافية على بُعد مئات الكيلومترات من الأرض، بعيداً عن العائلة والأصدقاء والطعام الطازج والطبيعة الخضراء، في بيئة قاسية معزولة أقل ما يُقال عنها إنها غير مضيافة للبشر، بالإضافة إلى مهمات مُجهدة ومخاطر جليّة قد تنشأ في لمح البصر؛ كيف ستؤثر هذه العوامل في الصحة النفسية لرواد الفضاء؟

كيف تؤثر رحلات رواد الفضاء في صحتهم النفسية؟

توصلت مراجعة منشورة في مجلة علوم الحياة في أبحاث الفضاء (Life Sciences in Space Research) عام 2021 عن الصحة النفسية لرواد الفضاء في المهمات المأهولة، إلى أن رواد الفضاء الذين يذهبون في مهمات مأهولة طويلة الأمد قد يواجهون مجموعة متنوعة من التحديات التي قد تؤثر في صحتهم المعرفية والنفسية، وقد نفذتها مجموعة من الباحثين الدوليين المنتسبين إلى المجلس الاستشاري لجيل الفضاء (Space Generation Advisory Council)؛ ومن ضمنهم أستاذ علم النفس من الجامعة الأميركية في بيروت، ريان عبد الباقي (Rayan Abdelbaki).

تشمل هذه التحديات جدول أعمالهم، والصراعات الشخصية والثقافية، والجاذبية الصغرى، والتعرض للإشعاع على المدى الطويل، والعزلة الشديدة، والوحدة، ومحدودية الاتصالات الاجتماعية، ونقص الدعم من الأرض بسبب تأخر الاتصال، وزيادة الحنين إلى الوطن. وعموماً، إليك كيف تؤثر هذه العوامل في الصحة النفسية لرواد الفضاء:

1. العزلة

يؤثر كل من العزلة الاجتماعية والحبس والانفصال الطويل عن العائلة والأصدقاء في الصحة النفسية لرواد الفضاء. ووفقاً لوكالة الفضاء الكندية؛ على الرغم من إقامة رواد الفضاء علاقات قوية مع أفراد الطاقم الآخرين، فإن التفاعلات الاجتماعية ما زالت محدودة، فالطاقم القليل العدد والبُعد عن الأرض يجعلان الاتصالات صعبة؛ ما يحد من التواصل مع العائلة والأصدقاء ويزيد الشعور بالعزلة.

وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي، وتَضاعف سرعة الإنترنت على متن محطة الفضاء الدولية مؤخراً، واستعدادات رواد الفضاء مسبقاً، فإن العزلة ما تزال مصدر قلق رئيساً.

وبالطبع، مثل رواد الفضاء كمثل أي شخص آخر على وجه الأرض، فهم معرضون للمعاناة من الاكتئاب أو الملل أو الوحدة، ومن المرجح أن تتفاقم هذه المشاعر خلال مهمات الفضاء السحيق المستقبلية، وذلك عندما يصبح الاتصال مع قاعدة التحكم والأحبة على الأرض أقل تواتراً. ومن الآثار السلبية التي قد يواجهونها بالإضافة إلى الاكتئاب: التوتر والقلق والتعب وسرعة الانفعال وتقلب المزاج والحساسية والضيق العاطفي.

ووفقاً لدراسة منشورة في مجلة الطب النفسي العصبي السريري (Clinical Neuropsychiatry)؛ فإن عدم تجانس طاقم رواد الفضاء من حيث العدد والخلفية العرقية واللغات والأدوار قد يؤدي إلى الشعور بالتوتر ونشوء مشكلات عديدة في التواصل وتفاعلات شخصية سلبية غالباً ما تُربط بأعراض القلق.

ناهيك بأن المحطة الفضاء الدولية قد تؤثر في الرفاه العام لرواد الفضاء، فالضوء والضوضاء والاهتزاز ودرجة الحرارة وأنشطة الطاقم، بالإضافة إلى مشكلة الخصوصية التي قد لا تُحترم دائماً على نحوٍ كافٍ نظراً لمحدودية المساحة المتاحة والبيئة الخاصة، كلّها ذات تأثيرات نفسية جمّة.

في الواقع، أُبلغ عن العديد من المشكلات المزاجية التي أصابت رواد الفضاء؛ ومن أشهر هذه القضايا ما حدث في المهمة السوفييتية سويوز T14-ساليوت 7 (Soyuz T14-Salyut 7) التي أُلغيت فجأةً عام 1985 نتيجة ما يُعتقد أنه ناتج جزئياً من اكتئاب الطاقم.

وحتى برنامج الفضاء الأميركي لم يخلُ من الصعوبات؛ ففي مهمة سكايلاب 4 (Skylab 4)، أدى كل من ساعات العمل الطويلة والإرهاق والخلافات مع مركز التحكم إلى قيام الطاقم بإغلاق جهاز الراديو، وقضاء يوم كامل في تجاهل وكالة ناسا في أثناء مشاهدة سطح الأرض.

لذلك؛ ومنذ بدأ العالم يوجه ناظريه نحو المريخ في رحلات فضائية طويلة الأمد، بدأ العلماء بدراسة آثار الحبس والعزلة الطويلة في الصحة النفسية لرواد الفضاء، وذلك في بعثات تحاكي البعثات الفضائية، وقد استمرت أطول هذه التجارب لمدة 520 يوماً من العزلة؛ حيث لاحظ الباحثون أن ضغوط الإجهاد المستمر تؤثر في أفراد الطاقم بمرور الوقت حتى يصبح الأفراد الأكثر تضرراً مصدراً للنزاع والخلافات.

2. اضطرابات إيقاع الساعة البيولوجية

تُعد قلة النوم واضطرابات الساعة البيولوجية من الأسباب الرئيسة لتأثير رحلات الفضاء في الصحة النفسية لرواد الفضاء؛ وهي ظاهرة درسها عالم الأبحاث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الدكتور أندرو ليو (Andrew Liu)، على نطاق واسع.

ووفقاً لليو؛ فإنه بمجرد الصعود إلى الفضاء، لن يكون ثمة بالضرورة نظام الـ 24 ساعة الذي نعمل به على الأرض نفسه؛ وإنما على رائد الفضاء أن يحدد جدول نومه إما اصطناعياً وإما عبر اكتشاف طريقة ما للحفاظ على جدوله السابق.

وبصفة عامة، قد يعاني رواد الفضاء من اضطراب في النوم ليس بسبب اختلاف دورة الضوء والظلام فحسب؛ وإنما أيضاً بسبب الضوء الاصطناعي لمحطة الفضاء. ويوضح ليو إن الرواد الذين يعانون اضطرابات الساعة البيولوجية أو ينامون أقل من اللازم باستمرار، سيعانون انخفاضاً في الأداء الذهني وضعفاً في التركيز واليقظة وضرراً جسيماً في صحتهم النفسية وصولاً إلى الاكتئاب.

3. الأشعة الكونية

من القضايا التي تتعلق بالصحة النفسية لرواد الفضاء والتي أُبلغ عنها كثيراً هي حالات الهلوسة المتكررة. ففي مهمات أبولو المبكرة، أبلغ رواد الفضاء عن ومضات منتظمة أو شرائط من الضوء تبدو أنها تخرج من العدم، وقد وصفها رائد الفضاء دون بيتت (Don Pettit) عام 2012، أنها ومضات من الضوء تبدو مثل جنّيّات مضيئة تتراقص، وقد جذبت هذه الومضات اهتماما علمياً كبيراً وسلسلة من التجارب خلصت إلى أنها ناتجة من الأشعة الكونية؛ فالجسيمات الدون الذرية المتحركة التي تنتج من النجوم البعيدة تُمتص من قبل الغلاف الجوي للأرض؛ لكنها تؤثر في الخلايا العصبية للجهاز البصري مسببة تأثير الجنيات الراقصة في الفضاء.

ولعل الأمر الأكثر خطورة هنا أن الهلوسة قد تسبب انهيار تماسك الطاقم وتعيق أداء المهمات، ففي عام 1976، أُعيد طاقم المهمة الروسية سايوز-21 مبكراً إلى الأرض بعد إبلاغه عن وجود رائحة كريهة على متن محطة الفضاء الدولية. ومع ذلك، لم يُعثر لاحقاً على أي رائحة أو مشكلات فنية، وقد أدت التقارير اللاحقة عن القضايا الشخصية والمشكلات النفسية في الطاقم إلى استنتاج من وكالة ناسا مفاده أن الرائحة كانت مجرد هلوسة.

بالإضافة إلى ذلك، افترضت إحدى الدراسات المنشورة في دورية التقارير العلمية (Scientific Reports) درست تأثير الإشعاع الكوني الطويل الأمد في الفئران، أن التعرض للإشعاع الكوني في الرحلات الفضائية الطويلة الأمد مثل رحلة استكشاف المريخ مثلاً، قد يؤثر في الوظائف الإدراكية لرواد الفضاء.

إذ وبسبب تأثيرها في وظائف الجهاز العصبي المركزي؛ فإن الأشعة الكونية قد تُضعف القدرة على إبداء ردود الأفعال المعتدلة تجاه بعض المحفزات غير السارّة؛ ما قد يؤدي إلى زيادة التوتر والقلق والاستجابات غير المواتية في المواقف غير المتوقعة أو الطارئة، وقد تؤثر سلباً في عملية اتخاذ القرارات في أثناء العمليات العادية أو في المواقف العصيبة.

4. الجاذبية الصغرى

إذاً؛ قد يؤدي العيش بعيداً عن الأرض مع القليل من وسائل الراحة والكثير من الوظائف المجهدة إلى ضغوط نفسية لا تُعَد ولا تُحصى، هذا بالاضافة إلى وجود عامل آخر قد يؤثر في الصحة النفسية لرواد الفضاء؛ ألا وهو عمل الدماغ نفسه.

فقد وُجد أن عمل العديد من القدرات الذهنية الأساسية مثل الانتباه وتبديل المهمات والتنسيق الجسدي وحل المشكلات يكون أقل كفاءة في الفضاء، ومن المحتمل أن يكون الجهد البدني المنخفض لرواد الفضاء عاملاً مسهماً في ذلك؛ فالتقييد الشديد للنشاط البدني يؤدي إلى تقليل القدرات الذهنية بمرور الوقت حتى على سطح الأرض.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لتأثير البيئة الخالية من الجاذبية في تدفق الدم دور مهم أيضاً؛ لأنها تؤثر في مدى كفاءة تزويد الدماغ بالأوكسجين. وفي الواقع، أشار العديد من الأبحاث إلى أن الدماغ يغير طريقة عمله مع تلاشي الجاذبية.

لكن وعلى الرغم من أن انخفاض القدرات الذهنية لرواد الفضاء بفعل انعدام الجاذبية قد لا يكون أمراً خطيراً، فقد يؤدي إلى زيادة صعوبة إدارة حالات الطوارئ جنباً إلى جنب مع التوتر.

ما الحلول المقترحة لتقليل الضغط النفسي على رواد الفضاء؟

في الواقع، ليست الرحلات الفضائية جميعها ذات تأثير سلبي في الصحة النفسية؛ بل على العكس، قد تكون في بعض الأحيان تجربة تعزز الصحة النفسية والرفاهية. على سبيل المثال؛ وجدت دراسة استقصائية أُجريت عام 2006 أن السفر إلى الفضاء قد يكون تجربة ذات تأثيرات إيجابية دائمة عند العديد من رواد الفضاء.

ومع ذلك، تركز وكالة ناسا على الحد من مخاطر حدوث أي مشكلات تتعلق بالصحة النفسية في أثناء رحلات الفضاء؛ ولذلك تُخضِع المرشحين من رواد الفضاء إلى ساعات عديدة من المقابلات النفسية والتقييمات، وتوظف فريقاً من مقدمي خدمات الصحة النفسية؛ بمن فيهم الأطباء النفسيين وعلماء النفس لدعم الأفراد خلال البعثات الفضائية.

إذ وبالإضافة إلى فحص مشكلات الصحة النفسية، تهدف الوكالة إلى تعزيز رفاهية الرواد من خلال الدعم النفسي والاجتماعي. أما وفي حال فشلت هذه الوسائل كلها في الدعم النفسي، فقد تلجأ ناسا إلى حلول أخرى من أجل التعامل مع أزمة الصحة النفسية في الفضاء؛ حيث تحتوي محطة الفضاء الدولية على مضادات الذهان ومضادات الاكتئاب والأدوية المضادة للقلق في مجموعات الأدوية الخاصة بها؛ وذلك لاستخدامها عندما تستدعي الضرورة.

المحتوى محمي !!