الحب والصداقة: عندما تختلط المشاعر

الحب والصداقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد يكون هناك تقارب شديد بين بعض الأصدقاء، إلى درجة تصبح فيها المشاعر بينهما مختلطة، ويصعب تمييزها فيما إذا كانت حباً أو صداقة؛ ولكن لماذا يكون الخط الفاصل بين الحب والصداقة غير واضح في بعض الأحيان؟ وكيف نتأكد من طبيعة مشاعرنا؟ دعونا نستكشف هذا الأمر.

“بخلاف كل حديثي وما يمكنني قوله على وجه الخصوص؛ لا أعرف ما هي القوة المميتة الغامضة التي جلبت هذا الاتحاد. كان كل منا يبحث عن الآخر قبل أن يعثر عليه.”. ماذا يتبادر إلى ذهنك عند قراءة السطرين السابقين؟ ربما تظن أنه وصف لعلاقة حبّ بين أبطال أحد القصص؟ أنت مخطئ! هذه الأسطر القليلة هي جزء من مقالٍ للفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين عن الصداقة “ألف ليلة وليلة” (Mille et Une Nuits)؛ والذي ما زلنا نتذكر منه كلماته: “لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا”، وهو يقصد هنا صديقه إتيان دي لا بويتي.

الحد الفاصل بين الحب والصداقة دقيق جداً أحياناً، وأوجه الشبه بينهما كثيرة: نحب أصدقاءنا بحنان وشغف، نخاف عليهم، نهتم بهم، نستمع إليهم، ننصحهم، نعتني بهم، نحاول مسح دموعهم، نشاركهم الأحزان والأفراح. الحب والصداقة ضروريان ومهمان بنفس القدر لتحقيق توازننا.

“الصداقة هي عالم في حد ذاتها” كما يقول المحلل النفسي دانييل برون، رابطةٌ لا تضاهيها رابطةٌ أخرى، وأساسها الحب. الصداقة -سواء بدأت في الحضانة أو المدرسة- هي أول علاقة تنشأ خارج الأسرة تتيح لنا الانفتاح على الآخر، ليقابل الطفل الأطفال الصغار الآخرين أول مرة.

“لقد جسّد نقيضي وكل ما أطمح إليه”

نادراً ما نتذكر صداقاتنا الأولى، صداقتنا مع إخوتنا وأخواتنا؛ لكن الصداقة في سنّ المراهقة تدوم أكثر وأقوى، لأن تلك نعيش خلالها تجاربنا -بمرها وحلوها- معاً. في سن السادسة عشرة، دخلت جيهان؛ وهي فتاة ريفية شابة ذات “بشرة خشنة” إلى باريس، إلى عالم لم تكن لتعلم بوجوده لولا لقائها مع جورج؛ الشاب الباريسي المتحضّر. تقول جيهان: “لقد حصلت للتو على شهادة البكالوريا في شمال فرنسا، وقد تم اختيارنا أنا وجورج للصف التحضيري. كنت خجولةً ولا أعتني بمظهري، ومربكةً، لم أكن جذابةً، وكنت أشعر بالوحدة الشديدة. كان عليّ إعداد عرض تقديمي حول نص لسارتر مع جورج. اختارنا أستاذ الفلسفة لأن اسمه يتبع اسمي حسب الترتيب الأبجدي، كان وسيماً وأنيقاً ومشرقاً وذكياً. في نظري؛ كان النقيض لي تماماً، ويمثل كل ما أطمح إليه. لم أستطع فهم سبب اهتمامه بي… لقد عرّفني على السينما والتصوير والفن المعاصر، وأصبحنا أصدقاء قريبين جداً من بعض، فأسرّ لي بقصة حبه الحزينة. ذات ليلة؛ بينما كنا خارجين من السينما، اقترب أحد الأشخاص من جورج وقال له بصوتٍ عالٍ: “إنها مناسبة جداً لك”، فردّ بصوتٍ خافت: نعم! نظرت خلفي لأرى من هو؛ ولكني لم أعرفه. عاد بي جورج بصمت إلى المترو، وقضيت يومها ليلةً مضطربةً. كان لديه صديقة تحبه بشدة، ويريد تركها؛ ولكن كنت أحثه على البقاء معها. في اليوم التالي؛ تصرفت وكأن شيئاً لم يحدث، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. لقد كانت قصةً صامتة؛ لكن الحادث كان بمثابة الزناد. بعد بضعة أشهر، أصبحت صديقةً مقربة لأفضل صديق لجورج، وأعتقد أننا أحببنا بعضنا البعض؛ لكن التفكير في علاقة جنسية كان مستحيلاً بالنسبة لنا”.

لماذا كان من غير المعقول تغيير العلاقة في هذه الحالة؟ لأن الصداقة -حسب سيغموند فرويد- تقوم على تثبيط الرغبة الجنسية؛ الطاقة النفسية لغرائز حياتنا. إن رغبتنا الجنسية هي عنصر رئيسي في وظيفتنا العقلية، وهي نرجسية، فنحن نوجهها إلى أنفسنا لدعم الأنا؛ لكننا بالطبع نوجهها أيضاً نحو الآخرين. يمكن أن تتشكّل بين جنسين مختلفين وكذلك مثليين، لأننا جميعاً ثنائيو الجنس من الناحية النفسية. يقول الطبيب والمحلل النفسي وعالم الأنثروبولوجيا إريك سمادجا في هذا الصدد: “الصداقة تتغذى من هذه الرغبة الجنسية؛ والتي يتم كبح الغرض الجنسي منها؛ ولكنها تتسامى، فتخمد إلى حدّ ما؛ لكنها لا تختفي، وتتجلى في شكل مودة وحنان”.

تناولت المحللة النفسية صوفي دي ميجولا ميلور في دراساتها ظاهرة التسامي “التعلية”؛ والتي تعني إزاحة أو توجيه رغباتنا نحو الأنشطة الاجتماعية، وخاصةً الإبداعية منها. تتفق مع هذا الرأي وتقول: “الاختلاف الأساسي بين الحب والصداقة هو الدور الممنوح للجنس. في الحب، اندماج الأجساد وديالكتيك عطاء الحب؛ حيث يعطي المرء دائماً للآخر ما يطلبه لنفسه، يخلق خيال ولادة جديدة من المحبوب، وهذا يفسر الطابع الكارثي للانفصال؛ حيث لا يشعر الفرد أنه فقد حبيبه فقط؛ بل ويشعر بأنه فقد نفسه… وبالمثل، فإن الاستمتاع الجنسي سيكون مطلوباً من الزوجين كدليل على الحب، وذلك ليس هو الحال في الصداقة كما هو واضح”.

لا وجود للجنس في الصداقة، لأن الصداقة غالباً ما تقوم على أساس أخوي. غالباً ما يأخذ الشخص الذي نشعر بقربه منا مكان الأخ أو الأخت الذي لم يكن لدينا أو نرغب في وجوده، وممارسة الجنس ترقى في لا وعينا إلى ارتكاب سفاح القربى؛ وهو أمر لا يطاق.

“سارت الأمور بسرعة كبيرة، وأصبح الأمر واضحاً بالنسبة لي”

لكن في بعض الأحيان تنكسر القيود؛ تثير الصداقة مشاعرَ قويةً، وتستيقظ الرغبة الجنسية كما يؤكد إريك سمادجا: “هناك تيارات شهوانية في كل منا -سواء تجاه الجنس الآخر أو نفس الجنس- حية وبالتالي متحركة. يمكن أن تبدأ قصص الحب العظيمة بعلاقة صداقةٍ قوية جداً: في تجربتي كمحلل نفسي، رأيت أزواجاً كانوا أصدقاء في طفولتهم، ثم غابوا لفترةٍ عن بعضهم، وبعد ذلك؛ التقوا ببعضهم مرةً أخرى وطورا علاقة حب بينهما انطلاقاً من رابطة الصداقة “الأخوية” التي تميز جانباً من جوانب الصداقة”. تركت باسمة؛ 48 عاماً ولديها طفلان، زوجها ريان بعد ثمانية عشر عاماً من الزواج لتلتحق بلؤي؛ صديقٌ قديم التقت به مرةً أخرى أمام مدرسة أطفالها. تقول باسمة: “كنت أنا ولؤي في المدرسة الثانوية معاً. كنا لا نفارق بعضنا البعض في تلك الأيام، وعندما التقينا مرة أخرى، فعلت صداقتنا فعلها. كانت لدي مشاكل في العمل، ولم يكن زوجي ريان يدعمني مطلقاً؛ لقد فقد الاهتمام بي نهائياً. استمع لي لؤي وساعدني، وجدته قوياً وذكياً وحكيماً”.

يمكن أن تفسر المخاطر والظروف والمواقف غير المرضية تغير العلاقة، وتفسر الانفعالات العاطفية والنفسية والغريزية التي نمر بها أيضاً، وهي كثيرة ومتنوعة لا حصر لها، مثل تقمّص الأصدقاء، والإسقاطات، والمثالية، والاندماج، والتحول، والتنافس والغيرة والحسد، تملأ جميع هذه المشاعر مختلف جوانب علاقاتنا الخاصة. إنها لا تستنفذ الكراهية… ولا الحب. يقول الفيلسوف ميشيل إرمان: “إذا بدت الصداقة أكثر جاذبيةً للعقل، بينما كان القلب يميل للحب، فعندئذٍ (في بعض العلاقات) يغلف العقل القلب”.

ما هي المخاطر بالنسبة للزوجين؟

هل يمكن لشخصين تربطهما علاقة؛ ولكن من المحتمل أن يُعجب كل منهما بالآخر من الناحية الجنسية، أن يكونا أصدقاء؟ أم يجب أن يكون هناك انجذابٌ بينهما وأجندة سرية؟ تختلف آراء المحللين النفسيين؛ يميل جيه بي بونتاليس إلى تفضيل الفرضية الثانية أكثر، بينما يؤمن دانييل برون وإريك سمادجا وصوفي دي ميخولا ميلور بالفرضية الأولى كلياً. يقول إريك سمادجا: “لا يستطيع الزوجان تلبية احتياجات بعضهما كلياً؛ إذ يلبي الأصدقاء؛ والذين قد نعرفهم قبل وقتٍ طويل من معرفة الشريك، بعضاً من احتياجاتنا. إنهم جزء من هويتنا وتاريخنا؛ هم مهمون مثل الأسرة. قد يشعر أحد الزوجين بالتهديد عندما يرون أن شريكهم منخرط في علاقة أخرى عندما لا تكون علاقتهما على ما يرام، أو عندما لا تتم تلبية حاجة الصداقة عبر العلاقة مع الزوج، فالعلاقة مع الزوج لا تصنعها فقط الرغبة والعلاقة الجنسية؛ بل تصنعها أيضاً الصداقة التي تتجلى في الكثير من الأشياء التي يقوم بها الزوجان؛ مثل الذهاب في نزهة على الأقدام، والمشاركة في المشاريع، وتبادل الآراء، ومشاهدة الأفلام، والضحك معاً، كل ذلك يغذي العلاقة بينهما. إذا اقتصرت حياة الشريكين على الحياة الجنسية وقضاء الإجازات مع الأطفال (وبقي كل منهما منهمكاً في عمله، ولكل منهما أصدقاؤه وهواياته الخاصة)؛ تفتر العلاقة بينهما وتصبح هشّةً.

المحتوى محمي !!