انتشر هاشتاغ (وسم) "Summerbody#" أو "قوام الصيف" بصورة كبيرة خلال فصل الصيف الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة أنه قد نتج عنه في فرنسا وحدها 4,060,539 منشوراً على إنستغرام في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي، وفي الحقيقة فقد ساهم انتشار هذا الهاشتاغ كما تفعل الشبكات الاجتماعية عموماً، في ازدياد اضطرابات الأكل بين الناس.
يُعد المقال من إعداد: المحاضر في علم النفس بجامعة كليرمون، أوفيرني فالنتين فلودياس، وأستاذة علم النفس التفريقي بجامعة نانت آن كونغارد، والمحاضر في علم النفس الإكلينيكي وعلم الأمراض النفسية بجامعة نانت دلفين روميل، والمحاضرة بجامعة نانت إليسا سردا، والأستاذ المتخصص في سلوك المستهلك والغذاء والشبكات الاجتماعية بجامعة لوهافر نورماندي، باسكال إزان، والأستاذ المشارك في قسم علم النفس التطبيقي بجامعة نورث وسترن، راشيل رودجرز، وأستاذة علم النفس التنموي بجامعة لوميير ليون الثانية، ريبيكا شانكلاند.
لا يمثل هاشتاغ (وسم) (Summerbody#) أو "قوام الصيف" دعوةً سلبيةً في حد ذاته، فمن يكره التمتع بجسد رشيق وصحي؟ ولكن على ما يبدو أن هذه الدعوة قد انحرفت عن مسارها وأثرت سلباً في الكثيرين إذ إنها عززت الضغوط الاجتماعية التي تؤدي إلى الشعور بعدم الرضا عن صورة الجسد ورسخت خرافة الجسد المثالي في أذهان الناس، فانتشر سلوك السعي للحصول على جسد نحيف إلى درجة أنه أصبح أحد المعايير الاجتماعية؛ ما حدا ببعض الأشخاص إلى تبني سلوكيات مبالغ فيها أحياناً كاتباع حميات غذائية قاسية وممارسة الأنشطة البدنية بصورة مفرطة، وهي سلوكيات قد تؤدي إلى الإصابة بعدة إصابات بما فيها اضطرابات الأكل (فقدان الشهية العصبي، والشره المرضي وغيرها)، التي تؤثر بصورة كبيرة في الصحة النفسية والجسدية للفرد.
وعلى الرغم من أن ضغوط السعي إلى الحصول على جسد مثالي ترجع إلى زمن بعيد، فإن وسائل التواصل الاجتماعي قد ضاعفت هذه الضغوط وزادت من حدتها، وبينما شهدنا ظهور حركة "النظرة الإيجابية إلى الجسد" (Body positivity)، التي تهدف إلى تشجيع الناس على تبني نظرة أكثر واقعية تجاه أجسادهم، والتخلي عن معايير "النحافة المثالية"، وتعزيز ثقافة التنوع، فقد وجدنا أنها هي الأخرى تؤكد رغم ذلك باستمرار أهمية المظهر الجسدي للفرد.
الشبكات الاجتماعية وترويج صورة "الجسد المثالي"
أظهر العديد من الدراسات أن وسائل الإعلام التقليدية (المجلات والتلفزيون وما إلى ذلك) تولد لدى الرجال والنساء ضغوطاً قويةً فيما يتعلق بفكرة الحصول على جسد مثالي. تنشر هذه الوسائل صوراً لأجساد لا تبدو واقعية ويتعذر الحصول على مثلها، فلا شك بأن هذه الصور قد خضعت للكثير من التنقيح قبل نشرها. وتصبح النحافة والعضلات البارزة التي تعرضها هذه التمثيلات معيار الجسد المثالي في ذهن الفرد، وهو النموذج الاجتماعي الحالي للجاذبية الجسدية؛ ما يؤدي إلى شعوره بعدم الرضا عن صورة جسده.
ويتعامل الأفراد مع هذا الشعور بعدم الرضا بطريقتين؛ إذ يلجأ بعض الأشخاص إلى فرض حميات غذائية صارمة على أنفسهم ما يجعلهم عرضةً للإصابة باضطرابات الأكل، بينما يمارس آخرون الرياضة بصورة مفرطة دون إعداد بدني، أو وضع برنامج مدروس.
وكلما ازداد تأثر الفرد بمعايير الجاذبية التي يحددها المجتمع، كان تمسكه بالسلوكيات التي "تقربه" من هذه الصورة المثالية أشد.
تُعد المقارنة الاجتماعية من أهم العناصر التي تعزز هذه السلوكيات؛ حيث يميل الفرد في هذه الحالة إلى مقارنة مظهره بمظهر الآخرين سواء كان ذلك صراحةً أو ضمناً.
ويعد سلوك المقارنة الاجتماعية التصاعدية؛ أي مقارنة الفرد لنفسه بآخر يرى أنه أكثر استيفاءً لمعايير الجسد "المثالي" التي يسعى إلى تحقيقها، خير دليل على الصلة بين الصور التي تعرضها وسائل الإعلام والسلوكيات التي يتخذها الفرد في سبيل تغيير مظهره.
وإذا كانت وسائل الإعلام التقليدية قادرةً على ترسيخ فكرة "الجسد الرشيق مفتول العضلات" كصورة مثالية في أذهان الناس، فإن الشبكات الاجتماعية وبفضل خصائصها الفريدة التي تعد سبب نجاحها، ستكون أكثر قدرةً على تعزيز هذه الصورة.
التأثير العاطفي لصورة الجسد المثالي
بالإضافة إلى المحتوى التجاري؛ تتيح الشبكات الاجتماعية للمستخدمين العاديين المساهمة في محتواها عبر نشر الصور ومقاطع الفيديو وغيرها، إضافةً إلى التفاعل من خلال التعليق على هذه المنشورات.
من جهة أخرى تسمح تقنية التعلم الآلي التي تعتمد عليها هذه الشبكات بتخصيص تجربة كل مستخدم وفقاً لاهتماماته من خلال رصد نشاطاته السابقة كالنقرات والإعجابات وغيرها؛ حيث تعرض له الخوارزميات المحتوى الذي يتناول موضوع اهتمامه بطريقة مكثفة مع تعزيز التأثير العاطفي، لمنعه من فك هذا الارتباط.
وبسبب تركيز منشورات الشبكات الاجتماعية على صورة الجسد التي تولد الشعور بالرضا، ودعم هذه الصورة بالتحفيز العاطفي الشديد، فإنها تحد من قدرة الفرد على اتخاذ السلوكيات المعززة لصحته. إن إدراك المرء لإشارات جسده وعواطفه واختياراته الواعية أهم 3 عناصر في عملية التنظيم العاطفي،
ومن ثم فإنه يمكن للشبكات الاجتماعية أن تؤدي دوراً في تعزيز الروابط بين اضطرابات صورة الجسد وإدارة العواطف وسلوكيات الأكل. وعندما يقارن الفرد صورة جسده بصور الأجساد المثالية التي يراها على الشبكات الاجتماعية ويتفاعل معها بالتعليقات والإعجابات، فإن ذلك يؤثر فيه عاطفياً، وعليه في هذه الحالة أن يحاول تنظيم العواطف التي تنشأ لديه، وبينما يشعر بعض الأشخاص بعدم رضا مؤقت عن صورة الجسد عند رؤية هذه المنشورات، فإن هذا الشعور قد يتطور لدى آخرين إلى حالة عاطفية طويلة الأمد مصحوبة بسلوكيات إشكالية لديه.
تنظيم العواطف واضطرابات الأكل
ولفهم دور الشبكات الاجتماعية المحتمل في ظهور اضطرابات صورة الجسد وكذلك اضطرابات الأكل فهماً أفضل؛ سنستعين بنموذج توضيحي حول حالة الإدمان.
تستند نماذج الاعتماد السائدة حالياً إلى نموذج من فرعين، أو ما يسمى "نموذج العملية المزدوجة"؛ إذ تخضع عملية اتخاذ القرار بشأن العنصر محل الإدمان لنظامين متمايزين في الدماغ ولكنها يتفاعلان معاً في الوقت ذاته:
الأول هو النظام العاطفي أو التلقائي الذي يقوم على الجهاز الحوفي في الدماغ، والذي يتكون بدوره من قرن آمون واللوزة الدماغية والتلفيف الحزامي وغيرها، وهو يؤدي دوراً في الاستجابة العاطفية أو التلقائية للمثيرات، ويحفز ردود أفعالنا العفوية بناءً على التعلم العاطفي. وفي حالة الإدمان، يكون هذا النظام مسؤولاً عن الاستجابة العفوية تجاه منتج ما بسبب توقع نشوء مشاعر إيجابية عند الحصول عليه.
أما النظام الآخر المسؤول عن هذه العملية فهو "نظام التفكير التأملي"، وهو نظام رقابة وضبط يتألف من المناطق الأمامية من الدماغ التي تشارك في المعالجة المعرفية للمحفزات، ويعتمد على الذاكرة والوظائف التنفيذية للدماغ لخلق استجابة مدروسة ومضبوطة. ويسمح لنا هذا النظام باتخاذ القرار وفق سلوك متروٍ حيث لا تسيطر عليه العواطف بدرجة كبيرة، وبمعنى آخر فإن هذا النظام يمكننا من اتخاذ القرار بعدم استهلاك المنتج الذي يسبب الإدمان.
ووفقاً للنماذج الحالية لحالات الإدمان، فإن اضطرابات الإدمان تظهر عندما لا يكون ثمة توازن بين النظام العاطفي التلقائي ونظام التفكير التأملي، فيصبح النظام التلقائي مفرط النشاط مثلاً عند التعرض المتكرر للمنبهات المتعلقة بموضوع الإدمان والمكافأة المصاحبة له، بينما يبقى نظام التفكير التأملي التنظيمي في حالة خمول.
وعلى الرغم من صحتها من الناحية التجريبية وقبولها على نطاق واسع، فإن نماذج العملية الثنائية هذه لم تتضمن نظام الحس الداخلي لدى الفرد، الذي يساعده على تقييم نشاطه الفيزيولوجي بدقة، والتعرف إلى مشاعره من خلال المظاهر الجسدية، كالربط بين حالة القلق وملاحظة تسارع التنفس ونبضات القلب. قدم بحث جديد مؤخراً تفسيراً معمقاً لنماذج الإدمان من خلال إضافة نظام الحس الداخلي، الذي يبدو أن له دوراً مهماً في اضطرابات الإدمان.
لا يقل نظام الحس الداخلي أهمية عن النظام العاطفي التلقائي، لأنه يعزز نشاط الأخير ويحد من فعالية نظام التفكير التأملي في آن معاً ومن ثم فهو يحد من قدرة الفرد على فهم الإشارات الجسدية.
ووفقاً للنموذج الجديد لحالات الاعتماد المكونة من ثلاثة عناصر، فإنه عندما يشعر الشخص بالتوتر تتضاءل قدرته على إدراك الإشارات الجسدية مثل الشعور بالجوع أو الشبع، والانتباه إلى سلوك الأكل والتحكم فيه؛ ما يؤدي إلى تعزيز اضطراب الإدمان لديه.
تُنشط الرسائل التي ترسلها الشبكات الاجتماعية على وجه الخصوص "النظام العاطفي أو التلقائي" و "نظام الحس الداخلي"؛ ما يقلل من فعالية "نظام التفكير التأملي"، ومن ثم فإن هذا يدفع الفرد إلى تبني سلوكيات تعزز المشاعر الإيجابية على المدى القصير، وهو ما يفسر تبني السلوكيات التي تتماشى مع غاية الحصول على "الجسد المثالي".
أما على المدى الطويل، فإن كل هذه العوامل المتمثلة في دور وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض صورة الجسد المثالي والإحباط المرتبط بها وصعوبة إدارة العواطف التي تؤدي إلى سلوكيات غير صحية، تتطور إلى اضطرابات الأكل المؤذية للصحة.
العواقب المرضية للإفراط في الاهتمام بشكل الجسد
هناك ثلاثة اضطرابات أكل رئيسية وهي: فقدان الشهية العصبي، والشره المرضي العصبي، واضطراب نهم الطعام.
يتضمن اضطراب فقدان الشهية العصبي خسارة كبيرة للوزن بالنسبة لطول المريض وسنه، مع خوفه الشديد والمستمر من اكتساب الوزن كما قد يؤدي إلى حالة سوء تغذية شديد. يتميز مريض الشره المرضي العصبي بخوفه الشديد من زيادة الوزن والسمنة؛ ما يعرضه إلى نوبات متكررة من تناول كميات كبيرة من الطعام على نحو غير مألوف في وجبة واحدة كما يتخذ سلوكيات تعويضية غير ملائمة مثل إجبار نفسه على التقيؤ وتناول المسهلات وممارسة التمارين البدنية المكثفة وغيرها. أما اضطراب نهم الطعام فهو عبارة عن نوبات متكررة من الأكل بنهم ولكن دون سلوكيات تعويضية. ويمكن أن يؤثر اضطرابا الشره المرضي العصبي ونهم الطعام في الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، وهما يؤديان إلى تداعيات جسدية كبيرة.
ومن القواسم المشتركة بين هذه الأمراض الثلاثة، إيلاء أهمية مفرطة للوزن أو النظام الغذائي أو شكل الجسم حتى لو كان منشأ هذه الاضطرابات يرجع إلى عوامل متعددة. وتنهك هذه الاضطرابات الشخص المصاب بها وتؤدي إلى تدني جودة حياته وتمتد هذه التأثيرات لتطال المقربين منه أيضاً.
إضافة إلى المشكلات الصحية التي يعاني منها المريض بسبب اضطرابات الأكل فإن السلوكيات المرافقة لها كاتباع حميات غذائية صارمة ومستمرة أو تناول الطعام بنهم أو ممارسة الأنشطة البدنية بصورة مفرطة، تؤثر سلباً في علاقاته الاجتماعية والاجتماعية المهنية.
ويمكن أن يؤدي الشعور بعدم الرضا عن صورة الجسد أيضاً إلى سلوكيات محفوفة بالمخاطر يهدف الفرد من خلالها إلى تعديل جوانب أخرى من مظهره، كالخضوع إلى جراحة تجميلية دون إشراف طبي ملائم، أو استخدام المنتجات الخطرة.
كيف تحد من التأثير العاطفي للشبكات الاجتماعية؟
يمكنك وضع عدة استراتيجيات للحد من خطر الإصابة باضطرابات الأكل:
الاستراتيجية الأولى دون شك هي الحد من استخدام الشبكات الاجتماعية لتتمكن من حماية نفسك من الضغوط المرتبطة بالمظهر.
كما يمكن الاستفادة من طريقة عمل الخوارزميات على هذه الشبكات لتحظى بتجربة مستخدم أكثر إيجابية، من خلال الاهتمام بالمحتوى ذي التأثير الإيجابي، أو المرتبط باهتمامات أخرىكعلوم البيئة والثقافة وغيرها، وبهذه الطريقة ستقترح عليك الخوارزميات محتوى ذا صلة بهذه المواضيع فقط.
ويعد أسلوب التفكير النقدي من أفضل الممارسات للحد من التأثير الضار للشبكات الاجتماعية، فمن المهم أن تدرك أن الصور المتداولة على هذه الشبكات غير واقعية وخاضعة للفلترة (التصفية)، والهدف منها هو ترويج شخص أو منتج ما، وفي معظم الأحيان تنتج هذه الصور أو مقاطع الفيديو بعد أخذ عدة لقطات وإجراء عدة عمليات تنقيح لها. يعد الشعور بعدم الرضا شعوراً طبيعياً ينتج عن تأثير الرغبة،
ومن خلال تحديد الصفحات الشخصية والمواضيع التي تولد لديك الأفكار السلبية مثل اتباع حمية غذائية صارمة أو الإفراط في النشاط البدني؛ ستتمكن من تحسين تجربة استخدام الشبكات الاجتماعية. من الضروري ألا تحدد أسس الحياة الصحية وفقاً لما يقدمه هذا المحتوى، فبعض المؤثرين مثلاً يؤكد أن التمتع بجسد رشيق مفتول العضلات يعني التمتع بصحة جيدة، وهذا غير صحيح بالضرورة ولا سيما إذا كان السعي إلى الحصول على هذا القوام سيعزز خطر الإصابة باضطرابات الأكل.
أخيراً يجب أن تعرف كيف تستمتع إلى جسدك، ويمكن لممارسات مثل التأمل الذهني أن تساعدك على ذلك إذ تسمح لك بالتركيز على إشارات الجسد ومن ثم تعزيز قدرتك على الإحساس بالتغيرات التي تطرأ عليه وفهم احتياجاته بطريقة أفضل.
تعلم قبول ذاتك كما هي واستمع إلى احتياجاتك الجسدية وتصرف بما يتماشى مع قيمك، واتخذ القرارات التي تلائمك أنتدون الخضوع للضغوط الخارجية، وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد لا يكون سهلاً بالنسبة إليك، فإن الالتزام به يعني توتراً أقل وصحةً نفسيةً أفضل.