كيف يؤثر تعلُّق الطفل الآمن وغير الآمن بالأم في سلوكه؟

التعلُّق الآمن
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تستجيب الأم سريعاً لرضيعها الباكي؛ تحمله وتضمه إليها برفق، ويهدأ الطفل حين يشعر بالأمان. ذلك الشعور الناتج عن استجابة الأم لاحتياجات طفلها لا يقتصر أثره على تلك اللحظة؛ بل يخلق نوعاً من التعلُّق الآمن والارتباط الذي يؤثّر إيجاباً في الصحة النفسية للطفل في سنوات عمره اللاحقة.

تؤدي الأمهات العديد من الأدوار في حياة أطفالهن؛ ما بين مُعلِّمات، وزميلات في اللعب، ومقدمات للرعاية. في حين يخلق كُل من تلك الأدوار رابطاً بينهما؛ فإن هناك أموراً أخرى تحدد مدى تعلّق الطفل بأمه.

التعلُّق الصحي والشعور بالأمان

وفقاً لدراسة من جامعة نيويورك، فالتعلُّق هو أحد الجوانب المحدِّدَة للعلاقة بين الطفل ومقدم الرعاية الذي يشارك في جعل الطفل آمناً ومحميّاً؛ ما يجعل العلاقة بينهما ملاذاً آمناً ومصدراً لراحة الطفل.

كذلك، فبعض التفاعلات الدقيقة التي تحدث بينهما لها تأثير قد يستمر مدى الحياة على الشخص الذي سيصبح عليه هذا الطفل؛ ما يعني أن جودة الارتباط بين الرضيع والأم هي مؤشر قوي على النتيجة الاجتماعية والعاطفية للطفل لاحقاً.

يدعم ذلك التعلُّق الصحّي الشعور بالأمان، ويُنظِّم المشاعر من خلال تهدئة الضيق ودعم الهدوء، بالإضافة إلى توفير بيئة آمنة يمكن من خلالها التطوُّر الصحي للطفل.

أنواع التعلُّق بين الطفل والأم

يتمثَّل جوهر نظرية التعلُّق في ما إذا كان الطفل يثق في مقدم الرعاية الأساسي لتوفير الدفء والراحة عند الحاجة؛ حيث يمكن أن يؤدي الدعم غير المتسق أو غير الموثوق به من مقدم الرعاية إلى نمط من التعلُّق غير الآمن.

في كتاب “أنماط التعلق: دراسة نفسية للوضع الغريب” (Patterns of Attachment: A Psychological Study of the Strange Situation)، قدّمت المؤلفات أنماط التعلُّق المختلفة بين الرضَّع وأمهاتهم؛ والتي تتحدد جودتها من خلال الاستجابة للرضيع عندما يكون هناك تهديد لشعوره بالأمان؛ حيث أنه ابتداءً من عمر ستة أشهر تقريباً، يتوقّع الأطفال ردود أفعال معيَّنة من مقدمي الرعاية.

وبناءً على ذلك؛ يتم تحديد ثلاثة أنماط رئيسية للتعلُّق عند الرضَّع كالتالي:

  1. آمن (Secure): الرضيع الذين عادةً ما يستجيب له مقدم الرعاية بطرق حسّاسة أو مُحِبة؛ مثل حمله على الفور وطمأنته، يشعر بالأمان، ويمكنه التعبير بحرية عن مشاعره السلبية؛ والتي ستُقابَل بدورها بالاهتمام والرعاية، فتصبح استراتيجيته للتعامل مع المشاعر السلبية منظَّمة وآمنة.
  2. متجنِّب (Avoidant): ينشأ هذا النوع من الارتباط لدى الرضيع عندما يستجيب مقدم الرعاية لاحتياجاته بطرق غير حساسة أو تعبّر عن الرفض؛ مثل التجاهل أو السخرية أو الانزعاج. يؤدي ذلك إلى تجنُّب الرضيع اللجوء له عند الشعور بالضيق، وهو نمط غير آمن.

يزيد ذلك النمط من مخاطر تطوير مشاكل التكيُّف الناتجة عن الضغط النفسي؛ والتي تشمل القلق والاكتئاب أو اتخاذ قرارات متهوِّرة.

  1. مقاوِم (Resistant): عندما يستجيب مقدمو الرعاية لاحتياجات الرضيع بطرق غير متسقة وغير متوقّعَة؛ مثل تضخيم ضائقته والشعور بالارتباك عند اللجوء لهم، يطوّر لاحقاً أنماطاً غير آمنة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بسوء التكيُّف الاجتماعي والعاطفي.

الآثار الإيجابية للتعلُّق الآمن

كشفت دراسة من جامعة مينيسوتا أن جودة التعلّق المبكر تنعكس جيداً على الأفراد في مرحلة الطفولة والمراهقة والبلوغ المتأخرة.

من أهم نتائج الدراسة أن الارتباط الآمن في وقت مبكر من الحياة يؤدي إلى مزيد من الاستقلالية لاحقاً، في حين أن الارتباط غير الآمن يزيد من احتمالية أن يصبح الطفل اعتمادياً.

كذلك؛ يكون الأطفال المرتبطون بأمان بمقدم الرعاية محبوبين أكثر، ويتعاملون بصورة أفضل من قِبَل أقرانهم ومعلميهم.

في السياق ذاته؛ يوضّح “دانيال سيجل”؛ أستاذ الطب النفسي بجامعة كاليفورنيا، و”آلان صروف”؛ أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة ويسكونسن، أن الأطفال الذين لديهم تاريخ ارتباط آمن يُظهرون:

  • تنظيماً عاطفياً أفضل.
  • ارتفاعَ تقدير الذات.
  • تأقلماً أفضل تحت الضغط.
  • مشاركة أكثر إيجابية مع مجموعة الأقران في مرحلة ما قبل المدرسة.
  • تنسيقاً أفضل للصداقات في مرحلة الطفولة والمراهقة.
  • ثقة وكفاءة اجتماعية أكبر.
  • المزيد من الصفات القيادية.

كذلك؛ أظهرت دراسة أميركية أجراها باحثان من جامعات “هارفارد” و”برين ماور” على 81 رجلاً؛ أن أولئك الذين نشؤوا في أُسر آمنة كانوا أكثر احتمالية لاختبار التعلُّق الآمن مع شركائهم. كما أن تاريخ ارتباط الطفل الآمن بمقدم الرعاية يمكن أن ينعكس إيجاباً في قدرته على تربية أطفاله؛ ما يعني أن أنماط التعلُّق تلك يمكن أن تنتقل عبر الأجيال.

التعلُّق الآمن وتطوُّر المهارات الاجتماعية

بالإضافة إلى ما سبق؛ يساعد التعلُّق الآمن في تشكيل مهارة الثقة بالآخرين؛ ذلك العنصر المهم في العلاقات الاجتماعية الصحية.

فعندما نتفاعل مع الغرباء؛ نحاول سريعاً تقدير ما إذا كان بإمكاننا الوثوق بهم. قد تتشكَّل هذه المهارة الاجتماعية المهمة من خلال علاقتنا المبكرة مع مقدمي الرعاية – وفقاً لدراسة حديثة من جامعة إلينوي بأميركا.

تشير الدراسة الحديثة المنشورة بدورية علم الأعصاب الاجتماعي الإدراكي والعاطفي، إلى أن الارتباط الآمن بين الطفل والأم في مرحلة الطفولة المبكرة قد يترافق مع قدرة أكبر على معالجة المعلومات الاجتماعية على المستويين السلوكي والعصبي.

وفقاً للنتائج؛ من المُّرجَح أن يبالغ المراهقون الذين لديهم ارتباط غير آمن بأمهاتهم كأطفال صغار، في تقدير مصداقية الغرباء، في حين يكون الآخرون الذين لديهم تاريخ آمن من الارتباط أكثر قدرة على التفكير السليم، والاستجابة للإشارات الاجتماعية السلبية؛ مثل الكذب.

اقرأ أيضاً: كيف يساعد فهم نفسية الطفل على تطوير مفهوم إيجابي للذات؟

التعلُّق غير الآمن وخلل معالجة الإشارات السلبية

خلال الدراسة ذاتها؛ والتي استخدم فيها الباحثون التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) لقياس نشاط أدمغة المشاركين في أثناء مشاهدتهم صوراً لعدد من الوجوه لتقييم مصداقية كل منها؛ أظهرت فحوصات الدماغ لدى الأطفال الذين كانوا مرتبطين بشكل غير آمن كأطفال صغار، نشاطاً أقل في مناطق الدماغ المرتبطة بالمعالجة العاطفية، عند مشاهدة وجوه غير جديرة بالثقة.

تقول زياومي لي؛ المؤلفة الرئيسة للدراسة: “نظراً لأن الأطفال الذين يعانون من ارتباط غير آمن قد عانوا من رعاية غير متسقة وغير موثوقة عندما كانوا صغاراً، فقد يختارون الآن تجنُّب الإشارات الاجتماعية السلبية كآلية دفاعية لحماية أنفسهم. يدعم الافتقار إلى تنشيط الدماغ هذا التفسير؛ ما يشير إلى أن المراهقين غير الآمنين لا يعالجون الإشارات غير الجديرة بالثقة”.

وأخيراً؛ توضح نتائج الدراسة أهمية التعلُّق الآمن أو الارتباط الآمن بين الطفل والأم خلال مرحلة الطفولة؛ حيث أنها الفترة الأساسية للنمو الاجتماعي والعاطفي. والذي يمكن أن يتطوّر عندما يتقبّل الوالدان المشاعر السلبية لأطفالهم، والاستجابة لها بالدعم، عوضاً عن التعنيف أو التجاهل.

المحتوى محمي !!