التراحم قيمة إنسانية سامية: تعرف إلى كيفية تعزيزها

3 دقائق
العطف والشفقة

لم يكن غريباً التَراحُم الذي شَهدناه يطوف العالم أجمع من أجل الطفل ريان -رحمه الله- حيث تجسّدت أسمى معاني الإنسانية والدعم مع تمنّي زوال المعاناة عنه وعن والِديه. لنتوقف للحظة ونتساءل: كيف يسمو التَراحُم عموماً على التعاطف، العطف والشفقة؟

التَراحُم، التعاطف، العطف والشفقة

تُعرف الرغبة الجادة والعارمة في مساعدة الآخرين وتخفيف معاناتهم، أيّاً كان مصدرها أو حجمها؛ والتي تتحرك لها جميع حواسك ومشاعرك وعواطفك، بمشاعر "التَراحُم" (Compassion).

وبطبيعة الحال؛ تختلف تماماً عن "التعاطف" (Empathy) الذي تُرجِم من اللغة الألمانية إلى اللغة الإنجليزية ليصف قدرة الإنسان على التعرّف إلى مشاعر الآخرين واستيعابها ثم تشاركها معهم.

بالإضافة إلى ذلك؛ يختلف التَراحُم والتعاطف عن "العطف" (Sympathy) الذي يصف الشعور بالاهتمام تجاه شخص ما، في غالب الأحيان من الأشخاص حولك، مصحوباً برغبة في رؤيته أفضل حالاً أو أكثر سعادة.

ومن المهم هنا تعريف "الشفقة" (Pity)؛ والتي تُعبّر عن الشعور بعدم الراحة الداخلية من معاناة الآخرين، مع فهم ضمني لعدم استحقاقهم ما يحصل لهم دون السعي لتخفيفه.

على الرغم من تشابه التَراحُم والتعاطف والعطف والشفقة، والتباس معانيهم لدى البعض؛ فإن الترتيب التالي للعواطف والمشاعر التي تنتج عند رؤية الآخرين يمرون بمحنة أو معاناة من الأكثر والأعلى مشاركةً وفعالية إلى الأقل والأخف من شأنه توضيح المسألة. تأتي هذه المشاعر والعواطف مرتبةً على النحو الآتي: التَراحُم، التعاطف، العطف ثم الشفقة.

على سبيل المثال؛ الشفقة أن تستطيع بشكل واعٍ أن تقر بوجود الآخرين في محنة أو معاناة، والعطف أن تهتم بوجود الآخرين في محنة أو معاناة، والتعاطف أن تشعر بوجود الآخرين في محنة أو معاناة، أما التَراحُم فهو أن تعاني كما يعاني الآخرون بحيث ترغب بشكل جدّي وعاجل في مساعدتهم، وتسعى لوقف محنتهم ومعاناتهم.

سمو التَراحُم

يساهم التَراحُم في تقوية الاتصال مع الآخرين ويضفي معنى أعمق على العلاقة اللحظية أو المستمرة؛ بحيث يتطلب مشاركةً عاطفيةً معهم.

فعلى سبيل المثال؛ التَراحُم -بلا مبالغة- هو أن تصل لمرحلة عالية من الارتباط بالآخرين بحيث تصبح واعياً بمعاناتهم وكأنها معاناتك؛ ما قد يخلق لديك استجابة رحيمة (Compassionate Responding) ويعزز في نفسك رغبة المساعدة (Desire-to-help).

يزيد التَراحُم أيضاً من الفضول الإيجابي الذي يدفع بك نحو التعرف إلى الآخرين ومشاعرهم وما يضايقهم، مع إعطائهم إحساساً بأهميتهم بالنسبة إليك. يُنتج التَراحُم منظوراً آخرَ بحيث يصبح المرء واعياً بمن يعاني حوله وأكثر قدرة على تمييز ما يعانون منه، وهذا أيضاً يساهم في تمييز الذات أو النفس عن الآخرين بحيث يتم احترام استقلالهم كأفراد والحفاظ على كرامتهم.

أخيراً؛ يساعد التَراحُم على تحفيز التصرف بشكل مناسب بناءً على الفهم المكتسب لمساعدة الآخرين كما يحبون ويتمنون، وبشكل رئيسي كما يجب!

كيف تزيد التَراحُم مع نفسك؟

اقترح أحد علماء النفس بجامعة هارفارد في كتاب "الطريق الواعي إلى التَراحُم مع الذات" (The Mindful Path to Self-Compassion)، ومعه مختصون آخرون، مجموعة متنوعة من الطرق لتعزيز التَراحُم مع الذات. تلك الطرق قد تشمل:

  • أرِح جسمك: من خلال تناول الأكل الصحي الأنسب لحالتك الصحية، الاستلقاء وإراحة الجسم، تدليك الرقبة والقدمين أو المشي. وبشكل عام؛ أي فعل يمكنك القيام به لتحسين شعورك الجسدي ويمنحك جرعة إيجابية من التَراحُم مع الذات.
  • اكتب لنفسك: كأن تصف موقفاً تسبَّب لك في الشعور بالألم. فعلى سبيل المثال؛ من الممكن أن تُدوّن تجاربَ سلبيةً كالانفصال عن شخص يعني لك الكثير أو فقدانك لفرصة مميزة. تعلم أن تدوّن لنفسك بشكل دوري وأن تصف الموقف دون لوم على أي شخص، فالمطلوب منك أن تعترف بمشاعرك تجاه تلك المواقف فقط.
  • شجّع نفسك: فإذا حدث لك شيء سيئ أو مؤلم عليك التفكير كما لو أن نفس الشيء حصل لصديق جيّد؛ ما يساعدك على التفكير في ردود حانية تفكر بها تجاه نفسك وتقولها لها.
  • مارس اليقظة الذهنية: إن ممارستها تتطلب الوعي الكامل بأفكارك ومشاعرك وأفعالك دون الحكم عليها أو قمعها أو إنكارها.

كيف تزيد التَراحُم مع الآخرين؟

تطرقنا لسمو التَراحُم وقد اتضحت أهميته، لذا هنا بعض النصائح كي تزيد التَراحُم مع الآخرين:

  • ابدأ بممارسة التَراحُم مع الذات: وفي الحقيقة؛ إن كنت تجد بداخلك نقداً لاذعاً لا يتفهم أخطاءك الإنسانية، فمن الطبيعي أنك ستجد صعوبة في التعاطف مع الآخرين عندما يكشفون عن إنسانيتهم.
  • ضع نفسك مكان الأشخاص الآخرين: حتى تستشعر مصاعب الحياة التي يمرون بها وتعرف كيف تكون رحيماً بهم.
  • تخطَّ مشاعرك الداخلية الأنانية: حتى تفسح المجال للتواصل بشكل أفضل مع الآخرين.
  • مارس اللطف دون السعي لإرضاء الآخرين بفعلك لذلك: حيث يعني ذلك أن تمنح الآخرين لطفاً نابعاً من داخلك، لا استجابةً لطلباتهم.
  • لا تصدر الأحكام على الآخرين: وذلك يبدأ بالتخلي عن إطلاق الأحكام على ذاتك.
  • عندما تستمع للآخرين، أنصت لهم: هذا يعني أن تكون في حالة من الصمت والتركيز التام مع انتباه شديد لما يُقال أو يُكتب؛ ما يعني استماعك الكامل بقلبك وعقلك وجميع حواسك.
  • احرص على البدء بالتعافي من صدماتك النفسية والعقلية: فمن المحتمَل أن تصيب الآخرين بصدمة دون قصد نتيجة إحدى صدماتك التي لم تلتئم؛ حيث تميل الاضطرابات الداخلية إلى إحداث اضطراب خارجي.
  • مارس الحضور الحقيقي: فلا تنشغل بالنظر إلى هاتفك أو القيام بمهام متعددة في نفس الوقت، أو الالتفات إلى أي شخص آخر غير الشخص الذي تتواجد معه. المهم هنا أن تحاول بكل صدق أن تكون حاضراً تماماً مع كل شخص تقابله، فعندما تكون حاضراً حقاً يميل وجودك إلى أن يكون رحيماً.

في الختام؛ لعّل التَراحُم الذي شعرنا به من مختلف أنحاء العالم مع الطفل ريان -رحمه الله- ووالِديه يذكرنا بما تحتاجه الإنسانية جمعاء كي يفهم الناس بعضهم بعضاً ويكونوا رحيمين. ويجعلنا التَراحُم أيضاً أقوى ارتباطاً واتصالاً ببعضنا بعضاً حتى نصبح أكثر قدرة على الازدهار والمضي قدماً معاً.

المحتوى محمي