سواء كنا في المنزل أو الشارع، لوحدنا أو في مكان عام، فإننا جميعاً لدينا عادة التحدث إلى النفس بصوتٍ عالٍ في بعض الأحيان. وعلى الرغم من أن هذا السلوك طبيعي تماماً فقد يكون ذا تأثير سلبي أحياناً، فما سبب هذه العادة؟ وكيف نتحدث إلى أنفسنا بطريقة صحيحة؟
لمَ نتحدث إلى أنفسنا بصوت عالٍ؟
تقول لجين ذات الـ 37 عاماً وهي مديرة حسابات: "في بعض الأحيان أشعر وكأن حياتي فيلم سينمائي أكتب ترجمته على الشاشة، فأنا أتحدث إلى نفسي بصوت عالٍ حول كل ما أعتزم فعله فأقول مثلاً: "حسناً سأرتدي التنورة الزرقاء لأن الجو لا يبدو بارداً جداً اليوم"، أو "سآخذ معي 50 يورو فقط فهي كافية"، وهكذا. ولا مشكلة لديّ في التحدث إلى نفسي بصوت عالٍ أمام شريك حياتي فهو قد اعتاد الأمر؛ ولكن عندما أفعل ذلك في مكان عام فإن تحديق الناس إليّ يُشعرني بأنني غبية".
التحدث إلى النفس بصوت عالٍ يساعدني على التركيز
يقول الطبيب النفسي دومينيك ديلماس: "عندما يتحدث المرء إلى نفسه يصوت عالٍ فإنه يعبر بذلك عن رغبته في التواصل مع نفسه تحديداً وليس أي أحد آخر". ولكن إذا كانت هذه التعليقات شخصية تماماً فلمَ لا نحتفظ بها لأنفسنا؟ توضح الطبيبة والمعالجة النفسية لوري هوكس أننا نتحدث مع أنفسنا بصوت عالٍ لنؤكد لها أننا ملتزمون تماماً بما نفعله. وتقول المختصة: "إنها حالة يرافق فيها الفرد نفسه؛ إذ يتحدث إليها عندما يتطلب العمل الذي بين يديه دقةً ويقظةً، ومثال ذلك عندما نتحدث إلى أنفسنا في أثناء تحضير وصفة صعبة في المطبخ، أو تركيب قطعة أثاث معقدة".
سلوك يرجع إلى مرحلة الطفولة
يعد التحدث إلى النفس سلوكاً شائعاً لدى الأطفال خلال اللعب أو قبل النوم، ويمكن لكلمات الطفل مع نفسه أن تتضمن تشجيعاً أو مواساةً أو حتى توبيخاً لها. ويوضح دومينيك ديلماس أن الطفل يتوقف عن التحاور مع نفسه في مرحلة ما قبل المراهقة حيث تترسخ لديه القواعد الاجتماعية، ويدرك أن هذا الفعل غير ملائم وقد يعرضه إلى التهميش. إذاً كيف يمكن تفسير عودة هذا السلوك في سن الرشد؟ يقول المختص: "يدفعنا الضغط الناجم عن القلق الشديد الذي قد نتعرض إليه في سن الرشد إلى إزالة القيود التي قيدنا بها أنفسنا فيما سبق، ومن ثم التحرر مما كان يمنعنا من التحدث إلى أنفسنا". وترى مختصة التحليل النفسي إلسا كايات أن حديثنا إلى أنفسنا في بعض الأحيان قد يكون تجسيداً لما اعتدنا سماعه من الآخرين، على سبيل المثال قد يتوقف مضمون الحوار الداخلي سواء كان إيجابياً (يمكنك أن تنجح) أو سلبياً (أنت فاشل، ولن تفلح في شيء)، على ما اعتاد المرء سماعه من والديه في طفولته. من جهة أخرى فإن استخدام هذه الأفكار السلبية في الحوار مع النفس هو دلالة على جهل الفرد بنفسه لأن هذه الأفكار لا تعبر عن حقيقته، وكل ما في الأمر أن الآخرين رسخوها فيه منذ الطفولة.
أنا أتحدث إلى نفسي إذاً أنا موجود
يقول دومينيك ديلماس: "على الرغم من عدم وجود سمات محددة لدى الأشخاص الذين يتحدثون إلى أنفسهم بصوت عالٍ عادةً، فإن الكثيرين منهم يعانون من الكبت النفسي، ويفتقرون إلى الثقة بالنفس". وترى إلسا كايات أن حاجة الفرد إلى الاستماع لصوته تعكس حاجته إلى تأكيد ذاته وهي تنشأ بسبب عدم اهتمام والديه بأفكاره وأقواله في مرحلة الطفولة؛ ما قد يؤدي إلى حالة غير واعية من إنكار الذات تتجلى في حوار الفرد مع نفسه. وتقارن مختصة التحليل النفسي سلوك التحدث إلى النفس، بسلوك الأشخاص الذين يشمون أنفسهم، وتوضح أن رغبة المرء في الاستماع إلى صوته وشم رائحته هي محاولة لتأكيد ذاته "لذاته" بصورة ملموسة ومن خلال الحواس، وهو ما عجز عنه خلال مرحلة الطفولة.
كيف نتحدث إلى أنفسنا بطريقة صحيحة؟
صنف حواراتك مع نفسك
من الشخص الذي تجسده في حوارك مع نفسك؟ هل هو أنت حقاً؟ أم إنك تستخدم كلمات اعتدت سماعها من والديك أو أقاربك؟ في جميع الأحوال يجب أن تتمعن في الكلام الذي تقوله لنفسك، ثم تستبعد منه كل ما يتضمن تقليلاً من قيمتك الذاتية، وتقول مختصة العلاج النفسي لوري هوكس: "يمكنك تطبيق ذلك بصورة فعلية، فعندما تلاحظ أن حوارك مع نفسك قد اتخذ منحى سلبياً، اصرخ قائلاً: "توقف".
اجعل حوارك مع نفسك إيجابياً
يؤكد المختصان النفسيان دومينيك ديلماس ولوري هوكس أن التحدث مع النفس بصوت عالٍ أمر طبيعي، حتى أنه قد يكون وسيلة لإثراء الفرد نفسياً من خلال الاستفادة من الجانب الإيجابي لهذا السلوك. وتقترح المختصة أولاً اختيار اسم تخاطب به نفسك؛ مثلاً: "يا صديقي"، أو "يا عزيزي"، أو "يا حلوتي"، وهي طريقة فعالة لمساعدة الأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس أو تقدير الذات.
خصص وقتاً محدداً للتحدث إلى نفسك
قد يؤدي الحوار الداخلي إلى تدفق سيل من الأفكار دون توقف، وقد يكون بعضها مزعجاً، لذا لتتجنب هذا التدفق العشوائي فإن أفضل طريقة هي تخصيص وقت محدد كل يوم للتحدث إلى نفسك لمدة 5 دقائق مثلاً، تتحدث خلالها بصوتٍ عالٍ وبصراحة وحرية تامة.
"اعتدت خوض حوارات سلبية مع نفسي".
تقول سلوى ذات الـ 41 عاماً وهي مدرسة لغة إنجليزية: "اعتدت التحاور مع نفسي لفترة طويلة وكانت هذه الحوارات تتمحور حول التقليل من قيمتي فقط". في إحدى المرات وبينما كنت أوبخ نفسي خلال جلسة علاج نفسي، سألني المعالج: "من الذي كان يصف سلوى بأنها حمقاء؟" ومن خلال سؤاله هذا أدركت الأمر؛ إذ إن شريك حياتي السابق هو الذي كان يصفني بالحماقة، ولأنها كلمته وليست كلمتي ولا تخصني في شيء فقد تخلصت منها إلى الأبد، ومنذ ذلك الحين صرت أغني لنفسي بصوت عالٍ بدل توبيخها".