جميعنا نسعى للوصول إلى الوضع المهني أو العلاقة العاطفية التي ستمنحنا الإحساس بالسعادة وأننا في مكاننا المناسب والتي نعرف من خلالها الغاية من وجودنا. لكن ماذا لو كان هذا المكان في داخلنا منذ البداية؟
يفيد المراقبون وعلماء الاجتماع بأن الجميع اليوم يبحثون عن "مكانهم"؛ وهو مصطلح غير محدد المعالم إلى حد ما؛ إذ يشمل المكان والوظيفة والحالة العاطفية والعلاقات في الوقت ذاته. المكان الذي يستطيع فيه المرء تحقيق ذاته والتعبير عن مواهبه، والذي يكون فيه سعيداً حتى يصبح في نهاية المطاف كما قال "يونغ": "جزءاً من العالم".
هذا المسعى النبيل (لكن المتعب) هو الثمن الذي ينبغي علينا دفعه مقابل تحررنا، بإسقاط الأيديولوجيات الكبرى التي ألهمتنا والمؤسسات التي "احتوتنا"، وخسارة المعالم الأسرية والمتناقلة عبر الأجيال التي بنت كياننا وتركت المجتمع في أرض قاحلة لا يجب أن نمارس فيها أي شيء خارج إطار "ابتكار الذات"، كما كتب عالم الاجتماع "جان-كلود كوفمان".
كان الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و35 عاماً هم أكثر المتأثرين بهذا البحث: "جيل التشدق بالكلام، المتقلب وكثير التململ والذي بالكاد يستقر، والذي بقي عالقاً في مرحلة ما بعد المراهقة لفترة طويلة، ويبدو أنه يطفو في الواقع سالف الذكر" (في سن 25-35 عاماً، عصر المتاهة، مقابلات مع "إيزابيل فيال" و"بايارد"). لذا يجب على هؤلاء الشباب اليافعين وكبار السن والنساء (المنقسمات بين عملهن ومنزلهن) والرجال (رفقاء هؤلاء النساء بحالتهن الجديدة) أن يجدوا ملاذهم الآمن. لكن ماذا لو واجهوا عدة فِخاخ في طريقهم؟
1. متلازمة التسمية
أول الفخاخ. وهي اعتقادنا أن "مكاننا" هو مكانتنا والوظيفة الاجتماعية التي نشغلها. فقد تبين أن الاقتصار على تأدية دور "الأم" أو "الممرضة" أو "الصديق الصالح الذي يدعم أصدقاءه"، وحدِّنا لأنفسنا ضمن إطار ضخم يعرّفنا ويضم جانباً واحداً من شخصيتنا، يمكن أن يكون مصدر إزعاج، فهو كالعيش تحت مسمىً محدد فقط.
مرت "لينيت سكافو" بطلة مسلسل "ربات البيوت اليائسات" (Desperate Housewives) بتلك التجربة المريرة، فبعد أن كانت تشغل "أكبر منصب وتنال أعلى راتب في شركتها"، ظنت أنها تستطيع أخذ استراحة بترك العمل لتربية أطفالها. لكنها ظلت متطلبةً تجاه نفسها، فأصبحت ترى نفسها "أماً لتوأم شديد النشاط" وتمسكت بتناول الأمفيتامينات لتبقى هذه المرأة الجديرة التي تقضي أيامها في ملء عربات التسوق في المتاجر والتقاط الألعاب المتبعثرة في جميع أنحاء المنزل.
يسأل المعلق الصوتي للمسلسل بتهكم: "هل غيرت لتوها التسمية؟". قد يظن المرء أن "العثور على مكانه" يعتمد على نقيض ذلك؛ أي على الموازنة بين جوانب حياته المختلفة. قال عالم النفس "كارل روجرز": "إن الهدف من التنمية الشخصية هو أن تزداد قدرتك تدريجياً على التصرف على طبيعتك في أي موقف بدلاً عن أن تؤدي دوراً معيناً".
2. متلازمة "إزنوغود"
يُعد الأداء والمنافسة والمقارنة أحد العوامل الأخرى التي تحجب رؤيتنا. إنها تجعلنا نؤمن أن المكان الذي يجب أن نصل إليه هو المركز الأول أو المكان الذي نحل فيه محل الآخر. تستمر تجربة التنافس التي نمر بها أول مرة في عائلتنا، والتي نعيشها مجدداً على مقاعد الدراسة، لترافقنا طوال حياتنا، بصرف النظر عن النجاح الكامل وكليات إدارة الأعمال الكبرى وتحقيق نجاح المشاهير العالميين والوصول لأعلى درجة في الهيكل الوظيفي الهرمية. لا خلاص منها!
قد يتحول هذا العامل المحفز إلى فخ ويفسد عامل المنافسة الرغبة. يلاحظ عالم النفس الاجتماعي "فينسينت دو غوليجاك" هذا في المجموعات التي يقودها في المسار الاجتماعي. "الحسد يقحم المتلهف في مواجهة مباشرة مدمرة تبيد رغبته" مقتبس من "إرث التاريخ ورواية عائلية ومسار اجتماعي، شركة "ديكليه دو بروير" (Desclée de Brouwer).
تماماً مثل شخصية الرسوم المتحركة الوزير "إزنوغود" الذي كان مبتغاه الوحيد أن يحل محل الخليفة الحالي؛ نجازف بعد ذلك بحشد جميع مواردنا وقواتنا لتنفيذ مشروع لن يفيدنا بالضرورة في النهاية. اكتشف آخرون في المقابل أن شَغلهم منصباً أكثر سريةً يمكّنهم من الازدهار ونشر جميع مواهبهم.
3. متلازمة "زيليغ"
قد يحرفنا تعطشنا لإثبات أنفسنا أو الانتماء عن طريقنا من خلال الضغط على أنفسنا لنتوافق مع الآخرين ونشبههم على أمل أن نصبح جزءاً من الصورة العامة. إذاً هذه هي متلازمة "زيليغ" التي اشتُق اسمها من فيلم "زيليغ" لـ "وودي آلان" الصادر في عام 1983. طمس شخصيته لكي يكون محبوباً، وجرب ما يماثل تحولات الحرباء ليندمج في المجموعة؛ إذ كان يتحول لأسود بين السود وسمين بين السِمان وضئيل بين الضئيلين!
يتصرف بعض الناس مثله، فحتى لا يخسروا حب والديهم أو أزواجهم أو أقرانهم يظلون منكبين على المكان الذي خصصه لهم الآخرون، ومتشبثين بشدة بالمشاريع التي رسموها لهم.
4. ابحث عن تفردك
وهل هو بالأحرى مسألة جرأة لتأكيد سماتنا المميزة أم اختلافاتنا؟ ماذا لو وجد كل واحد منا لمسته الشخصية ولحنه الخاص بدلاً عن الامتثال للمعايير؟ يمكن أن يكون الإصغاء إلى ما يحركنا من أعماقنا ويجعلنا أكثر حيوية ورغبة دائماً بمثابة بوصلة توجهنا في حياتنا.
حدثتنا قارئة تدعى"سيلين" عن ذلك في بريد إلكتروني عفوي قبل بضعة أسابيع. واجهت "موظفة البنك الخاصة" أزمةً خطيرةً بعد تكريسها 9 سنوات في مجال التمويل؛ إذ أصابها تصدع عاطفي وأدركت أنها ما زال أمامها أربعين عاماً من العمل.
تنامت فيها فكرة أن مكانها لم يعد مناسباً لها شيئاً فشيئاً، وعانت من اختلال توازن عالجَته من خلال التأمل. كتبت في البريد الذي أرسلته: "إن وضع نفسك في مواقف صعبة ومواجهتها أصعب بكثير من دفنها في حياة لا تحبها إلا في عطل نهاية الأسبوع". لكن أتاحت عودة "سيلين" إلى نفسها قبل كل شيء إدراك أن أكثر ما تحبه في الحياة، وفي جميع الظروف، كان "أن ترى بهجة الناس". لذا قررت أن تجعل هذه السمة الحافز الخاص بها، وأسست شركتها لتنظيم المناسبات الخاصة. أدركت في عامها الـ 28 أن مكانها موجود أولاً في أعماق نفسها.
رأي الطبيب النفسي "جيرارد أبفيلدورفر"
بالنسبة للمختص في سلوكيات تناول الطعام "جيرارد أبفيلدورفر"، فإن الصورة الظلية هي انعكاس للمساحة التي نمنحها لأنفسنا، خاصةً في عيون الآخرين.
علم النفس: هل تكشف بدانتنا شيئاً عن مكاننا الحالي؟
يقول "جيرارد أبفيلدورفر": من البديهي أننا لا نستطيع التعميم؛ لكن في كثير من الأحيان يشعر السمان في الواقع بأنهم لا يستحقون مكانهم. يرتبط وزنهم بشعورهم بالخزي وانتقاص الذات، لهذا تجد العديد منهم يتبنون شخصية "البدين الطيب"؛ ذاك الصديق اللطيف أو الصديق الطيب والمضحك والكادح عندما يرغب. هذا أسلوبهم الذي يحاولون من خلاله دوماً نَيل مكانهم بين الآخرين.
هل يمكن أن يترافق تغيير المكان مع تغيير الصورة الظلية؟
مثلاً يحدث أن يسبق فقدان وزن كبير حالة الطلاق. وبالتالي لا يكون فقدان الوزن بالضرورة نتيجة اتباع نظام غذائي؛ بل هو بالأحرى تأثير طفرة نفسية، وهي أننا نريد أن نكون جذابين منذ الآن.
هل تقابل النحافة رغبتنا في أن تكون غير مرئيين؟
بالنسبة لبعض المصابين بفقدان الشهية تكون الفكرة عكس ذلك؛ أي أنها تقابل تركيز انتباه من حولهم عليهم، فهم لم يشغلوا أبداً مساحةً كبيرةً كأنهم أصبحوا متضائلين. وفي المقابل يمكن أن تكون السمنة وسيلةً لإخفاء الذات على الرغم من أن المرء لا يمكن إلا أن يُلاحَظ. إن العلاقة بين الصورة الظلية (سمين، نحيف، طويل، صغير) و"مكاننا المناسب" في عيون الآخرين ليست قاطعةً أبداً.