ملخص: بات الباحثون يهتمون مؤخراً بدراسة العلاقة بين الالتهاب والصحة النفسية؛ حيث تستكشف الأبحاث المستمرة وجود دور للالتهاب في تطور بعض الاضطرابات النفسية؛ ومنها دراسة حديثة تربط ما بين الالتهاب المزمن والأفكار الانتحارية.
محتويات المقال
يموت أكثر من 700,000 شخص منتحرين كل عام، وعدد الأشخاص الذين يحاولون الانتحار أكثر من ذلك بكثير؛ وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية عام 2023. والانتحار ليس قراراً؛ بل عَرضٌ من أعراض المرض النفسي وفقاً للطبيب النفسي نايف المطوع.
وثمة العديد من العوامل التي قد تدفع الشخص نحو الانتحار؛ تشمل عوامل اجتماعية ونفسية وبيولوجية. وعندما يتعلق الأمر بالمسببات البيولوجية، فإن الآليات العصبية الجزيئية ما زالت غير مفهومة إلى حد كبير. لذلك؛ حاول العلماء فهم هذا اللغز وفك الترابط الغامض بين الحالات الالتهابية الشديدة والنزعة نحو الانتحار، وإليك ما توصلت إليه أحدث الدراسات في هذا الاتجاه.
اقرأ أيضاً: هل يحفز دواء أوزمبيك لعلاج السكري الأفكار الانتحارية؟
ما العلاقة بين الالتهابات وزيادة الأفكار الانتحارية وفقاً لهذه الدراسة الحديثة؟
وجدت دراسة منشورة في مجلة الطب النفسي الجزيئي (Molecular Psychiatry) في نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2023، أجراها فريق من الباحثين في معهد فان أندل (Van Andel Institute) بقيادة أستاذة كلية الطب، لينا بروندين (Lena Brundin)، أن الالتهاب المستمر قد يسبب خللاً ساماً يغير كيمياء الدماغ على نحو يُفاقم خطر الانتحار.
حيث قارن الفريق البحثي أدمغة 29 شخصاً توفوا منتحرين مع أدمغة 32 شخصاً توفوا لأسباب أخرى، وحرص الباحثون أن تكون أجسام الأشخاص المنتحرين خالية إلى حد كبير من الأدوية المضادة للاكتئاب والذهان، بهدف أن تكون التغيرات الدماغية أكثر دقة. وقد وجدوا مجموعة من التغيرات في أدمغة الأشخاص المنتحرين لم تكن موجودة عند مجموعة المقارنة؛ وهي:
- انخفاض نشاط الجين (NPAS4) الذي ينظم الالتهاب، ويساعد في الحفاظ على صحة خلايا الدماغ.
- ارتفاع التحفيز الزائد؛ وهي عملية التهابية تسهم في موت الخلايا. التحفيز الزائد على وجه التحديد هو التعرض المفرط إلى بعض النواقل العصبية، أو المبالغة في تحفيز مستقبلاته الغشائية؛ ما يؤدي إلى تضرر الخلايا العصبية أو موتها.
- انخفاض نشاط الخلايا الدبقية القليلة التغصن؛ وهي خلايا متخصصة تحمي الألياف العصبية. ووُجد أن هذه الخلايا قد تتأذى نتيجة الأضرار الناجمة عن الالتهاب؛ ما يترك الألياف العصبية عرضة إلى الخطر.
معنى هذا الكلام أن الالتهاب يغيّر كيمياء الدماغ على نحو يقلل نشاط الجين (NPAS4)، وتقليل نشاط هذا الجين يؤدي بدوره إلى زيادة الإجهاد التأكسدي، والتهاب الأعصاب، ويعوق التطور العصبي السليم، علاوة على أن الالتهاب الشديد يقلل نشاط الآليات التي تحمي الدماغ؛ فتسهم هذه العوامل منفردة أو مجتمعة في خلق بيئة في الدماغ تتفاقم فيها المشاعر السلبية والأفكار الانتحارية.
يأمل الباحثون أن تساعد هذه الدراسة الأطباء مستقبلاً على إجراء فحوصات دم للتقصي عن مؤشرات حيوية (مواد قابلة للقياس) لتقييم مخاطر الانتحار، ووضع استراتيجيات لتقييم اختيارات العلاج؛ بما فيها علاج الالتهابات.
اقرأ أيضاً: ما هي الإكزيما العصبية؟ وكيف يمكن علاجها؟
كيف يؤثر الالتهاب المزمن في الصحة النفسية؟
بدايةً، ينبغي إدراك أن الالتهاب ليس أمراً سيئاً دائماً، فهو جزء مهم من استجابة الجهاز المناعي الطبيعة ضد الإصابة أو العدوى أو الإجهاد. مع ذلك، ينبغي أن يتوقف الالتهاب بمجرد شفاء الإصابة؛ في حين أن الاستجابة المفرطة والمستمرة للجهاز المناعي، التي تُسمَّى "الالتهاب المزمن"، قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض؛ مثل تصلب الشرايين وأمراض المناعة الذاتية.
كما قد يكون الالتهاب عاملاً مسبباً أو مسهماً في العديد من حالات الصحة النفسية؛ مثل الاكتئاب والقلق واضطراب الوسواس القهري. وفي الحالات القصوى، يمكن أن يؤدي التهاب الدماغ المناعي الذاتي إلى الذهان. وأسباب هذا التأثير لا تخلو من التعقيد؛ إذ قد يؤدي الالتهاب إلى انخفاض التلذذ وفقاً لمراجعة علمية منشورة في دورية المراجعات الدوائية (Pharmacological Reviews) عام 2021؛ إذ يؤثر في أنظمة الناقلات العصبية والدوائر العصبية في مناطق الدماغ تحت القشرية؛ بما فيها الجسم المخطط الذي يعمل بوصفه نقطة تكامل لمعالجة المكافآت واتخاذ القرارات التحفيزية.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تحلل العلاقة الغامضة بين كثرة تناول المسكنات وتدهور صحتك النفسية
كما يؤدي الالتهاب إلى انخفاض تخليق الدوبامين وإطلاقه وإعادة امتصاصه وزيادة الغلوتامات المشبكية وخارج المشبكية والتأثير في الناقلات العصبية الأخرى، ويقلل الروابط الوظيفية بين الجسم المخطط وقشرة الفص الجبهي؛ ما يؤثر سلباً في نظام المكافأة في الدماغ.
بالإضافة إلى أن انخفاض الدوبامين الناتج من الالتهاب قد يسهم في إحداث ما يسمَّى بـ "التباطؤ الحركي النفسي" وفقاً لدراسة منشورة في دورية الطب النفسي الجزيئي (Molecular Psychiatry) عام 2021؛ وهذا يعني انخفاضاً في سرعة الأنشطة البدنية والدماغية.
فالدوبامين ناقل عصبي يؤدي دوراً حاسماً في تنظيم الحركة والمكافأة، وعندما تنخفض مستوياته، يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ كلٍّ من الجسم والدماغ؛ ما يسهم في ظهور الأعراض التي غالباً ما تُلاحَظ في الاكتئاب مثل التباطؤ، وصعوبة التركيز، والشعور العام بالخمول.
يساعد هذا الارتباط بين الالتهاب ومستويات الدوبامين واستجابة الدماغ، في تفسير كيف يمكن للتغيرات الجسدية أن تؤثر في مشاعر التعب والحافز؛ ما قد يسهم في الإصابة بالاكتئاب والحالات النفسية الأخرى.
والجدير بالذكر أن الأدوية المضادة للالتهابات؛ بما فيها الأسبرين والإيبوبروفين، أظهرت تحسناً ملحوظاً في علاج الاكتئاب والقلق؛ ما يشير إلى وجود صلة محتملة بين الصحة النفسية والالتهابات، ويقترح بعض الباحثين أن بعض مضادات الاكتئاب قد تعمل جزئياً بسبب خصائصها المضادة للالتهابات، أكثر من تثبيطها لإعادة امتصاص الناقلات العصبية.
اقرأ أيضاً: دور الالتهاب والجهاز المناعي في الإصابة بالاكتئاب
6 نصائح لتقليل الالتهاب المزمن
تشمل أعراض الالتهاب المزمن أوجاع البطن أو الصدرية، أو الشعور بالتعب، أو الحمى، أو آلام المفاصل، أو تقرحات الفم، أو الطفح الجلدي. عموماً، يمكن تقليل الالتهاب المزمن عن طريق تغيير نمط الحياة، وإليك ما يمكنك فعله:
- تناول الأطعمة المضادة للالتهابات: مثل الخضروات الورقية الخضراء، وزيت الزيتون، والطماطم، والأسماك الدهنية، والمكسرات، والفاكهة.
- تجنب الأطعمة التي تسبب الالتهابات: مثل الكربوهيدرات المكررة (خبز أبيض ومعجنات)، والبطاطس المقلية، والمشروبات الغازية، واللحوم المصنعة.
- ممارسة تقنيات إدارة التوتر: مثل التأمل وكتابة اليوميات واليقظة الذهنية.
- الحرص على ممارسة التمرينات الرياضية بانتظام.
- الحصول على قسط كاف من النوم واتباع ممارسات النوم النظيف.
- طلب استشارة الطبيب في حال معاناة بعض الأعراض الجسدية أو النفسية غير الطبيعية.