ملخص: لماذا نخاف الالتزام بعلاقة جدية؟ هذا السؤال مهم جداً لتفسير ظاهرة العزوف عن الزواج وتنامي حالات الطلاق وتنصّل الكثيرين من مسؤولياتهم الأسرية. من المؤكد أن الأمر لا يتعلق بظاهرة اجتماعية فحسب؛ بل يشمل أيضاً عوامل نفسية كامنة في اللاوعي ومؤثرة في شخصية الفرد الذي يخاف الالتزام. هذه الأسباب اهتم بها المعالج النفسي بيير نانتاس وتمكّن من حصرها في 4 مخاوف أساسية. إليك التفاصيل.
محتويات المقال
بينما نبتعد عن أنماط العلاقات التقليدية، نتخلّى أيضاً عن المواصفات النمطية التي تحملها. لقد أدى ذلك إلى ظهور نوع مميّز من العلاقات العاطفية: "العلاقات العابرة". يصف هذا التوجّه الذي يشهد تنامياً ملحوظاً العلاقة الرومانسية الخالية من أيّ التزام أو معايير أو توقّعات.
إذا كان الغموض الذي يميّز هذا النوع من العلاقات يناسب طرفيها أحياناً، فقد يؤدي في المقابل إلى معاناة وخيبة أمل عندما يرغب أحد الشريكين في إثارة موضوع الالتزام؛ بينما يفضل الثاني ترك العلاقة تسير في منحاها دون التساؤل عن مآلها. في هذه الحالة، يصبح التواصل أمراً ضرورياً، ولا سيّما أنّ الوقت يمضي بسرعة. في هذا السياق، أظهر استطلاع رأي أجراه معهد دراسات الرأي والتسويق بفرنسا (Ifop) أن المجتمع المعاصر يتعرّض إلى الزعزعة بسبب ما يسمّيه البعض "أزمة الالتزام" التي تتميّز بتراجع الزواج، وارتفاع نسب الطلاق، وضعف نسب الخصوبة والإنجاب، مع ازدهار تطبيقات المواعدة التي تشجّع العلاقات العابرة. في المقابل، يؤدي تطور الاحتياجات والتوقعات الفردية وتنوعها إلى تشجيع استكشاف البدائل المتاحة لنموذج علاقات الحبّ التقليدية وفقاً للمختصّة في علم النفس السريري، كلير بيتان (Claire Petin): "في هذا السياق، تتعرّض معايير العلاقة الزوجية النمطية والأسرة النووية إلى التشكيك؛ بينما تتطوّر صور المواعدة، ويتزايد الفصل بين العلاقات والزواج؛ في حين ينظر البعض إلى الخوف من الالتزام على أنه آفة، وتصطدم صور هذا الخوف بالمعتقدات الشائعة حول العلاقة الزوجية وعلاقات الحب التقليدية؛ ومن ثمّ يصبح الالتزام شرطاً هشاً".
الارتباط غير الآمن خلال الطفولة
ما الذي يخفيه هذا الخوف من الالتزام في الحقيقة؟ هل هو خوف من المعاناة أم انعكاس للماضي الأليم أم غياب للثقة بالنفس؟ ليس هناك تفسير وحيد وفريد لأنّ أسباب هذه الظاهرة متنوعة. يرى المعالج النفسي بيير نانتاس (Pierre Nantas) أن من أبرز هذه الأسباب الماضي الشخصي، ولا سيّما خلال الطفولة المبكرة (طلاق الوالدين أو انفصالهما أو الخيانات التي حدثت في زواجهما إلى غير ذلك)، أو خلال المراهقة (المغازلات أو فشل العلاقات أو الخيانات إلى غير ذلك). تؤدي هذه الوقائع إلى بناء نمط مبكّر غير ملائم يولّد أفكاراً تلقائية تفرض على صاحبها عدم المخاطرة ببناء المزيد من العلاقات التي لا جدوى منها لتجنّب خيبة الأمل، أو الحبّ من طرف واحد، أو التعرّض إلى التجاهل أو الرفض أو الهجر. وترتبط هذه المواقف أو الأعراض دائماً بحالات الارتباط غير الآمن خلال الطفولة المبكرة، علاوة على أنها تقترن بالصدمات السابقة أو عجز الوالدين عن الاعتراف بعواطف الطفل أو تقبّل معاناته.
بعد بلوغ الطفل سنّ الرشد وتعرّضه إلى صدمة أو عدّة صدمات عاطفية، يمنعه هذا الخوف مجدداً من بناء علاقة جديدة، فتجده "ينتقل" من علاقة إلى أخرى مركّزاً على بعدها المادّي فقط مع تفضيل المواعدات "العابرة". بل يفضل بعض الأشخاص أحياناً نسيان هذه العلاقات العابرة نفسها والتخلص التام من أيّ رغبة في الارتباط بالآخر، فيفقدون أيّ "اتصال" بالسياق الاجتماعي الذي يعيشون فيه. بعد هذا الحرمان "العقلي والجسدي والقلبي" لا يعي الشخص المستقل عاطفياً على العموم الأسباب الحقيقية التي تجعله عاجزاً عن الارتباط بأيّ شخص، فتجده لا يعرف طعم المعاناة لأنّه لا ينخرط في أيّ علاقة؛ لكنّه قد يسبّب المعاناة لشريك يعاني الاعتماد العاطفي من خلال إيهامه بالرغبة في بناء علاقة جدية؛ بينما لا يريد في الحقيقة سوى علاقة عابرة أو التخلص مؤقتاً من شعوره بالوحدة. للتعمّق في تفسير هذه الظاهرة، إليك 4 معتقدات تترسخ في الطفولة، وتعوّق قدرة الشخص على الالتزام في إطار العلاقات وفقاً لبيير نانتاس:
1. الخوف من اختيار الشريك غير المناسب أو عدم نيل إعجابه
من الصعب على الشخص الذي يخاف الالتزام أن يتخّذ قراراً، وهناك أسباب عديدة وراء هذه المفارقة. قد يكون السبب هو الخوف من الفشل أو الخوف من اختيار الشريك غير المناسب ثم التحسّر على ذلك لاحقاً والغرق في مشاعر الندم. إنّه شخص مثالي يتميّز بنمط البحث عن المطالب العالية والسعي نحو الكمال للذات والآخر أيضاً. علاوة على ذلك، تغذي ذكريات الماضي الأليم خوفه من المستقبل إلى درجة تنسيه الاستمتاع بالحاضر.
2. الخوف من تحمّل المسؤولية
ينطوي لفظ "المسؤولية" على مخاطرة طويلة الأمد. لذا؛ يشعر هذا الشخص الذي يخاف الالتزام بالاختناق والضغط، وينسى بسبب تأثير خيانة أو إساءة تعرّض إليها في الماضي أنّ بإمكانه الثقة بنفسه والآخرين.
3. الخوف من فقدان الحرية والراحة
من المفيد للشخص الذين يخشى الالتزام في إطار علاقة عاطفية أن يراجع أسلوب تمتّعه بحريته؛ بمعنى أن يدرك كيفية اغتنام هذه الحرية للشعور بالرضا وتحقيق الذات. عليه إذاً أن يعي أنّ مقابلة شريك الحياة لا تعني نسيان عالمه الشخصي ودخول عالم الآخر؛ هذا هو نمط التضحية بالنفس والقهر الذي تجب مراجعته.
4. المفارقة الكبرى: الخوف من النجاح
الخوف من الالتزام يعني الخوف من التغيير ومستجدّات الحياة، وظهور المزيد من الشكوك التي سيتعين على الفرد التعامل معها. والنجاح يعني تذوق لذة الإنجاز والسعادة والرضا في لحظة من اللحظات. وقد تتأثر هذه الفرصة كثيراً بالخوف من الفشل أو مخالفة أوامر الوالدين الكامنة في اللاوعي بإنجاز الواجب قبل الاستمتاع.
اقرأ أيضاً: