ملخص: توصلت دراسة بحثية حديثة نُشرت في دورية نيتشر جينيتكس (Nature Genetics) في مارس/آذار 2024، إلى نتيجة تؤكد ارتباط الجينات مع الإصابة بالاكتئاب، وما يميز هذه الدراسة تحديداً هو أنها كانت واسعة النطاق، وشملت مشاركين من أفريقيا وشرق آسيا وأميركا اللاتينية، فما النتائج التي توصلت إليها الدراسة؟ وكيف فتحت الباب لدراسات أكثر عمقاً تحاول فهم ماهية الاكتئاب؟ الإجابة من خلال هذا المقال.
محتويات المقال
الاكتئاب اضطراب نفسي معقد يؤثر في الحالة المزاجية، ويسبب مشاعر طويلة من الحزن والفراغ وفقدان الاهتمام بالأنشطة التي كنا نستمتع بها في السابق. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية (WHO)؛ يعاني نحو 280 مليون شخص الاكتئابَ على مستوى العالم، وتتداخل عدة عوامل في الإصابة بالاكتئاب؛ بما فيها الضغوط الحياتية والعوامل الوراثية والجينية. وحتى الآن، لا تزال الدراسات العلمية تحاول فهم الآلية المعقدة لهذا المرض؛ حيث أظهرت أول دراسة بحثية حديثة واسعة النطاق نُشرت في دورية نيتشر جينيتكس (Nature Genetics) في مارس/آذار 2024، أن هناك ارتباطاً بين الجينات والاكتئاب، فما دور جيناتك في اكتئابك؟ الإجابة من خلال هذا المقال.
ما العلاقة بين جيناتك وحالتك المزاجية؟
ثمة علاقة معقدة بين الجينات والحالة المزاجية. في البداية، علينا أن نشرح ماهية عمل الجينات، فهي تؤدي دوراً أكبر من مجرد تحديد لون أعيننا أو ما إذا كنا طوالاً أو قصار؛ الجينات مسؤولة عن إنتاج البروتينات التي تدير كل شيء في أجسامنا. يظهر بعض البروتينات؛ مثل تلك التي يتكون منها الشعر والبشرة، وتعمل بروتينات أخرى بعيداً عن الأنظار لتنسيق وظائفنا البيولوجية الأساسية.
وتحتوي كل خلية في أجسامنا الجينات نفسها بالضبط؛ ولكن داخل الخلايا الفردية، تكون ثمة جينات نشطة بينما لا يكون البعض الآخر كذلك. عندما تكون الجينات نشطة، فإنها تكون قادرة على إنتاج البروتينات، وتسمى هذه العملية بـ "التعبير الجيني"؛ أما عندما تكون الجينات غير نشطة، فإنها تكون صامتة أو لا يمكن الوصول إليها لإنتاج البروتين.
باختصار، يُتَحكم في كل جزء من جسمك؛ بما فيه دماغك، عن طريق الجينات؛ حيث تصنع الجينات البروتينات التي تشارك في العمليات البيولوجية. ولكن إذا أخطأت الجينات أو كانت غير نشطة، فإنها يمكن أن تغير بيولوجيتك بطريقة تؤدي إلى عدم استقرار مزاجك. وفي حالة الشخص المعرض جينياً إلى الاكتئاب، فإن أي ضغط مثل التأخر عن العمل أو الإصابة بأحد الأمراض يمكن أن يؤدي إلى اختلال توازن هذا النظام.
ويؤثر العديد من الجينات في الاستجابة للضغط النفسي؛ ما يجعلنا أكثر أو أقل عرضة إلى الإصابة بالاكتئاب. على سبيل المثال؛ إذا حدث في مرحلة ما من حياتك وواجهت أحداثاً صادمة مثل وفاة أحد أفراد أسرتك أو فقدان عملك أو الانفصال عن شريك حياتك، ففي هذه الحالة، يؤثر التركيب الجيني لديك في مدى حساسيتك لتلك الأحداث المجهدة، وعندما تجتمع الوراثة والبيولوجيا ومواقف الحياة العصيبة معاً، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدهور حالتك المزاجية وإصابتك بالاكتئاب.
وحتى حالتك المزاجية العامة مثل مدى انفعالك في بعض المواقف، ورغبتك في الانسحاب أو الانخراط في أنشطة الحياة الاجتماعية، تتحدد من خلال الميراث الجيني الخاص بك والتجارب التي مررت بها خلال حياتك، فبعض الناس قادرون على اتخاذ قرارات أفضل في الحياة بسبب جيناتهم الوراثية، والبعض الآخر قد يتجنب التورط في هذه الحياة ويخشى المخاطرة للسبب نفسه.
وفي هذا السياق، يؤكد الطبيب النفسي عبد الله غلوم إن الاكتئاب قد يحدث بسبب خلل في المواد الكيميائية في المخ، وهذا الخلل قد يحدث بسبب الاستعداد الوراثي أو الجيني. وعلى الرغم من أن الحالة المزاجية العامة والنظرة إلى العالم قد تسببان الاكتئاب، فإنهما قابلتان للتغيير من خلال العلاج النفسي والأدوية.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن نرث الأمراض النفسية من آبائنا؟ إليك الإجابة العلمية
دراسة حديثة تكشف دور جيناتك في اكتئابك
توصلت الدراسة البحثية الحديثة التي نشرتها دورية نيتشر جينيتكس إلى نتيجة مفادها أن الجينات ترتبط بحالات الإصابة بالاكتئاب، وقد شملت هذه الدراسة، للمرة الأولى، أشخاصاً من أصول غير أوروبية مثل أفريقيا، وشرق آسيا وجنوبها، وأميركا اللاتينية، فمعظم الدراسات السابقة التي أُجريت في هذا الموضوع كانت تعتمد على مجموعات سكانية تتكون في الغالب من أشخاص أوروبيين.
وقدمت النتائج دليلاً قوياً على أن زيادة التنوع الجغرافي للسكان الذين أُخذت عينات منهم في الدراسات الجينية قد تكون ذات أهمية خاصة لضمان اكتشاف "الجينات الأساسية" المرتبطة بخطر الإصابة بأمراض معينة. وفي الدراسة الحالية، اكتُشف العديد من مواقع الخطر الجينية الجديدة في العينة غير الأوروبية المجمعة، بالإضافة إلى العديد من الجينات التي لم تُربَط من قبل بالاكتئاب، ويعد هذا اكتشافاً كبيراً لأنه يلقي ضوءاً جديداً على بيولوجيا الاكتئاب؛ بما فيها عوامل الخطر والسببية، بالإضافة إلى الأهداف الجديدة المحتملة للعلاج.
وقد كشفت الأبحاث الجينية السابقة التي أُجريت على مجموعات أوروبية عن البنية الجينية المعقدة للغاية للاكتئاب؛ أما هذه الدراسة البحثية الحديثة فقد حددت موقع 53 جيناً مرتبطاً بالاكتئاب، وذلك باستخدام تقنية تسمى "رسم الخرائط الدقيقة" تحلل التعبير الجيني، بالإضافة إلى تمكن الفريق البحثي من العثور على مواقع خطر جديدة وجينات خطر محتملة؛ ولهذا فإن تنوع العينة غير الأوروبية مع حجم العينة الكبير مكّن الفريق من مقارنة فهم العوامل الوراثية المسببة للاكتئاب عبر الجينات الوراثية.
ويمكن القول إن هذه الدراسة تمثل نقطة انطلاق من أجل إجراء المزيد من الأبحاث التي تخص موضوع الاكتئاب، وأحد الموضوعات التي طُرحت للنقاش وتجب دراستها بدقة هو معرفة مدى علاقة مؤشر كتلة الجسم بالاكتئاب، فالناس في شرق آسيا لديهم عنصر خطر مقارنة بالأشخاص من أصل أوروبي؛ حيث يرتبط انخفاض مؤشر كتلة الجسم وانخفاض خطر التمثيل الغذائي المنتشرَين في شرق آسيا بارتفاع خطر الإصابة بالاكتئاب؛ وهو لغز محير.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع اكتئاب طفلك؟
7 إرشادات فعالة للتعامل مع الاكتئاب
يعد الشعور بالاكتئاب أمراً مؤلماً ومنهكاً؛ وذلك لأنه يؤثر على نحو كبير في جودة حياة الأفراد؛ حيث يُفقدهم الشعور بالحياة ويؤثر في علاقاتهم الشخصية وإنتاجيتهم في العمل، وهذه أهم الإرشادات للتعامل مع الاكتئاب:
- مارس الرياضة: تتمتع التمارين الرياضية بفوائد إيجابية متعددة تتجاوز المساعدة في علاج أعراض الاكتئاب؛ مثل تحسين صحة القلب والأوعية الدموية، وفقدان الوزن، وتقليل خطر الإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة. وفي الكثير من الأحيان، تَصعُب على المصابين بالاكتئاب ممارسة الرياضة؛ لذلك من الأفضل البدء بخطوات صغيرة مثل المشي مسافةً قصيرة كل يوم، أو ممارسة تمارين رياضية مدة 10 دقائق في المنزل، أو تشغيل بعض الموسيقا والرقص؛ كلها أنواع مناسبة من التمارين الرياضية لتقليل الاكتئاب، وتعمل الرياضة على إفراز هرمون الإندورفين الذي يحسن الحالة المزاجية.
- تناوَل الأطعمة الصحية: عندما يعاني الشخص الاكتئاب، فإنه يميل إلى تناول الطعام غير الصحي مثل الوجبات السريعة السكرية والمالحة والغنية بالدهون؛ التي يمكن أن تجلب شعوراً مؤقتاً بالراحة؛ ولكن في النهاية، تسبب هذه الأطعمة ارتفاعاً في نسبة السكر في الدم وزيادة الوزن وتؤثر سلباً في الحالة المزاجية. ولذلك؛ يجب عوضاً عن ذلك تناول الطعام الصحي مثل خبز الحبوب الكاملة والفواكه الطازجة والسلطات واللحوم الخالية من الدهون والأسماك الزيتية مثل السلمون. والحقيقة أن الأطعمة الصحية توفر مضادات الأكسدة التي تساعد على حماية الجسم من الإجهاد التأكسدي وتلف الخلايا.
- أجرِ تغييراً في روتينك: عندما يصاب الشخص بالاكتئاب، فإنه يدخل في روتين يعزز أعراض الاكتئاب. على سبيل المثال؛ قد يستيقظ الشخص المكتئب، ويذهب إلى العمل، ويعود إلى المنزل، ويشاهد البرامج نفسها على شاشة التلفزيون كل ليلة، ثم ينغمس في تناول الأطعمة غير الصحية قبل الذهاب إلى السرير. جدول كهذا يمكن أن يجعل الشخص يشعر بالسوء تجاه نفسه. وفي هذه الحالة، من المفيد إجراء بعض التغييرات في الروتين، وليس بالضرورة أن يكون هذا التغيير جوهرياً أو كبيراً؛ بل يكفي بعض التغييرات البسيطة. على سبيل المثال؛ بدلاً من التوجه مباشرة إلى التلفزيون بعد العودة إلى المنزل من العمل، التزم بالمشي مسافةً قصيرة أولاً، وبدلاً من تناول عشاء غير صحي، ابذل مجهوداً بسيطاً لتناول وجبة صحية أكثر.
- افعل الأشياء التي اعتدت الاستمتاع بها: بينما لا يمكنك إجبار نفسك على الاستمتاع أو تجربة المتعة في أثناء الاكتئاب، يمكنك دفع نفسك إلى فعل بعض الأشياء حتى عندما لا تشعر بالرغبة في ذلك. قد تتفاجأ بمدى شعورك بالتحسن بمجرد خروجك إلى العالم، حتى لو لم يختفِ اكتئابك على الفور، فستشعر تدريجياً بمزيد من التفاؤل والنشاط عندما تخصص وقتاً لممارسة الأنشطة الترفيهية.
- مارس تقنيات الاسترخاء: يمكن أن تساعد ممارسة تقنيات الاسترخاء اليومية على تخفيف أعراض الاكتئاب وتقليل التوتر وتعزيز مشاعر الفرح والرفاهية. جرّب اليوغا أو التنفس العميق أو استرخاء العضلات التدريجي أو التأمل.
- كن ممتناً للأشياء من حولك: قد يبدو الأمر بسيطاً؛ لكن قضاء بضع دقائق في ملاحظة الأشياء التي تقدرها في حياتك يمكن أن يكون له تأثير ملحوظ في مستويات التوتر والحالة المزاجية لديك. جرّب أن تكون ممتناً لأشعة الشمس المشرقة أو ابتسامة أحد الجيران، ومع مرور الوقت يمكن أن يساعدك الامتنان على تحسين حالتك النفسية.
- اطلب المساعدة الطبية المتخصصة: إذا حاولت اتباع الخطوات السابقة وأجريت تغييرات إيجابية في نمط حياتك وما زلت تجد أن اكتئابك يزداد سوءاً، فاطلب المساعدة المتخصصة، وتذكّر أن احتياجك إلى المساعدة لا يعني ضعفك، ففي بعض الأحيان، قد يجعلك التفكير السلبي في حالة الاكتئاب تشعر وكأنك ضائع، وفي هذه الحالة، سيساعدك الطبيب النفسي على التعامل مع مشاعر الاكتئاب، ويمكنك أن تشعر بالتحسن!