ملخص: من المعروف لنا جميعاً أن بعض الأمراض الجسدية يمكن أن تنتقل بالعدوى مثل الإنفلونزا ونزلات البرد، ولكن هل يمكن أن تنتقل الاضطرابات النفسية أيضاً من خلال العدوى؟ الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر السهل، إذ إن المسألة معقدة ولها الكثير من الجوانب والأبعاد التي سنتعرف إليها من خلال هذا المقال.
محتويات المقال
هل تعلم أنه إذا أصيب شخص قريب منك بالأنفلونزا، فأنت معرض لخطر الإصابة بها أيضاً، إذ ليس هناك شك في الطبيعة المعدية للعدوى البكتيرية أو الفيروسية، لكن ماذا عن الاضطرابات النفسية؟ هل يمكن أن تكون معدية؟ الإجابة هي نعم ولا، فالأمر معقد وذلك لأن الاضطرابات النفسية ليست معدية بنفس طريقة الإنفلونزا ولكنها يمكن أن تنتقل إلى الآخرين، هل سبق لك أن استمعت إلى شكوى زميلك في العمل لفترة طويلة حتى بدأت تشعر بانخفاض حالتك المزاجية؟ هكذا يحدث الأمر، وسنشرح الكثير من تفاصيله عبر هذا المقال.
العدوى العاطفية: هكذا تنتقل الاضطرابات النفسية إلى الآخرين
أكد الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) منذ أكثر من قرن مضى إن البشر بطبيعتهم مقلدون، وإنهم حين يجتمعون في ظروف محددة مثل فترات القلق الشديد أو حالات انعدام اليقين فإن العواطف والسلوكيات يمكن أن تصبح معدية، فنحن البشر كائنات اجتماعية للغاية ونتيجة لذلك، فإن أفكارنا وأفعالنا وعواطفنا -بما في ذلك صحتنا النفسية ورفاهيتنا- تعتمد جزئياً على الآخرين.
وعلى الرغم من أن الاضطرابات النفسية لا تنتقل إلى الآخرين عبر الوسائل الجسدية فإنها يمكن أن تنتقل من خلال العدوى العاطفية والتي تُعرف بأنها الميل إلى تقليد تعبيرات وألفاظ ومواقف وحركات الآخرين تلقائياً، وغالباً ما تحدث العدوى العاطفية عندما يستجيب شخص ما للمحفزات التي يشعر بها شخص آخر، وعادة ما تحدث العدوى العاطفية من دون وعي، على سبيل المثال إذا شاهدت فيلماً كوميدياً بصحبة آخرين في السينما فسوف تشعر بالرغبة في الضحك الشديد بسبب ضحك الآخرين حتى لو كنت لا ترى الفيلم مضحكاً.
ولكن كما يمكن مشاركة المشاعر الإيجابية بسبب الآخرين، كذلك يمكن تقليد المشاعر السلبية مثل الغضب والإحباط والاكتئاب، فالشخص الذي يعاني من العدوى العاطفية قد يتأثر بالكثير من المشكلات النفسية التي يعاني منها الآخرين مثل قلة النوم وعدم الرغبة في تناول الطعام ومشاعر التوتر والقلق والإجهاد السلبي والذي يشير إلى الضغط العاطفي أو النفسي الذي يمكن أن يتعرض له الأفراد نتيجة التواجد حول شخص يتعرض للتوتر أو جراء التعامل المباشر معه.
كيف تختلف عدوى الأمراض الجسدية عن عدوى الاضطرابات النفسية؟
وصف الاضطرابات النفسية بأنها معدية هو بمثابة التحدث بشكل مجازي؛ إذ لا تتدفق الأفعال والعواطف والأفكار من شخص إلى آخر من خلال آلية نفسية، ولكن من خلال عمليات اجتماعية يومية مثل التقليد والتعاطف والامتثال والتعلم الاجتماعي والتأثير، بالإضافة إلى ذلك تنتقل الإنفلونزا والأمراض الجسدية عبر الاتصال المباشر أو غير المباشر مع المريض، أما عدوى الاضطرابات النفسية فإنها تنتقل من خلال التفاعل الاجتماعي الروتيني، ويعد الاكتئاب والقلق من الاضطرابات النفسية القابلة للانتقال اجتماعياً لكن وسائل انتقالهما تختلف تماماً عن طريقة انتقال الأمراض الجسدية المعدية.
وفيما يتعلق بالاحتماء من العدوى فعادة ما يتم منع انتقال الأمراض الجسدية المعدية من خلال الحجر الصحي أو عزل المريض، لكن العزل ليس اختياراً مطروحاً على الإطلاق في حالة الأمراض النفسية، لأنه قد يؤدي إلى تفاقم الاكتئاب والتفكير في الانتحار، لذلك يحتاج الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب إلى مشاركة أفكارهم ومشاعرهم مع الآخرين، والعزلة يمكن أن تعرضهم لخطر كبير.
وفي الوقت الذي يمكن أن تنتقل فيها عدوى بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب فهناك اضطرابات أخرى غير قابلة للانتقال إلى الآخرين مثل الاضطراب ثنائي القطب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) حيث تُظهر دراسات التصوير العصبي الموسعة على أدمغة مرضى اضطراب ما بعد الصدمة أن العديد من مناطق الدماغ مثل اللوزة الدماغية والحصين وقشرة الفص الجبهي تختلف هيكلياً ووظيفياً عن تلك الموجودة في الأفراد الأصحاء، ولكن اضطراب ما بعد الصدمة يمكن أن ينتقل وراثياً إلى جينات الأطفال، بمعنى أنه اضطراب نفسي ينتقل بالوراثة ولا ينتقل بالعدوى.
اقرأ أيضاً: ما هو العلاج الجدلي السلوكي؟ وما الاضطرابات النفسية التي يعالجها؟
هل يعتبر الاكتئاب معدياً؟
لا يمكنك التقاط عدوى الاكتئاب بنفس طريقة نزلات البرد، ولكن الإنسان بصفته كائن اجتماعي غالباً ما يشكل أنماطاً من السلوك تحاكي تلك التي يتفاعل معها، فكلما زاد الوقت الذي تقضيه مع شخص ما، زاد تأثير سلوكياته عليك، وعندما تكون بالقرب من شخص تظهر عليه أعراض الاكتئاب، فمن المرجح أن تلتقط هذه الأعراض وربما تعاني من الاكتئاب بنفسك، وعادة ما يحدث هذا الأمر للأسباب الآتية:
- نظام الخلايا العصبية المرآتية: أحد الأسباب العصبية المحتملة لعدوى الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب هو نظام الخلايا العصبية المرآتية داخل الدماغ؛ فمن خلال دراسة الدماغ، لاحظ الباحثون تحفيز الخلايا العصبية بسبب تصرفات الآخرين التي تثير المشاعر، ومن خلال محاكاة رد الفعل هذا، غالباً ما يقوم الكثير من الأفراد باستيعاب مشاعر الآخرين ومعالجتها على أنها مشاعر خاصة بهم، وفي النهاية تنتقل المشاعر المكتسبة إليهم.
- التعاطف الزائد: إن قدرة الإنسان على التعاطف أو فهم مشاعر الآخرين يمكن أن يكون لها فوائد، ومع ذلك، عندما تتعاطف بقوة مع شخص يعاني من الاكتئاب، فقد تواجه نفس الأعراض بسبب التعاطف مع حالته، وفي هذا السياق يوضح أستاذ الطب النفسي محمد المهدي إن الاكتئاب يمكن أن ينتقل بالعدوى إلى الطبيب المعالج أو أحد أفراد الأسرة خاصة من خلال التعامل على المدى الطويل.
وعلى الرغم من أن الاكتئاب في حد ذاته ليس معدياً مثل المرض، فإن بعض العوامل قد تجعل الشخص معرضاً لخطره، بما في ذلك:
- الاستعداد الوراثي للإصابة بالاكتئاب.
- إصابة أحد أفراد الأسرة بالاكتئاب أو أحد الاضطرابات المزاجية.
- التعامل بشكل مقرب لأقارب أو أصدقاء مصابين بالاكتئاب في مرحلة الطفولة.
- المستويات المرتفعة من التوتر المفرط بسبب أحداث الحياة الهامة أو التغييرات الكبرى.
- صدمات الطفولة.
- التحديات الصحية المزمنة.
اقرأ أيضاً: ما العادات التي تساعدك على الوقاية من الاكتئاب؟
كيف تتعاطف مع الآخرين وتحمي نفسك من عدوى الاضطرابات النفسية؟
توصلت دراسة بحثية نشرتها دورية تقارير علمية (Scientific Reports) خلال عام 2017 إلى نتيجة مفادها أن التوتر والقلق معديان، فمن خلال هذه الدراسة تبين أن مشاهدة المتحدثين المتوترين في أثناء الاجتماعات أو لقاءات العمل يمكن أن تؤدي إلى زيادة معدل ضربات القلب وأظهرت الدراسة أيضاً أن أولئك الذين لديهم قدر أكبر من التعاطف يميلون إلى امتصاص ضغوط الآخرين بسرعة أكبر، وعلى الرغم من أن التعاطف مع الآخرين سمة إيجابية، فإن التعاطف الزائد يمكن أن يضر بصحتك النفسية، وإليك استراتيجيات التعاطف مع الآخرين وحماية نفسك من عدوى الاضطرابات النفسية:
- حول دفة الحديث إلى الجانب الإيجابي: لنفترض أن أحد أصدقائك يشكو إليك من همومه والتحديات التي تواجهه في أثناء تناولكم العشاء معاً، في هذه الحالة تنصح أستاذة علم النفس السريري في كلية ديفيد جيفن للطب بجامعة كاليفورنيا (University of California) جينيفر تايتز (Jennifer L. Taitz) بتوجيه دفة الحديث إلى الجانب الإيجابي، على سبيل المثال يمكنك إخبار صديقك أنه مر بوقت صعب بالفعل لكنه يجب أن يكون ممتناً على صموده ومحاولة النجاة.
- اعترف بمشاعرك: حين تشعر بالإنهاك الشديد بسبب مشاكل الآخرين، اعترف بتلك بمشاعرك وحاول تسميتها عندما تلاحظها، حيث تؤكد تايتنز إن هذه الطريقة سوف تساعدك بقوة على تنظيم مشاعرك ومحاولة السيطرة عليها.
- أخرج نفسك عقلياً وعاطفياً من الموقف: حاول أن تفصل نفسك عن مشاكل الآخرين، تخيل الموقف كما لو كنت مصوراً تنظر للموقف من على مسافة مناسبة وأنت خارج الكادر، يمكن أن تساعدك هذه الاستراتيجية على إدراك أنك لست بحاجة إلى التورط في ضغوط الآخرين، يمكنك أن تنأى بنفسك عاطفياً وذهنياً.
- اصرف انتباهك بعيداً: تخيل أن صديقك يواجه وقتاً عصيباً، وأنت قد جلست لساعات طويلة تستمتع إلى مشكلاته، بدلاً من قضاء الوقت في الشكوى واجترار الأحزان قوما ببعض الأنشطة المختلفة معاً مثل طهو الطعام أو ممارسة الأنشطة الرياضية أو المشي في الهواء الطلق.