يتجدد النقاش بقدوم عيد الأضحى كل عام حول مسألة مهمة ومؤثرة في الصحة النفسية للطفل، وهي مدى إمكانية حضور الطفل "ذبح الأضحية"، وإذا كان هناك ضرر يترتب على ذلك أو لا.
وتتباين الآراء حول ذلك الأمر على منصات التواصل الاجتماعي، فهناك من يذهب إلى أنه ضروري لتوعية الأطفال بأمور دينهم من الصغر، مع الإشارة إلى أن الكثير من الأطفال حضروا ذبح الأضحية ولم يتأثروا سلباً.
بينما على الجانب الآخر ينادي البعض بمنع الأطفال من حضور ذبح الأضحية، لما لذلك من تأثير سلبي في صحتهم النفسية، ويقف في المنتصف أشخاص آخرون حائرون باحثون عن الضوابط التي يمكن الاعتماد عليها لأخذ قرارهم.
هذا التخبط مفهوم للغاية لأنه وفقاً لأستاذ طب الأطفال والطبيب كريم خان، لا توجد حتى اليوم دراسة علمية أجريت وتوصلت إلى نتيجة تحسم الجدل المتعلق بحضور الأطفال ذبح الأضحية، لذا فالأمر يدور بين ترجيحات ومحاولات للوصول إلى الرأي الأصوب.
من واقع ساحات المسالخ: كيف يؤثر ذبح الحيوانات في الصحة النفسية؟
يمكننا فهم التأثير الذي يحدثه قتل الحيوانات بشكل عام من خلال استكشاف التغيرات التي تطرأ على الصحة النفسية لعمال المسالخ، ولمساعدتنا على ذلك يذهب بنا الطبيب النفسي تشي تشي أوبوايا (Chi-Chi Obuaya) إلى الجذور لتحليل ما يحدث.
يقول الطبيب أوبوايا إن التعامل التقليدي مع اضطراب ما بعد الصدمة يكون من خلال ربطه بحادث صادم محدد، بينما في حالة عمال المسالخ فإنهم يذبحون أحياناً مئات الحيوانات يومياً؛ ما يعني التعرض لصدمات متكررة لا تتوقف.
مؤكداً على نقطة خطيرة هي وجود صلة واضحة للغاية بين العمل في المسالخ والإصابة بالاضطرابات النفسية، وتوضح لنا عالمة النفس راشيل ماكنير (Rachel Macnair) الأعراض التي تظهر على الشخص الذي يقوم بالذبح؛ وأهمها: القلق، والذعر، والاكتئاب، والشعور بالتفكك، وجميعها أعراض ترى "ماكنير" أنها جزء من العواقب النفسية للقتل.
يبرهن أحد عمال المسالخ صحة الأعراض السابقة، فقد عانى من كوابيس تجسدت فيها مشاهد الذبح التي يعيشها في يومه؛ ما جعله يرى أن أهم مهارة يجب أن تتقَن في عمل المسالخ هي القدرة على التفكك؛ بمعنىً أبسط شعور العامل أنه مخدر ولا يتأثر إطلاقاً بمعاناة الحيوانات التي يذبحها.
بحسب تجربة هذا العامل فأحياناً تتدمر الصحة النفسية بصورة توصلها إلى حائط سد، وهذا ما حدث لأحد زملائه الذي كان يردد بشكل مستمر أثناء العمل أنه لن يتواجد في هذا المكان في غضون 6 أشهر، ليظن زملائه أنه سينتقل إلى وظيفة جديدة، أو أنها مزحة ليست أكثر؛ لكن عندما سأله العامل صاحب التجربة عن مقصده انهار وأخبره بأنه يعاني من أفكار انتحارية ولم يعد قادراً على التأقلم، وحينها قدم له الدعم اللازم حتى اجتاز معاناته؛ لكن ذلك الموقف كان دافعاً قوياً له ليترك وظيفته لاحقاً.
خروف الأضحية صديق الطفل الذي يرحل فجأة
هناك ممارسة شائعة لدى الأسر العربية قبل عيد الأضحى، تتمثل في إحضار خروف الأضحية إلى المنزل، ومن ثم قضاء الأطفال معظم يومهم بصحبته يطعمونه ويلعبون معه، وهذا وفقاً لاستشاري طب الأطفال في مستشفى الأمير سلمان بن عبد العزيز بالرياض الطبيب خالد المنيع، يصنع رابطاً وجدانياً بينهم وبين الخروف.
من ثم تكون المفاجأة الصادمة صبيحة يوم العيد، عندما يصطحب والدهم الخروف لذبحه فتنتهي قصتهم السعيدة معه بشكل حزين، وأحياناً لا يقدم الأب أي تفسير لما حدث، بشرح أهداف الأضحية وقصتها التاريخية والسبب في ذلك الذبح.
تلك التجربة قد يمتد أثرها في الطفل بمعاناته لاحقاً من قلق الانفصال، الذي يظهر من خلال أعراض عديدة أهمها رفض الطفل النوم بعيداً عن والدته، أو نومه ممسكاً بيدها، وأحياناً قد يمتنع عن الذهاب إلى المدرسة ليبقى في البيت بوصفه البيئة المحببة إليه. وكذلك؛ قد تستجد أعراض صحية لدى الطفل منها آلام البطن، والصداع، والغثيان، والقيء، ليتجنب الذهاب إلى المدرسة.
الذبح دون سياق مفهوم يحدث كوارثَ
معظم الأطفال الذين يحضرون ذبح الأضحية غالباً لا يكون لديهم فهم واعٍ للسبب الحقيقي وراء ما يحدث أمامهم، ذلك ما تشير إلى خطورته المعالجة النفسية زوفيشان قريشي (Zaofishan Qureshi)، لأنه يدفع الأطفال إلى التركيز على التباهي بأن أضحيتهم أكبر، أو أنهم ذبحوا أكثر من حيوان، وتنسى وسط هذا التباهي الأهداف الحقيقية، وغالباً لا يكون الطفل عنصراً مؤثراً في المرحلة الأهم، وهي توزيع اللحوم على الفقراء، والجيران، والأقارب.
وحتى تتأكد "قريشي" من تحليلها سألت مجموعة أطفال عن سبب ذبح الحيوانات في العيد، فرد عليها أحدهم في الخامسة من عمره" "حتى نأكل لذيذ لحمها بعد شوائه".
لكن الموقف المؤلم عندما تذكر الأطفال جميعهم الأسماء التي أطلقوها على الحيوانات التي ذبحت؛ ما دفع طفلاً في السادسة من عمره إلى الانخراط في البكاء، وهو ما تراه المعالجة النفسية دليلاً واضحاً على إيذاء الطفل عندما يحضر ذبح الأضحية دون سياق واضح ومفهوم.
قد يتطور هذا الأذى لاحقاً بنمو النزعات العدوانية لدى الأطفال تجاه الحيوانات الأليفة كآلية للتكيف مع الخسارة التي حدثت، وأحياناً يصاب بعض الأطفال باضطرابات أبرزها الحديث أثناء النوم، وعدم القدرة على التحكم في البول، ورؤية الكوابيس المتعلقة بمشهد الذبح.
الإجبار لن يفيد
تشتهر بعض البلدان العربية بممارسات شعبية تترافق مع ذبح الأضحية؛ منها وضع اليد في دماء الذبيحة وطبعها على الجدران، وقد تسببت تلك الممارسة في معاناة أحد الأطفال من العصابية التي تظهر على الشخص بميله إلى القلق والاكتئاب والشك بالنفس، بحسب استشاري الطب النفسي في الأكاديمية الطبية العسكرية المصرية الطبيب جمال فرويز.
حيث أجبره والداه على وضع يده في الدم وطبعها على الحائط، معللين موقفهم بأنه حتى لا يظهر طفلهم في موقف جبان، ولا يتميز عنه أحد أبناء عمومته الذين حضروا الذبح.
لكن ذلك أدى لظهور أعراض نفسية لاحقاً بدأت برؤية الكوابيس والصراخ والبكاء، لتتطور إلى سماع أصوات وسوسة مسيئة للدين، وعدم القدرة على النوم إلا على وسادة مائلة، أو لف الملاءة بأسلوب معين؛ ما استدعى علاجه نفسياً.
السؤال الأساسي: ما هو السن المناسب ليحضر طفلي ذبح الأضحية؟
يتساءل الكثيرون عن السن الذي يكون الطفل فيه مؤهلاً لحضور ذبح الأضحية، وهو ما يجيب عنه استشاري الصحة النفسية الطبيب علاء رجب بتأكيده أن لكل شخص بصمة نفسية مميزة؛ لكن بشكل عام من الضروري وصول الطفل إلى مرحلة وعي متقدمة ليشهد ذبح الأضحية.
ويحدث التأهيل لحضور ذبح الأضحية بالتدريج؛ لكن قبل سن السابعة يفضل ألا يرى الطفل مشهد الذبح حتى لا يصاب باضطراب نفسي أو صدمة، ومن بعد سن السابعة يمكن أن يحضر لكن لا يرى لحظة الذبح.
وذلك حتى يصل إلى سن 10 سنوات، وحينها سيكون مدركاً ومتفهماً لما يحدث حوله، فيمكن أن يحضر ذبح الأضحية كاملاً بعد سؤاله عن رغبته بالحضور والتأكد من أنه ليس مجبراً.
رواية قصة سيدنا إسماعيل بحذر
تعد خطوة سرد قصة الأضحية في الدين الإسلامي على الأطفال من الخطوات التأسيسية لحضورهم ذبح الأضحية؛ لكن ذلك يجب أن يكون وفق ضوابط، تشير إليها الباحثة في التربية الإيجابية للأطفال مي علي؛ أهمها مراعاة سن الطفل وملاءمة نموه العقلي وتطوره وحالته النفسية لسرد القصة كاملة أو أجزاء منها، وذلك لأن تفصيلة إحضار الأب السكين لذبح طفله قد تؤذيه نفسياً.
وتؤكد الباحثة على أن ذلك لم يحدث إلا بعد بلوغ سيدنا إسماعيل سن السعي؛ ما يعني أن لكل سن ما يتناسب معه، ويكون الحل البديل في سرد القصة مع الإشارة إلى أن سيدنا إبراهيم رأى في المنام شيئاً صعب عليه تنفيذه، ورغم ذلك ذهب مع ابنه لتنفيذه من باب طاعة أوامر الله، وهنا نزل الكبش الذي فدى سيدنا إسماعيل.
ولجعل القصة ممتعة ينصح بالاستعانة بكتب مصورة وأفلام كرتونية تكون متوافقة مع سرد الوالدين، مع الحرص على عدم إهمال أي تساؤلات من الطفل، والإجابة عنها بحرص.
4 إرشادات ليحضر طفلك الذبح دون الإضرار بنفسيته
ترشد الباحثة مي علي الوالدين إلى خطوات مهمة لتنفيذها بهدف حضور الطفل ذبح الأضحية، مع الحفاظ على صحته النفسية؛ وهي:
- عدم إحضار الأضحية إلى المنزل لتجنب ارتباط الطفل بها، فقد تحدث له صدمة عند ذبحها.
- تدرّج مع طفلك قدر الإمكان، ففي السنة الأولى يمكن أن تشركه في توزيع لحوم الأضحية، ثم في السنة القادمة تجعله يشارك في التقطيع والتوزيع، لينتقل في السنة الثالثة إلى مشاهدة الذبح.
- اشرح للطفل أن للذبح ضوابط يتم وفقاً لها، مع التركيز على الأهداف الحقيقة وراءها من رحمة وإنسانية.
- تجنب إجبار الطفل على حضور الذبح في حال عدم تفضيله ذلك، واحرص على عدم إهانته أو التقليل منه نتيجة قراره.
ما نود التركيز عليه أن إيلاء الاهتمام لصحة الطفل النفسية أمر بالغ التأثير في حياته، والأفعال الشائعة مجتمعياً ليست بالضرورة أن تكون صحيحة علمياً، لذا احرص في عيد الأضحى على تجنيب طفلك الصغير رؤية ما قد يؤذيه لاحقاً.