لماذا نثرثر؟ إليك الأسباب النفسية وكيفية التحكم برغبتك في الكلام

6 دقيقة
التحدث المفرط
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: التحدث المفرط أو القهري هو ميل الفرد للحفاظ على تدفق مستمر للكلمات، غالباً دون وعي بتأثيره في الآخرين. يختلف هذا السلوك عن المحادثات العادية أو الثرثرة المعتادة، حيث يكون مدفوعاً بأسباب نفسية معقدة، مثل القلق، والاضطرابات المزاجية، أو الحاجة إلى السيطرة والاهتمام. ويعاني الشخص صعوبة في التوقف عن الحديث، ما يمكن أن يؤثر سلباً في العلاقات الاجتماعية، إذ قد يفقد المستمعون الاهتمام أو يعدون المتحدث أنانياً. قد يشير هذا السلوك إلى وجود اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب ثنائي القطب. ويمكن السيطرة على الرغبة في الكلام المفرط عن طريق اتباع استراتيجيات مثل التفكير قبل الكلام، وتحديد وقت التحدث، والالتزام بآداب الحديث، مع ضرورة الانتباه إلى ردود فعل الآخرين، وممارسة تقنيات الاسترخاء. إلى جانب طلب المساعدة من الأصدقاء أو المتخصصين في الصحة النفسية عند الضرورة.

هل تشعر برغبة ملحة في الكلام، حتى عندما لا يكون ذلك مريحاً لك أو ملائماً للمستمع؟ أم سبق أن وجدت نفسك عالقاً في محادثة تشعر أنها أشبه بعرض يقدمه شخص واحد، بدلاً من تجاذب أطراف الحديث؟

في الواقع، يتخطى الأمر مجرد الاستمتاع بإجراء دردشة طويلة، حيث يعاني المتحدث حاجة قهرية للاستمرار في المحادثة، مقابل الرغبة العادية في التحدث. إذ قد يشعر المتحدث بضغط مُلحّ للحفاظ على تدفق الكلمات، وقد يعجز عن التوقف.

وعلى الرغم من أن الحديث جزء لا يتجزأ من التواصل البشري، فهو وسيلتنا للتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وبناء علاقاتنا الاجتماعية، لكن عندما يتجاوز الكلام حدوده الطبيعية ويصبح مفرطاً أو قهرياً، فإنه يتحول من وسيلة تواصل إلى مصدر إزعاج وضغط نفسي، سواء للمتحدث أم للمستمع.

فالكلام المفرط أو التحدث القهري، ظاهرة معقدة قد ترجع إلى مجموعة متنوعة من الأسباب النفسية. في هذا المقال، نستكشف الأسباب النفسية الكامنة وراء الرغبة المفرطة في الحديث، والآثار السلبية التي تترتب عليها. وسنقدم استراتيجيات عملية وخطوات فعالة للسيطرة على الرغبة في التحدث.

ما هو التحدث القهري؟ وكيف يختلف عن المحادثات العادية؟

يختلف الميل القهري للتحدث عن الثرثرة أو كثرة الكلام، إذ قد يرجع الأخير إلى اختلافات في السمات الشخصية؛ حيث يميل الانبساطيون إلى إعادة شحن طاقتهم من خلال التفاعل الاجتماعي، ويفكرون بصوت عال، في حين يعيد الانطوائيون شحن طاقتهم من خلال قضاء الوقت بمفردهم ويميلون إلى المعالجة الداخلية للأفكار. لذا، قد يعدّ الانطوائيون الانبساطيين ثرثارين، بينما قد يظن الانبساطيون أن الانطوائيين متحفظون للغاية.

في المقابل، قد يتحدث المرء على نحو مفرط أو قهري، حيث تتدفق الكلمات منه غالباً دون وعيه بتأثيره في الآخرين، أو ما يعرف بـ "الإسهال الكلامي" أو (Logorrhoea). إذ قد لا يدرك المتحدث أنه يتجاوز حدود اللباقة الاجتماعية ويتسبب في إزعاج الآخرين. ويمكن أن يتخذ التحدث المفرط صوراً متعددة، منها:

  • الكلام المضغوط (Pressured Speech): إذ يتحدث الشخص بسرعة لدرجة يصعب على الآخرين مقاطعته أو حتى المشاركة في الحديث. يرتبط هذا النوع من الكلام غالباً بحالات القلق الشديد، والفصام، أو نوبات الهوس في الاضطراب ثنائي القطب، وقد يحدث أيضا تحت تأثير بعض المواد الكيميائية.
  • الكلام غير المنظم (Disorganized Speech): حيث ينتقل المتحدث بطريقة سريعة وعشوائية بين الأفكار على نحو يصعب على الآخرين متابعتها. قد يتضمن الحديث كلمات جديدة أو مصطلحات مختلقة، أو جملاً غير مترابطة، أو يكرر المتحدث كلام الآخرين، أو قد يستخدم كلمات متناغمة صوتياً، لكن غير مترابطة في معناها، وهو قد يكون أحد علامات الفصام.
  • الكلام القهري (Compulsive Speech): يشعر فيه الشخص بحاجة ملحة إلى الكلام دون القدرة على التوقف، حتى لو أدرك أن كلامه غير مناسب أو مفرط. قد ينتج ذلك من القلق الشديد، أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، أو يكون آلية دفاعية لتجنب المشاعر المؤلمة.

على الجانب الآخر، يمكن أن يؤثر التحدث المفرط سلبياً في العلاقات؛ إذ قد يفقد الآخرون الاهتمام بالمتحدث، ويعدونه أنانياً أو غير مهتم بآرائهم، وقد يصعب على الآخرين الوثوق به بسبب فرط حديثه؛ ما يصعّب بناء علاقات صحية والحفاظ عليها.

نتيجة لذلك، قد يتجنب الناس التفاعل مع الشخص المفرط في الكلام؛ ما يؤدي إلى انعزاله اجتماعياً، وقد يشعر الشخص بالخجل والإحراج من سلوكه، ما يؤثر سلباً في ثقته بنفسه، كما يتدنى احترامه لذاته.

اقرأ أيضاً: من يتحدث أكثر: المرأة أم الرجل؟ الخبراء يرصدون الفارق

ما هي الأسباب النفسية وراء التحدث المفرط أو القهري؟

تختلف الدوافع وراء الميل القهري إلى التحدث؛ إذ قد ترجع إلى فروقات نفسية أو قد تشير إلى وجود اضطرابات كامنة، وتتضمن:

  • الرغبة في السيطرة: قد يدفع ميل بعض الأفراد إلى السيطرة للإسهاب في الحديث باعتباره وسيلة للهيمنة على المحادثة وتوجيهها نحو مواضيع يفضلونها، أو لمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم. قد تنبع هذه الحاجة إلى السيطرة من انعدام الأمان أو الخوف من فقدان السيطرة على الموقف.
  • الحاجة إلى الاهتمام والاعتراف: قد يكون التحدث المفرط وسيلة لجذب الانتباه والحصول على الاعتراف والإعجاب من الآخرين؛ بسبب حاجة المتحدث المستمرة إلى إثبات أهميته.
  • ملء الفراغ: قد يشعر بعض الأشخاص بالضغط لملء الصمت المحرج بالتحدث أو لتجنب الشعور بالوحدة أو الملل. قد يتضح هذا السلوك أكثر في المواقف الاجتماعية التي لا يعرف فيها الشخص الكثير من الحاضرين.
  • التعبير عن المشاعر المكبوتة: قد تكون الثرثرة المفرطة طريقة غير مباشرة في بعض الحالات للتعبير عن مشاعر مكبوتة، مثل الغضب أو الحزن أو الإحباط. إذ قد لا يعي المتحدث هذه المشاعر، لكنها تظهر من خلال كلامه المفرط.
  • التأثيرات الثقافية والاجتماعية: قد تشجع بعض الثقافات أو البيئات الاجتماعية على كثرة الكلام وتعدّها علامة على الود والكرم. يشير أستاذ علم النفس بجامعة المنصورة، أكرم فتحي يونس زيدان، إلى أن بعض المجتمعات تشجع كثرة كلام الرجال باعتباره دليلاً على رجولتهم وثقتهم بالنفس؛ بينما قد تعتمد تربية النساء في بعض المجتمعات على أن الصمت هو من سمات الأنوثة والأدب.
  • التعويض عن نقص المهارات الاجتماعية: يوضح زيدان أنه قد يفرط بعض الأشخاص في الحديث لتعويض نقص في مهاراتهم الاجتماعية الأخرى، مثل الاستماع الفعال أو استخدام لغة الجسد المناسبة.
  • اضطرابات الصحة النفسية: قد يشير الحديث المفرط والقهري إلى وجود بعض حالات الصحة النفسية مثل:
  • اضطرابات المزاج: قد يتحدث الشخص الذي يعاني الاكتئاب ثنائي القطب بطريقة مفرطة وسريعة خلال نوبات الهوس. ويمكن أن يدفع القلق الاجتماعي أو القلق العام الشخص إلى الكلام المفرط محاولة منه لتهدئة التوتر أو ملء الصمت المحرج، أو سعياً لتأكيد ذاته من خلال الكلام.
  • اضطرابات الشخصية: إذ قد يعاني الشخص المصاب بالفصام مشكلات في التفكير واللغة؛ ما قد يتسبب في الحديث المفرط أو غير المنظم. كذلك قد يُظهر الشخص المصاب باضطراب الشخصية الفصامية اهتماماً بمواضيع غريبة أو غير عادية. ويمكن أن يسعى المصاب باضطراب الشخصية النرجسية إلى لفت الانتباه والتحدث عن نفسه باستمرار.
  • اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD): يصعب على المصابين بهذا الاضطراب التحكم في اندفاعاتهم، ما قد يؤدي إلى الكلام المفرط والمقاطعة المتكررة للآخرين.

اقرأ أيضاً: "لم يعدْ لديّ ما أقوله لشريك حياتي": هل الأمر خطير؟

6 خطوات فعالة للسيطرة على الرغبة المُلحة في الحديث

يعد الحديث مع الآخرين وسيلة لتعزيز القرب منهم واستمرار العلاقات، وينبغي ألا يتحول إلى طريقة للتنفير وتقويض التواصل. لذلك؛ إذا كنت تعاني رغبة مفرطة في الحديث وتشعر أن الأمر محرج وتصعب السيطرة عليه، فقد تساعدك النصائح التالية على تخفيف هذه الرغبة المُلحة في الحديث، وتعزيز التواصل الصحي:

  • فكر قبل الكلام: قيّم أهمية ما تريد قوله قبل النطق به، وتجنب التحدث لمجرد ملء الصمت. تخيل أنك مكان المستمع واسأل نفسك: هل ما أود قوله مفيد؟ هل هو مناسب؟ هل سأكون مهتماً بالاستماع إلى هذا الحديث؟

ومن ثم؛ حدد الأفكار الأساسية التي تريد التعبير عنها، ورتبها حسب أهميتها. ويمكن أن تساعدك كتابة الأفكار والمشاعر في دفتر يوميات على تفريغ الذهن، وتقليل الحاجة إلى التعبير عنها شفهياً، إلى جانب التدريب على التعبير عن أفكارك بإيجاز ودقة، وتجنب التفاصيل غير الضرورية.

  • حدد وقتاً للتحدث: جرب أن تحدد وقتاً معيناً للحديث في كل مناسبة، وتتوقف عند انتهاء هذا الوقت؛ ما يساعدك على الوعي بمقدار الوقت الذي تقضيه في الكلام.
  • التزم بآداب الحديث: انتظر حتى ينهي الآخرون كلامهم قبل التحدث، وحاول التحلي بالصبر والإنصات. ركز على الاستماع الفعال وفهم ما يقوله الآخرون، عوضاً عن التفكير فيما ستقوله أنت. واطرح أسئلة للتوضيح بدلاً من التقاط جزء من كلام الآخر واعتباره نقطة لاستئناف حديثك. وركز على موضوع المحادثة، وتجنب الاستطراد أو الحديث عن نفسك بإفراط. وتوقف بضع ثوان للتفكير فيما ستقوله، قبل الرد على سؤال أو التعليق على فكرة.
  • لاحظ استجابات الآخرين: انتبه إلى إشارات الملل أو عدم الاهتمام لدى الآخرين، مثل تجنب التواصل البصري، والتململ، أو التحقق من الهاتف؛ إذ قد تعكس هذه الإشارات أنك تتحدث بإفراط. ويمكنك طلب المساعدة من الأصدقاء المقربين لتقديم ملاحظات حول أسلوبك في التحدث، وتقديم الدعم والتشجيع لتغيير السلوك، واطلب منهم أن ينبهوك بلطف عندما تفرط في التحدث.
  • فكر في المحادثة على أنها كرة تنس: المحادثة الصحية هي تبادل للأفكار والآراء، مثل كرة التنس التي تنتقل بين اللاعبين. لذا؛ حاول ألا تحتكر الكرة. وبدلاً من الهيمنة على المحادثة، اطرح الأسئلة المفتوحة لتشجيع الآخرين على التحدث ومشاركة آرائهم، وركز على جعل الآخرين يشعرون بأهميتهم.
  • مارس تقنيات اليقظة والاسترخاء: تساعد تقنيات الاسترخاء، مثل التنفس العميق والتأمل، على التحكم في القلق والتوتر، ما يقلل الرغبة في الكلام المفرط.

بصفة عامة لا تعد الثرثرة سمة مرضية، ويمكن أن يساعدك هذا المقياس على تحديد إذا كنت متحدثاً قهرياً. لكن إذا لاحظت أنها تؤثر سلباً في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، وتعجز عن مقاومة رغبتك في الحديث على الرغم من الخطوات السابقة، أو عانيت تقلبات مزاجية أو اضطرابات في التفكير بسبب كثرة الكلام؛ فاستشر مختص الصحة النفسية، الذي قد يساعدك على تغيير أنماط التفكير والسلوكيات السلبية المرتبطة بفرط التحدث، وتطوير مهارات تنظيم العواطف والتحكم في الاندفاع. وفي بعض الحالات، قد يصف الطبيب النفسي أدوية للمساعدة على علاج الحالة الأساسية التي تسبب التحدث القهري، مثل القلق أو الاكتئاب ثنائي القطب.

اقرأ أيضاً: الصمت حكمة ومهارة، اعرف كيف تطورها؟

المحتوى محمي