قد يصعب التفريق بين سلوك طبيعي وآخر مرَضيّ لدى الطفل، خاصة إن كانت الثقافة المجتمعية السائدة تشجع على عدم تدليل الأطفال كثيراً أو الانصياع لرغباتهم، وهذا هو الجحيم بعينه بالنسبة إلى الصغار الذين يعانون من "اضطراب قلق الانفصال".
إذ تمرّ أعراضهم على مرائي آبائهم ومسامِعهم، فيعتقدون أن طفلهم يحتاج إلى المزيد من الحزم والصرامة في التربية، خاصة إن كان يرفض الانفصال عنهم للذهاب إلى المدرسة أو البقاء برفقة أحد الأقارب.
يصبح بذلك طفلاً متمرّداً يحتاج إلى التهذيب، وهذه هي المغالطة الشائعة في التعامل مع حالات اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال؛ التي تؤدي إلى خلق المزيد من الألم النفسي وربما تتحول إلى ذكريات مظلمة وتجارب طفولة مسيئة وصادمة.
أكثر ما يمكن أن يُسعد أي طفل هو الإحساس بأنه مرئي من قِبل والديه، فلا يساء فهمه أو تفسَّر سلوكياته على نحو خاطئ. ولتحقيق هدف المعرفة والوعي بالمشكلة؛ يقدم هذا المقال معلومات علمية دقيقة عن اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال وأسبابه، وطرق تشخيصه وعلاجه.
أسباب اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال
الخوف من فقد الصلة بالأهل أو عدم رؤية الأب أو الأم مجدّداً هو أهم ما يميّز الإصابة باضطراب قلق الانفصال (SAD) لدى الأطفال. ويُعتبر هذا الاضطراب نوعاً من اضطرابات القلق الاجتماعي؛ حيث تسيطر هذه المشاعر المزعجة على نفسية الطفل في كل مرة يكون بعيداً عن أسرته، أو لا يكون حاضراً معهم في الغرفة نفسها.
عموماً؛ يُعد قلق الانفصال أمراً طبيعياً يمر به أي طفل أثناء مراحل النمو، بين 18 شهراً و3 سنوات تقريباً، وفقاً لـ "ستانفورد ميديسين" لصحة الأطفال (Stanford Medicine). لكن ما يحوّل هذه الحالة إلى اضطراب هو استمرارها لأكثر من 4 أسابيع؛ حيث تكون الأعراض أكثر حِدة من قلق الانفصال الطبيعي الذي يعاني منه كل طفل. ويتأثر 4% من الأطفال و1.6% من المراهقين باضطراب قلق الانفصال؛ ما يجعله أكثر اضطرابات القلق انتشاراً بين الأطفال دون سن 12 عاماً.
أما عن أهم الأسباب وراء اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال، فهي ناتجة من عوامل بيولوجية وبيئية. فنجد أن نقص مادة السيروتونين الكيميائية في الدماغ له دور مهم في الإصابة؛ كما يمكن أن يتأثّر الطفل بحدث صادم أو بقلق من حوله؛ وهو ما يؤكده أيضاً الخبراء من "ويب إم دي" (WebMD) حيث يربطون بين وجود الاضطرابات النفسية لدى أفراد العائلة وزيادة احتمالية الإصابة وبالتالي فإن خطر الإصابة بهذا الاضطراب قد يكون موروثاً.
ولا تتوقف الأسباب عند هذا، فالأطفال الذين يتميز آباؤهم بحماية مفرطة قد يكونون أكثر عرضة لقلق الانفصال عنهم. ويدّل ذلك إلى وجود القلق عند الوالدين أيضاً؛ إذ لا يكون القلق لدى الطفل بالضرورة مرضاً بقدر ما هو انعكاس لحالة أبويه النفسية.
كيف يمكن تشخيص اضطراب قلق الانفصال لدى صغار السن؟
يتم تشخيص اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال حين تتزايد حدّة أعراضه، فتكون مفرطة وغير منطقية مقارنة بسنهم؛ إذ تتعارض مع نموهم الطبيعي وسيرورة نشاطاتهم اليومية.
ويتم ذلك عن طريق طبيب الأطفال النفسي أو مختص الصحة النفسية الذي يقوم بإجراء تقييم لصحة الطفل النفسية، بعد أن تكون أعراض قلقه من الابتعاد عن أسرته قد استمرت لمدة لا تقل عن شهر.
اقرأ أيضاً: اضطراب الوسواس القهري لدى الأطفال
طرق وخيارات علاج اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال
يعتمد علاج اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال على مدى حدة الأعراض وخطورة الحالة وعمر الطفل وصحته العامة، فقد لا تحتاج أعراض قلق الانفصال الخفيفة إلى تدخّل طبي، ويكون على الوالدين حينها القيام بخطوات لمساعدة طفلهم وطمأنة قلقه وخوفه.
إذ يؤدي دعم الوالدين دوراً في غاية الأهمية في تعليم الطفل كيفية التعامل بشكل مستقل مع مشاعره. لذلك تنصح الكاتبة والمعالجة النفسية كاتي هيرلي (Katie Hurley) بتجربة الاستراتيجيات التالية في المنزل:
- وضع خطة مسبقة لمساعدة الطفل على الوصول مبكراً إلى المدرسة بهدف ممارسة بعض التمارين البدنية أو مساعدة المدرس في بعض المهام قبل بداية الحصة الدرسية.
- مساعدة الطفل على إعادة صياغة الأفكار التي تُقلقه من خلال اقتراح قائمة من الأفكار الإيجابية بدلاً منها، ومن الممكن كتابتها على بطاقات ووضعها في حقيبة ظهره.
- تجنُّب المبالغة في الالتزام بالجدول اليومي، وإدماج أوقات للّعب والراحة وعادات النوم الصحية.
- تنبيه الطفل إلى وجود تغييرات في الروتين في وقت سابق.
- التعاطف مع حالة الطفل وتقدير التقدم الذي يحرزه.
أما في حال كان اضطراب قلق الانفصال لدى الطفل حاداً، ويصعب التعامل مع أعراضه بشكل فردي، فعلى الأبوين عدم التردد في التوجه إلى معالج أو طبيب نفسي متخصص في علاج الأطفال. فهناك علاجات شائعة الاستخدام لاضطراب قلق الانفصال، ويمكن أن تكون فعالة في الحد من قلق الطفل وتنمية شعوره بالأمان.
اقرأ أيضاً: كيف نساعد الأطفال والمراهقين على إدارة القلق؟
العلاج النفسي
يمكّن العلاج المعرفي السلوكي (CBT) الطفل من تعلّم كيفية مواجهة وإدارة المخاوف بشأن الانفصال عن الوالدين. ويعتبر هذا الشكل من أشكال العلاجات رئيسياً في علاج اضطراب قلق الانفصال وفقاً للمعلومات الصادرة عن ويب إم دي؛ إذ يركّز على إعادة تشكيل تفكير الطفل وإدراكه وسلوكه.
العلاج الدوائي
تمثّل مضادات الاكتئاب المسماة بمثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) الخيار العلاجي الأفضل للأطفال الأكبر سناً، خاصة إذا كانت الأعراض شديدة.
إن قلق الانفصال شائع جدّاً خلال سنوات الطفولة المبكرة؛ إذ يمثّل جزءاً طبيعياً من النمو، ويختفي تدريجياً كلما ازداد وعي الصغار بمحيطهم. لكن أغلب الآباء لا يكونون مستعدين لمواجهة أعراض أكثر حّدة قد تؤثر سلباً في حياتهم، لذلك لا يسعهم سوى فعل كل ما في وسعهم لدعم أطفالهم حين يعانون من أعراض اضطراب قلق الانفصال عند الأطفال.
لحسن الحظ؛ تتوفّر خيارات العلاج النفسي والدوائي كما تمكن معالجة تلك التحدّيات ببعض الخطوات القابلة للتنفيذ من المنزل دون تدخّل مختص نفسي.