قد تكون لاحظت معاناة طفلك مع الإصرار على تكرار بعض التصرفات دون وعي منه، أو حرصه على ترتيب بعض السلوكيات التي يقوم بها بنمط معين، أو هاجسه الشديد بموضوع معين وتكرار التحقق منه بشكل غير طبيعي.
في الحقيقة؛ إن احتمالية أن يُصاب طفلك، أو أن تكون أنت نفسك مصاباً باضطراب الوسواس القهري، ليست بالشيء الذي يمكن تجاهله. لذا؛ يجب أن يحرص الوالِدون ومقدمو الرعاية على الحصول على المعرفة الكافية. لنتعرف هنا إلى الوسواس القهري لدى الأطفال، وإحصائياته، وأعراض الإصابة به، وكيفية التعامل معه، وعلاجه، وأكثر.
ما هو الوسواس القهري؟
يظهر "اضطراب الوسواس القهري" (Obsessive-compulsive Disorder) لدى الأطفال الصغار والأشخاص البالغين من خلال تكرار بعض التصرفات نتيجة تلك الأفكار غير المرغوب فيها، والسلوكيات التي تُشعرهم بالانزعاج؛ حيث تتداخل مع أنشطتهم أو تجعلهم يشعرون بالاستياء الشديد.
تُسمى الأفكار التي تحرّك تلك التصرفات بالوساوس؛ وهي جمع كلمة "وسواس" (Obsession)، أو الهواجس، وتصف حالة التفكير المستمر بشكل غير طبيعي في موضوع أو سلوك معيّن. وفي نفس السياق؛ تتصف تلك الأفكار والسلوكيات بكونها مُكرِهة وقاهرة (Compulsive) لمن يقوم بها؛ بحيث يصعب عليه التوقف عنها، فقد يُشعِر اضطراب الوسواس القهري الأطفال في أغلب الأحيان، أنهم عاجزون عن تجاهل تلك الدوافع.
في مراجعة حديثة بعنوان "اضطراب الوسواس القهري عند الأطفال والمراهقين: انتشاره الوبائي، وتشخيصه وإدارته" (Obsessive-compulsive disorder in children and adolescents: epidemiology, diagnosis and management) نُشرت في فبراير/شباط 2020، وجد العلماء أن العديد من الدراسات أظهر أن اضطراب الوسواس القهري موجود بأشكال عديدة في 1-4% من الأطفال والمراهقين والبالغين حول العالم.
وتضع منظمة الصحة العالمية (WHO) الوسواس القهري في المراكز العشرة الأولى ضمن أكثر الاضطرابات التي تتسبب بالإعاقة عند البشر، ومن الممكن أن يبدأ الوسواس القهري في مرحلة الطفولة؛ حيث إن نحو 8 من كل 10 من المصابين بالوسواس القهري يظهر لديهم الوسواس قبل سن 18 عاماً، بحسب ما ورد في المراجعة السابقة.
بالإضافة لذلك، فغالباً ما يؤثر اضطراب الوسواس القهري بشكل سلبي وخطير في حياة المصابين به؛ حيث تتطور الحالة المرضية لنحو 4 من كل 10 مصابين به إلى حالة مزمنة. والجدير بالذكر أن الكثير من المصابين بذلك الاضطراب يحاولون جاهدين إخفاء مرضهم عن الآخرين. لذا؛ يجب توخي الحذر عند العمل مع من يعاني منه.
أنواع الوسواس القهري عند الأطفال
وفقاً للأستاذة المساعِدة في قسم علم نفس الأطفال بمستشفى تكساس للأطفال ليزا بونين (Liza Bonin)؛ ينقسم اضطراب الوسواس القهري عند الأطفال إلى ثلاثة أنواع رئيسية تتمثّل في الآتي:
- الهواجس: وهي الأفكار أو الصور أو الدوافع الدخيلة والمتكرّرة التي تعلق في ذهن الطفل المصاب، وغالباً تخلق له مشاعر مزعجة بما في ذلك الخوف والقلق والاشمئزاز والشك.
- السلوكيات القهرية: وهي أفعال متكررة أو نمط تفكير يجعل المريض يستجيب لهوس أو قواعد يجب تطبيقها بشكل صارم. وبالنسبة إلى الطفل المصاب؛ تهدف تصرفاته القهرية إلى منع الشعور بالضيق أو تقليله، أو منع نتيجة مخيفة يتوقعها، لذلك تكون في أغلبها غير واقعية.
- سلوكيات التجنّب: ويُقصد بها الاستجابة المتكررة للوساوس بخصوص ضرورة تجنّب لمس أشياء محددة، أو الذهاب إلى بعض الأماكن، أو التفكير في أشياء معينة؛ حيث يسيطر القلق الشديد على تلك المواقف ما يدفع المريض إلى الانخراط في طقوس قهرية تستغرق وقتاً طويلاً لتفادي ما يُقلقه.
اضطراب الوسواس القهري بين الأطفال في بعض الدول العربية
إِجْمالاً؛ تكاد المجلات العلمية ذات المصداقية العالية تخلو من الدراسات التي تحلل إحصائيات اضطراب الوسواس القهري بين الأطفال في الدول العربية. وفي حقيقة الأمر، فهذا هو الحال أيضاً بالنسبة لإحصائيات اضطراب الوسواس القهري بين البالغين في الدول العربية.
ومن المملكة العربية السعودية، تتفق هذه الورقة العلمية الحديثة التي نُشِرَت بالتعاون بين جامعة الملك خالد في مدينة أبها ومستشفى القوات المسلحة، على أن: "هناك نقصاً في البيانات التي تقدر مدى انتشار هذا الاضطراب أو حدوثه داخل المملكة العربية السعودية".
وفي الدراسة نفسها، أشارت تقديرات الباحثين إلى أن 2-4% من عامة السعوديين، مُحتمل أن يصابوا باضطراب الوسواس القهري قبل سن 18 عاماً، بينما يبدو أن ذروته هي في المرحلة العمرية بين 10-19 سنة.
ومن جمهورية مصر العربية، وجدت هذه الدراسة العلمية التي نُشِرَت في بداية العقد الماضي بالتعاون بين قسم الطب النفسي ومستشفيات جامعة الإسكندرية إلى جانب المعهد العالي للصحة العامة بالإسكندرية، أن نسبة ظهور اضطراب الوسواس القهري كانت حوالي 2.2% بين المراهقين.
بالإضافة لما سبق؛ أشار الباحثون إلى أن انتشار أعراض ذلك الاضطراب بدت مرتفعة بشكل مقلق بين أفراد العينة البحثية الذين بلغ عددهم 1299 شخصاً، بمتوسط عمر بلغ نحو 16 عاماً.
كيف أعرف أن طفلي مصاب باضطراب الوسواس القهري؟
بحسب "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأميركية" (CDC)، فقد تتمثَّل أعراض وجود اضطراب الوسواس القهري لدى الأطفال في أحد السلوكيات التالية:
- أن يكون لدى طفلك أفكار أو دوافع أو سلوكيات غير مرغوب فيها تظهر بصورة متكررة وتسبب له القلق أو الضيق.
- أن يضطر طفلك للتفكير في شيء ما أو قوله أو فعله مراراً وتكراراً.
- أن يضطر طفلك للقيام بشيء معين مراراً وتكراراً وفق قواعد معينة لا تبدو مفهومة بشكل منطقي، مع حرصه على اتباعها بالضبط من أجل التخلص من وساوسه أو هوسه.
في أغلب الأحيان؛ يشعر الأطفال أن تكرار سلوكياتهم بشكل معين سوف يمنع حدوث بعض الأشياء السيئة، أو يقوم بتحسين حالهم. ومع ذلك، فعادة لا ترتبط هذه السلوكيات المتكررة بشكل غير طبيعي؛ كغسل اليدين عدة مرات في الساعة الواحدة، بخطر حقيقي مثل حدوث شيء سيئ.
أعراض الوسواس القهري الأكثر شيوعاً بين الأطفال
بحسب منظمة سيدارز سايناي الطبية (Cedars Sinai)، فقد يُظهِر كل طفل عَرَضاً أو أكثر من الأعراض التالية للوسواس القهري:
- الاهتمام الشديد بالتفاصيل.
- الهوس الشديد بالأوساخ أو الجراثيم.
- القلق الشديد بشأن حدوث شيء سيئ.
- الأفكار أو الدوافع أو السلوكيات العدوانية.
- الانشغال بالترتيب أو التناسق أو الدقة.
- الشكوك المتكررة كالقلق مما إذا كان باب غرفته مغلقاً أو لا.
- الانزعاج من الأفكار التي تتعارض مع المعتقدات الدينية الشخصية.
- الحاجة المُلحَّة إلى معرفة الأشياء التي قد تكون غير مهمة أو تذكُّرها.
- الأفكار المتداخلة حول العنف الجسدي، أو إيذاء شخص ما أو قتله، أو إيذاء النفس.
- الأفكار المستمرة حول القيام بأفعال جنسية مسيئة أو سلوكيات ممنوعة أو محظورة لسبب اجتماعي.
- الحرص على قضاء فترات طويلة من الوقت في لمس الأشياء، والعد، والتفكير في الأرقام والأنماط المتتابعة؛ مثل ارتداء الملابس بنفس الترتيب كل يوم.
كيف أتعامل مع الطفل الذي يعاني من الوسواس القهري؟
يمكن أن تؤثر أعراض الوسواس القهري عند الأطفال في الأسرة بأكملها؛ حيث تخلق تحديات حقيقية يكون على الأمهات والآباء مواجهتها. لذلك ينصح الخبراء من سايك سنترال (Psych Central) الوالدِين بالمشاركة في علاج الصغار المتأثرين بهذا الاضطراب من خلال تطبيق بعض النصائح حول كيفية التعامل مع الطفل الذي يعاني من الوسواس القهري بشكل فعّال؛ ونلخصّها كما يلي:
- ابقَ على تواصل معه: قد يغلب على الأطفال المصابين بالوسواس القهري الميل إلى الانزواء بسبب الإحراج أو الشعور بالعار من أعراضهم؛ ما قد يسبّب فجوة في التواصل بينهم وبين أقرانهم ومدرسيهم وآبائهم. لكن تلك الفجوة يمكن ألا تتسع إذا حاول الأبوان تخصيص وقت للاستماع إلى الطفل والتحدث إليه بطريقة تدعمه وتشجعه على الإفصاح عن مشاعره وأفكاره.
- انخرط في خطة العلاج: غالباً سيتوقع الطبيب المعالِج منك الانخراط في خطة العلاج، ويعني ذلك التعرّف إلى منهجه العلاجي، والتدرب عليه بهدف تطبيقه في المنزل.
- تحلَّ بالصبر: يتطلّب أي علاج بعض الصبر من أجل بلوغ النتائج المرجوة. توفير فرصة الحصول على العلاج المعرفي السلوكي للطفل من طرف معالج مختص يعني أنك تقوم بالفعل بالكثير لمساعدته، لذلك لا تستعجل تحسّن أعراض طفلك، وتحلَّ بقليل من الصبر.
- حاول عدم التمكين: المقصود من ذلك هو ألا تسهّل لطفلك الانصياع التام وراء هواجسه بدافع حبّك ورغبتك الطبيعية في حمايته؛ كأن يطلب منك فتح الباب حتى لا يضطر إلى لمسه على سبيل المثال. حاول مقاومة الامتثال له، فذلك يعني أنك تشارك في تعزيز أعراض الوسواس القهري دون وعي.
- تأكد أن الجميع يتبع القواعد: يحتاج طفلك تعلّم كيفية التعامل مع مرضه، لذلك ستجد أن تحديد القواعد لجميع أفراد الأسرة أيضاً يسهّل عليه اتباعها، وتكون بذلك توفّر له أفضل سبل الدعم.
- ذكّر نفسك أن الأمور ستتحسن: لن تخلو رحلة علاج طفلك من الأوقات الصعبة؛ أي تلك اللحظات التي تتأخر فيها عن عملك، أو تستشيط غضباً بسبب شجار بين طفلك المريض وبقية إخوانه. إن عدم التكيّف مع الوضع يمكن أن يجعله أسوأ، لذلك حاول أن تذكّر نفسك دائماً أن العلاج سيؤتي ثماره لا محالة.
- لا بأس أن تحصل على الدعم: في خضمّ التحديّات اليومية التي قد تواجهها بسبب اضطراب طفلك، قد ينصحك طبيبه أن تطلب الدعم النفسي لنفسك أيضاً من خلال التواصل مع معالج أو أحد الأصدقاء.
كيف أعالج طفلي المصاب باضطراب الوسواس القهري؟
يبدأ علاج اضطراب الوسواس القهري لدى الأطفال من خلال اتباع الخطوات التالية:
الخطوة الأولى هي أن تصطحب طفلك لمقدِّم الرعاية الصحية الذي سيحدد -بناءً على التقييم الشامل- السبب الكامن وراء ذلك الاضطراب، أو إذا كان الطفل يعاني من قلق أو ضيق يتضمن ذكريات صادمة، أو كانت المخاوف تستند إلى أفكار أو معتقدات أخرى.
قد يشمل علاج طفلك استخدام المختص للعلاج السلوكي وبعض الأدوية في مرحلة ما. وفي الحقيقة؛ يساعد العلاج المعرفي السلوكي -على وجه الخصوص- الأطفال على تغيير الأفكار السلبية من خلال تبنّي طرق تفكير أكثر إيجابية؛ وبالتالي تعديل السلوك وفقاً لها.
قد يشمل علاج طفلك أيضاً تعريضه تدريجياً لمخاوفه في بيئة آمنة؛ بحيث يساعده ذلك على إدراك أن الأشياء السيئة لا تحدث حقاً.
بالإضافة إلى ذلك، فقد يشمل علاجه التنسيق بين العائلة والمدرسة؛ بحيث تتم إدارة الإجهاد الجسدي، وتعلّم كيفية الاستجابة الداعمة دون التسبب في جعل الوساوس أكثر سوءاً.
في النهاية؛ يجب أن يعي الوالِدون ومقدمو الرعاية مدى انتشار اضطراب الوسواس القهري بين الأطفال، واحتمالية ظهوره في كثير من الأشخاص خلال المراحل المبكرة من حياتهم. يجب أن تكون أنت الحصن المنيع لطفلك بحصولك على المعرفة المناسبة التي تساهم في تحسين بيئته وصحته العامة، والنفسية والعقلية خاصةً.