على الرغم من احتمالية معرفتنا بأعراض بعض الأمراض والاضطرابات النفسية؛ فإنه حين تتجسّد أمامنا في قضايا عامة وأحداث مهمة، يدق ذلك جرس الإنذار باحتمالية تواجدها فيمن حولنا أو في أناس قابلناهم يوماً ما. وبدلاً عن أن نعزو التغيرات المزاجية التي تستحيل عنفاً في بعض الأحيان إلى أن هؤلاء الأفراد مفرطو الحساسية؛ تصبح نظرتنا للأمور أكثر واقعيةً - بمعنى أن تكون تلك التقلُّبات والأعراض جزءاً من مرض أو اضطراب أشمل.
مؤخراً أصبحت قضية التشهير بين الفنان الأميركي الشهير "جوني ديب" (Johnny Depp) وطليقته الفنانة الأميركية "آمبر هيرد" (Amber Heard) حديث الملايين حول العالم؛ اتهامات بالضرب والعنف المنزلي موثّقة بالأدلة من فيديوهات ومقاطع صوتية وصور.
في حين قد أرسلت الأدلة الأولية إلى الجمهور رسائل عن هيرد بأنها امرأة متسلِّطة وعنيفة، مع محاولة إثباتها المستميتة لأنها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، تأتي نتائج تقييم حالة هيرد من قبل المختصة النفسية "شانون كوري" (Shannon Curry) لتدعم إصابتها باضطرابين: "اضطراب الشخصية الحدية" (BPD) و"اضطراب الشخصية الهستيرية" (HPD)، ليصبح الدافع وراء تلك الأفعال العنيفة -نفسياً وجسدياً- أكثر وضوحاً.
فما هما هذان الاضطرابان؟ وما هي أعراضهما؟ وكيف يمكن التعامل مع شخص مصاب بهما، خاصةً إن كان الشريك؟
اضطراب الشخصية الحدية وصعوبة تنظيم المشاعر
وفقاً للمعهد الوطني الأميركي للصحة النفسية، فاضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder) هو مرض عقلي يؤثر بشدة في قدرة الشخص على تنظيم عواطفه؛ حيث يمكن أن يؤدي فقدان السيطرة على المشاعر في بعض الأوقات إلى زيادة الاندفاع، والتأثير سلباً على شعور الشخص تجاه ذاته وعلاقاته مع الآخرين؛ والتي قد تتأرجح بين الود الشديد والكراهية الشديدة.
كذلك فقد يعاني الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية من تقلبات مزاجية شديدة وتتغير مشاعرهم تجاه الآخرين بسرعة؛ ما يؤدي إلى علاقات غير مستقرة.
بالإضافة إلى ذلك؛ يميل هؤلاء الأشخاص إلى النظر إلى الأشياء بتطرُّف، فإما أن يروا كل الأشياء جيدة أو كلها سيئة، ويمكن أن تتغير اهتماماتهم وقيمهم بسرعة، وقد يتخذون قرارات محفوفة بالمخاطر.
كيف يؤثر اضطراب الشخصية الحدية على العلاقات؟
تشير دراسة من جامعة برلين في هذا الشأن إلى أن الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الحدية يميلون إلى أن تكون لديهم علاقات رومانسية شديدة التقلُّب؛ حيث تتميز بقدر كبير من الاضطراب.
على سبيل المثال؛ أبلغت النساء المصابات بهذا الاضطراب عن توتر مزمن في علاقتهن بشركائهن ونزاعات متكررة. وقد ارتبطت زيادة حدة أعراض الاضطراب بانخفاض الرضا عن العلاقة مع الشريك.
ونظراً للتقلُّبات الشديدة في شخصية الفرد المصاب بذلك الاضطراب؛ يظهر عدد من المشكلات في العلاقات مع الشركاء؛ والتي تتمثّل في:
- عدم الاستقرار
غالباً ما يشعر الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية بالخوف الشديد من هجر الآخرين. ومع ذلك يمكنهم أيضاً التحوُّل فجأة إلى الشعور بالاختناق والخوف من العلاقة الحميمة؛ ما يجعلهم ينسحبون من العلاقات ويؤدي إلى عدم استقرار العلاقة ما بين الاهتمام والانسحاب المفاجئ.
- الخوف من الهجر
من الأعراض الأخرى لاضطراب الشخصية الحدية التي تؤثر بشكل خاص على العلاقات هو الخوف العميق من الهجر بحسب دراسة ألمانية من قسم الطب النفسي بالمركز الطبي الجامعي في ماينز. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحفيز الشخص المصاب بذلك الاضطراب لمراقبة شريكه باستمرار للبحث عن أي علامات تدل على أن الشريك قد يتركه، ويفسِّر الأحداث البسيطة على أنها علامة على التخلّي الوشيك، وقد تؤدي هذه المشاعر إلى بذل جهود محمومة لتجنب الهجر.
- الجنسانية الاندفاعية
يعدّ النشاط الجنسي المندفع والمتزايد أحد أعراض اضطراب الشخصية الحدية، ويعاني العديد من الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الحدية من مشاكل جنسية.
وفقاً لدراسة هندية منشورة فيـ "مجلة الطب النفسي الصناعي" (Industrial Psychiatry Journal)، فالتعرُّض للاعتداء الجنسي خلال مرحلة الطفولة قد يكون سبباً في إصابة الفرد باضطراب الشخصية الحدية؛ ما قد يجعل ممارسة الجنس في مراحل عمرية لاحقة معقداً للغاية.
اقرأ أيضاً: اضطراب الشخصية الحدية: الأسباب والعلاج
الشخصية الهستيرية والرغبة القوية في جذب الانتباه
على الجانب الآخر؛ يعرِّف موقع "كلايفلاند كلينيك" (Cleveland Clinic) اضطراب الشخصية الهستيرية (Histrionic Personality Disorder) بأنه اضطراب عقلي يتميز بمشاعر قوية وغير مستقرة وصورة مشوهة للذات، بالإضافة إلى رغبة عارمة في أن يكون الفرد مركزاً لاهتمام الآخرين؛ ما يدفعه في كثير من الأحيان للتصرُّف بشكل درامي أو غير لائق لجذب الانتباه.
عادةً ما يبدأ ذلك الاضطراب في أواخر سن المراهقة أو أوائل العشرينات، وهو أكثر شيوعاً بين الإناث، ويُعتَبَر نادر نسبياً. كما أنه في الغالب لا يدرك الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الهستيرية أن سلوكهم وطريقة تفكيرهم تنم عن وجود مشكلة.
كذلك، فمن أهم علامات وأعراض اضطراب الشخصية الهستيرية ما يلي:
- الشعور بعدم التقدير أو بالاكتئاب عندما لا يكون اهتمام الآخرين منصباً حوله.
- لديه مشاعر سريعة التحوُّل وسطحية.
- يتصرَّف بدرامية أو عاطفية شديدة للغاية لدرجة قد تسبب إحراجاً لأصدقائه وأقاربه خلال التواجد بين جمع من الناس.
- شديد الاهتمام بالمظهر الجسدي ويتعمّد استخدامه للفت الانتباه عن طريق ارتداء ملابس ذات ألوان زاهية أو ملابس مكشوفة.
- التصرف بشكل غير لائق جنسياً مع معظم الأشخاص الذين يقابلهم على الرغم من غياب الانجذاب الجنسي.
- التحدث بشكل درامي والتعبير عن آرائه بطريقة قوية؛ ولكن مع استخدام القليل من الحقائق أو التفاصيل لدعم آرائه.
- الاعتقاد أن علاقاته مع الآخرين أقوى مما هي عليه في الحقيقة.
- مواجهة صعوبة في الحفاظ على العلاقات التي غالباً ما تكون مزيَّفة أو سطحية.
- الحاجة المُلِحّة إلى الإشباع الفوري إما نتيجة الشعور بالملل أو الإحباط بسهولة شديدة.
اقرأ أيضاً: تبدد الشخصية: أن ترى العالم من خلف حاجز زجاجي
كيف تتعامل مع شريك مصاب باضطراب الشخصية الحدية؟
قد يواجه الفرد صعوبات عدّة عندما يعاني الشريك من ذلك الاضطراب، وقد يصبح الأمر مرهقاً للغاية إذا كان الطرف الآخر لا يعترف بحقيقة مرضه أو يتجنَّب استشارة الطبيب والسعي للعلاج.
لكن في جميع الأحوال هناك بعض النصائح التي تقدمها الصحفية المتخصصة في مجال الصحة "جولي ريفيلانت" (Julie Revelant)؛ والتي يمكن أن تساعد في تحسين التعامل مع الشريك المصاب باضطراب الشخصية الحدية كما يلي:
- ابحث عن المعلومات: التعلُّم قدر الإمكان عن ذلك الاضطراب يمكن أن يزيد من التعاطف في الشراكة. وإذا كنت أنت الشخص المُصاب باضطراب الشخصية الحدية، فإن تثقيف نفسك بشأن الاضطراب يمكن أن يساعد في تقديم تفسير لمشاعرك وسلوكياتك ويساعد في تخفيف شعورك بالخزي.
- احصل على مساعدة: طلب الدعم من معالج نفسي -بشكل منفصل أو كزوجين- يمكن أن يساعد الأشخاص المتأثرين باضطراب الشخصية الحدية في التواصل بشكل أكثر فعالية وحل النزاعات وتقوية علاقاتهم.
- مارس التواصل الصحي: من المهم خلال التواصل عدم التحدث أو التصرُّف بطريقة يمكن أن تجعل الشخص المصاب باضطراب الشخصية الحدية يشعر بالإهانة أو عدم الاهتمام. وحاول أيضاً أن تستمع جيداً لكلامه وابذل قصارى جهدك للرد بطريقة إيجابية.
- اطرح أسئلة مفتوحة: إذا كنت شريكاً لشخص مصاب بالاضطراب، فمن المهم التحدُّث بموضوعية وتذكُّر أن اضطراب الشخصية الحدية يمكن أن يتسبب في إساءة فهم ما يقوله الآخرون لهم. لذلك حاول أن تتجنُّب المواجهة أو الاتهامات المباشرة.
- تحدث عندما يكون شريكك هادئاً: إن النوبات الشديدة من اضطراب الشخصية الحدية ليست الوقت المناسب للنقاش حول الموضوعات المهمة، فقد يندفع الشريك باتخاذ قرارات غير عقلانية ذات عواقب وخيمة في تلك الأوقات. من المرجح أيضاً أن يكون دفاعياً أو يبتعد أو يتجه إلى سلوكيات إيذاء النفس عندما تكون أعراضه خارجة عن السيطرة.
- قدِّم الدعم: يجب على الشركاء تزويد الشخص المصاب بذلك الاضطراب بالمعلومات الكافية لفهم طبيعته، بالإضافة إلى دعمه عاطفياً.
- تجنّب اللوم: من المهم أن تكون حريصاً على عدم ربط كل شيء يقوله أو يفعله الشخص المصاب باضطراب الشخصية الحدية بمرضه العقلي لأنه قد يعتبر ذلك نوعاً من الإهانة أو الاستهزاء.
- تعامل مع التهديدات بجدية: يجب ألا تصبح التهديدات بإيذاء النفس أو الانتحار شكلاً من أشكال الابتزاز في العلاقة؛ ولكن يجب أن تؤخذ على محمل الجد بغض النظر عما إذا كنت تعتقد أن الشخص يخطط لتنفيذها أم لا.
- أعطِ الأولوية للرعاية الذاتية: وبالمثل، فإن كونك في علاقة مع شخص مصاب باضطراب الشخصية الحدية يمكن أن يُشعرك بأنك مستنزَف عاطفياً تماماً؛ ولكن من المهم أن تبحث عن نظام الدعم الخاص بك وأن يكون لديك منفذ صحي للتعامل مع التوتر.
- اجعل الأكل الصحي واللياقة البدنية والنوم أولوياتك: كذلك حاول أن تخصص وقتاً للأصدقاء أو ممارسة هواية أو أنشطة ممتعة.
وأخيراً؛ يكافح المصابون باضطراب الشخصية الحدية في تكوين ورؤية المنظور الصحي للأشياء. لذلك عندما ينفعلون، حاول أن تستمع دون الإشارة إلى العيوب في حديثهم أو حجتهم.
وإذا أشار الشخص إلى شيء يمكنك تحسينه أو فعلته بشكل خاطئ؛ اعترف بوجهة نظره واقترح طريقة يمكنك من خلالها تحسين الأمر في المستقبل، فإذا شعر الفرد أن رأيه يُعتدّ به من غير المرجَّح أن تتفاقم الأزمة.
إن التعاطف والتواصل الجيد هما أمران شديدا الأهمية حين يكون أحد طرفيّ العلاقة مصاباً بتلك الاضطرابات؛ الأمر الذي إذا تمت إدارته جيداً فقد ينجح الأفراد في العبور سالمين من العواصف التي قد تنهي العلاقات في حالة عدم الوعي بأسبابها.