"سعت فتاة تبلغ من العمر 27 عاماً، عازبة وحاصلة على شهادة جامعية، إلى علاج نفسي بشكوى من أنها لم تعد تشعر بجسدها. ذكرت أنها تشعر بالفراغ بداخلها، وأن جسدها بدا وكأنه في مكان آخر وأجوف، ولا يحتوي سوى على الجلد؛ بل ويبدو أنه ملك شخص آخر. لقد وصل بها الحال إلى حد ارتداء العديد من الأساور لتحديد حدود أطرافها، كما عانت من الانفصال العاطفي، وكثيراً ما تقول "أشعر وكأنني ميتة" أو "لا أشعر بأي شيء"؛ لكنها على الرغم من ذلك تشكو من القلق الشديد في المواقف الاجتماعية؛ ما يعني أن اختبار الواقع لديها سليم".
في حين قد يبدو ذلك رسماً لشخصية خيالية لرواية أو فيلم؛ إلا أن تلك الحالة حقيقية؛ تم كتابة تقرير عنها في مجلة الطب النفسي البرازيلية.
ما تمرّ به هذه الفتاة الشابة ليس ضرباً من الخيال؛ إنها أعراض أحد الاضطرابات النفسية؛ اضطراب تبدد الشخصية والاغتراب عن الواقع (Depersonalization/Derealization Disorder) الذي يبلغ معدّل انتشاره -وفقاً لدراسة ألمانية من جامعة "يوهانس غوتنبرغ ماينز" للطب النفسي- بين 1 إلى 2%.
تبدد الشخصية والاغتراب عن الواقع
بحسب الجمعية الأميركية للطب النفسي؛ يشعر الفرد في اضطراب تبدد الشخصية أن مشاعره وتجاربه منفصلة عنه؛ حيث يشعر بأن المناطق المحيطة غير حقيقية أو بعيدة أو مصطَنَعة وبلا حياة؛ لكن يظل يشعر بالواقع من حوله.
يشعر المصاب بهذه المتلازمة باضطراب في تكامل التجربة الإدراكية والشعور بالضيق بسببها، وهي تبدأ عادة خلال فترة المراهقة أو بداية البلوغ، بنسبة (1: 2) بين الذكور والإناث.
يتم تفسير تلك الحالة من الناحية النفسية على أنها ظاهرة هروب عقلي من تجربة أي شيء بشكل كامل عن طريق قمع التجارب العاطفية؛ ما يسبب تغيراً عميقاً في التجارب الخاصة بالذات والبيئة المحيطة.
بالإضافة إلى هذه السمات؛ قد تشمل الأعراض تغيراً في الإحساس الجسدي وفقدان التفاعل العاطفي، فقد يشعر الفرد أنه مراقِب خارجي لعملياته العقلية وحركاته الجسدية.
على الرغم من اعتبار ذلك الاضطراب في السابق نادراً؛ ما أدى إلى قلة الدراسات التي تتناوله؛ فإن إحدى الدراسات الإنجليزية أشارت إلى أن ذلك الاضطراب ربما يكون أكثر شيوعاً مما كان يُعتَقَد سابقاً.
من خلال مسح سريري ونفسي شامل أجراه باحثون من مستشفى سانت نيكولاس بنيوكاسل لسلسلة من المرضى؛ وجدوا أنه من أصل 204 حالات، هناك ما يصل إلى 71% من عينة دراستهم تفي بمعايير اضطراب تبدد الشخصية الأولي.
خصائص وأعراض تبدد الشخصية
على الرغم من أنها تجارب منفصلة؛ فإن تبدد الشخصية والشعور بالاغتراب عن الواقع عادةً ما يحدثان معاً. يعني تبدد الشخصية الشعور وكأنك خارج جسدك أو عقلك، بينما الاغتراب عن الواقع يعني الشعور بأن ما حولك ليس حقيقياً.
يمكن أن تشمل أعراض تبدد الشخصية أيضا الشعور بـ:
- عدم القدرة على وصف مشاعرك.
- الخدر.
- الشعور أنك إنسان آلي.
- عدم القدرة على التحكم فيما تقوله أو تفعله.
كذلك؛ يمكن أن يكون للانفصال عن الواقع الأعراض التالية:
- التفكير في أن العالم ليس حقيقياً.
- الشعور بوجود جدار زجاجي يفصلك عن العالم.
- وجود رؤية مشوَّهة؛ مثل رؤية أشياء ضبابية، وعديمة اللون، وصغيرة أو كبيرة بشكل غير عادي.
يمكن أن تستمر تلك الأعراض لساعات أو أيام أو أسابيع أو شهور. في حين قد يعاني معظم الناس من نوبات من الأعراض؛ إلا أنه من الممكن أن يصابوا بها بشكل مزمن.
اقرأ أيضاً: اضطراب الشخصية الحدية: الأسباب والعلاج
أسباب تبدد الشخصية
وفقاً لموقع كليفلاند كلينك؛ يظل السبب الدقيق لهذا الاضطراب غير معروفاً؛ لكن هناك العديد من عوامل الخطر التي قد تؤدي له؛ بما في ذلك:
- ضغوط شديدة في أي مجال من مجالات الحياة؛ علاقات أو العمل، وغير ذلك.
- صدمة؛ مثل موت شخص عزيز فجأة أو مشاهدة حدث صادم.
- الاكتئاب أو القلق، وخاصة الاكتئاب الشديد أو المطوَّل أو القلق من نوبات الهلع.
- الإساءة العاطفية أو الجسدية أو الإهمال في مرحلة الطفولة.
- تعاطي المخدرات.
- الحرمان من النوم.
- النشأة مع أحد أفراد الأسرة المصاب بمرض عقلي خطير.
- الإصابة باضطرابات عقلية أخرى.
كذلك؛ قد تزيد النزعة الفطرية لتجنب أو إنكار المواقف الصعبة، ووجود مشكلة في التكيف مع المواقف الصعبة، من فرص الإصابة بذلك الاضطراب.
اقرأ أيضاً: كيف استطعت التأقلم مع اضطراب ثنائي القطب؟
علاج تبدد الشخصية
إن الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع اضطراب تبدد الشخصية هي العلاج النفسي؛ والذي يشمل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) لتعليم المريض استراتيجيات لمنع التفكير غير المنطقي في الشعور بأشياء غير حقيقية. يُعلِّم العلاج السلوكي المعرفي أيضاً:
- تقنيات التأريض (Grounding Techniques) التي تستدعي الحواس لمساعدتك على الشعور بمزيد من التواصل مع الواقع؛ مثل تشغيل موسيقى صاخبة لجذب السمع، أو حمل مكعب ثلج للشعور بالارتباط بالإحساس.
- التقنيات الديناميكية النفسية التي تركز على التتبع اللحظي، والتركيز على ما يحدث في الوقت الحالي، جنباً إلى جنب مع تصنيف الانفصال والتأثير الناتج عنه.
كذلك؛ تأتي أهمية تقنية الاستثارة الثنائية لحركة العينين وإعادة البرمجة (EMDR)؛ والتي تُستخدم لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة عموماً، لعلاج هذا الاضطراب أيضاً؛ والتي يركز خلالها المريض على الذاكرة المؤلِمة خلال تحفيزها بحركات إيقاعية محددة لمعالجتها والانتقال منها.
بالإضافة إلى العلاج النفسي؛ هناك بعض الاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد المريض في الحفاظ على ثباته، وإعادته إلى الواقع عندما تظهر أعراض الاضطراب، وتشمل:
- قرص الجلد على ظهر اليد.
- استخدام درجة الحرارة لتحويل التركيز؛ مثل الإمساك بشيء بارد أو دافئ.
- النظر إلى المحيط وعدّ أو تسمية العناصر الموجودة.
- التنفس العميق والانتباه خلال عمليتيّ الشهيق والزفير.
- ممارسة التأمل لتنمية الوعي بالحالة الداخلية.
- التواصل مع صديق أو أحد أفراد الأسرة وطلب الاستمرار في التحدث.
بجانب العلاج النفسي؛ تكون فرص التعافي أفضل عندما يتم التعامل بنجاح مع الضغوط الأساسية التي ساهمت في نشوء ذلك الاضطراب للحصول على نسب شفاء أعلى.
وأخيراً؛ قد يكون تشخيص اضطراب تبدد الشخصية والاغتراب عن الواقع مزعجاً ومربكاً. ومع ذلك؛ بمجرد فهم أن الأعراض التي يعاني منها المريض لها سبب معقول ومعروف، فقد يبدأ في الشعور بقلق أقل، يليه السعي نحو العلاج.