ملخص: إذا كنت تتابع أخبار الحرب في غزة فأنت قطعاً تعرف الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح الذي كان ينقل لنا الأحداث ليلاً ونهاراً لكنه فقد عائلته فجأة؛ حيث توفيت زوجته وابنه وابنته وحفيده. استكمل وائل تغطية الأحداث المؤلمة، وهنا ثار التساؤل عن الصدمات النفسية القوية التي يتعرض إليها الأفراد، فهل يمكن تجاوزها؟ وكيف يمكن أن نستأنف حياتنا بعد مرورنا بالمصائب؟ الإجابة في هذا المقال.
محتويات المقال
عندما نعيش تجربة مؤلمة، تنقلب حياتنا رأساً على عقب، ويمكن للمصيبة التي مررنا بها أن تهزنا من الأعماق كما يمكنها أن تجعلنا نشك في قيمنا حتى يتزعزع إيماننا بهويتنا. ومن الطبيعي أن نبدي ردود أفعال عاطفية ونفسية وسلوكية وجسدية قوية بعد الأحداث المؤلمة، ومع ذلك، هناك العديد من الأمور التي يمكن القيام بها من أجل التعافي، وإليكم في هذا المقال كيف يمكننا استئناف حياتنا بعد مرورنا بالمصائب.
ماذا يحدث داخل أدمغتنا حين نتعرض إلى الأحداث المؤلمة؟
بخصوص تغطية أحداث الحرب في غزة على نحو أساسي: كنا نتابع عدداً من الصحفيين الفلسطينيين؛ ومن أهمهم وائل الدحدوح الذين كان يغطي الأحداث على الشاشة صباحاً ومساءً. في أثناء عمله، فقد الدحدوح أسرته في القصف الإسرائيلي؛ حيث توفيت زوجته وابنه محمود البالغ من العمر 16 عاماً وطفلته الصغيرة شام صاحبة الأعوام الستة وحفيده الرضيع آدم. وعلى الرغم من الصدمة الكبرى التي تعرض إليها الدحدوح، فإنه لم يتوقف عن عمله وما زال يواصل نقل الأحداث حتى الآن؛ وهو الأمر الذي جعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتساءلون عن الأبعاد النفسية التي يمر بها الشخص عند مروره بهذا المصاب الأليم مثلما حدث مع الدحدوح، وعن كيفية تعامل عقله مع الأمر.
ووفقاً لدراسة بحثية أجرتها المكتبة الوطنية للطب (National Institutes of Health NIH)؛ فالأحداث المؤلمة تؤثر بصفة رئيسة في 3 أجزاء من الدماغ وهي:
- اللوزة الدماغية: التي تعد المركز العاطفي والغريزي.
- الحصين: وهي الغدة المسؤولة عن الذاكرة.
- قشرة الفص الجبهي: المسؤولة عن تنظيم عواطفك ودوافعك، وتعمل الأجزاء الثلاثة معاً على إدارة التوتر.
وبعد وقوع حادث مؤلم أو صادم، يفرز الدماغ هرمونات التوتر باستمرار؛ ما يجعلك تسترجع الحدث المؤلم على نحو متكرر. ويمكن أن يتسبب الإفراز المستمر لهرمونات التوتر مثل الكورتيزول في تقلص حجم الحصين، وأن تتسبب الصدمة في زيادة نشاط اللوزة الدماغية الذي يؤدي بدوره إلى جعل الدماغ يعيش الصدمة كما لو كانت تحدث للمرة الأولى؛ ما يسبب عدداً كبيراً من الأفكار السلبية وصعوبة التحكم في العواطف. يشبه الموقف كما لو كان مخك يخبرك: "لا تسترخِ، أنت على حافة الهاوية"! وإلى جانب التوتر والقلق الذي قد يشعر به الشخص بعد الصدمة، تؤكد المعالجة النفسية سلمى المفتي إن بعض الأضرار قد تكون بالغة مثل تبدل نظرة الشخص إلى نفسه.
وأحياناً، قد يبدو الأمر كما لو أن الأحداث الصادمة والمؤلمة تُحدث ضرراً لا يمكن إصلاحه بدماغك؛ لكن هذا غير صحيح، فأدمغتنا قابلة للتكيف، وعلى الرغم من أن التغلب على الصدمة أمر صعب، فإن عقولنا تحمينا على نحو لا إرادي.
اقرأ أيضاً: لماذا تختلف استجابتنا للصدمات النفسية؟ وكيف نعالجها؟
كيف تحمينا عقولنا من الأحداث الصادمة؟
حين تواجه المواقف الصادمة في حياتك، يراقب العقل الباطن الموقف لمعرفة إمكانية تعرضك إلى الأذى. إذا اعتقد العقل الباطن أن الموقف قد يؤدي إلى ضرر عاطفي ونفسي، فقد يتفاعل بآلية دفاعية لحمايتك، وعادة يكون الشخص غير مدرك لآلية الدفاع؛ ولكنها تعد جزءاً طبيعياً من التطور النفسي. والآليات الدفاعية هي عبارة عن مجموعة من الاستراتيجيات النفسية التي تساعد الأفراد على وضع مسافة آمنة بينهم وبين المشاعر غير المرغوب فيها التي تتولد من الأحداث الصادمة. وهذه أهم آليات الدفاع التي تُستخدم في الأحداث الكبرى والمواقف الأليمة:
- الإنكار: يعد الإنكار إحدى أكثر آليات الدفاع شيوعاً، ويحدث عندما يرفض الأشخاص قبول الواقع أو الحقائق؛ حيث يحجبون الأحداث حتى لا يضطروا إلى التعامل مع التأثير العاطفي. بمعنىً آخر: يتجنبون المشاعر أو المواقف المؤلمة.
- القمع: يمكن للأفكار السلبية أو الذكريات المؤلمة أن تزعجنا، وبدلاً من مواجهة تلك الأفكار، قد نختار دون وعي إخفاءها على أمل نسيانها تماماً.
- التسامي: ويعد هذا النوع من آليات الدفاع استراتيجية ناضجة وإيجابية؛ وذلك لأن الأشخاص الذين يعتمدون عليه يختارون إعادة توجيه المشاعر القوية إلى شيء أو نشاط مناسب وآمن.
هل من الأفضل مواجهة الصدمة أم الهروب منها؟
تؤكد الطبيبة النفسية سابينا ماورو (Sabina Mauro) إن إنكار الصدمة والهروب منها قد يكون مفيداً على المدى القصير؛ وذلك لأنه يسمح للناجين بالوقوف على أقدامهم مرة أخرى، وتضيف ماورو إن الآليات الدفاعية التي نتعلم الاعتماد عليها قد تبدأ الانهيار مع مرور الوقت.
لذلك؛ فإن مواجهة الصدمة أمر حتمي ولا بد منه من أجل تجاوزها، ناهيك بأن مواجهة الصدمة سوف تمنحك القوة والسيطرة. وعندما تصل أخيراً إلى الضفة الأخرى من الألم، سوف تحس بمجموعة مختلفة تماماً من المشاعر مثل الراحة والخفة والتحرر والاكتمال.
كيف يمكن أن نستأنف حياتنا بعد مرورنا بالمصاعب؟
في أوقات الصدمات والأزمات النفسية، نمر بالكثير من الصعاب. ولكن في مرحلة ما، سنكون قادرين على التفكير في العواقب الطويلة المدى لهذه الأوقات المؤلمة وما أحدثته فينا من تغييرات، ويُطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "نمو ما بعد الصدمة" (posttraumatic growth)، وهذا النمو هو الذي يمكّننا من استئناف حياتنا بعد مرور الصعاب؛ حيث يعملنا أن التجارب السلبية يمكنها تحفيز التغيير الإيجابي بما فيه الاعتراف بالقوة الشخصية والنمو الروحي وتقدير الحياة على نحو أكبر واستكشاف إمكانيات جديدة. وعلى الرغم من أن نمو ما بعد الصدمة يمكن أن يحدث على نحو طبيعي، فإن هناك الكثير من العوامل التي تعمل على تسهيله من أجل استئناف الحياة؛ وذلك مثل:
- التعلم: للانتقال من الصدمة إلى النمو يجب على الشخص أن يتعلم عن ماهية الصدمة الأولى: لماذا حدثت؟ ماذا يجب أن أفعل؟ أي نوع من الأشخاص يحيطون بي؟ وفي أي عالم أعيش؟ وأي مستقبل سيكون لديّ؟ وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة قد تكون مؤلمة؛ ولكنها أيضاً يمكن أن تؤدي إلى تغيير سيكون ذا قيمة.
- التنظيم العاطفي: في هذه الخطوة، سوف نغير نوع التفكير الذي يؤدي إلى المشاعر السلبية مثل القلق، والشعور بالذنب، والغضب. وبدلاً من التركيز على الخسائر والإخفاقات وأسوأ السيناريوهات، سوف نحاول أن نفكر في أفضل الاحتمالات، والموارد التي لدينا، ومدى استعدادنا للمضي قدماً، ويمكن تنظيم العواطف من خلال مراقبتها، وهناك بعض الوسائل التي تساعد على التنظيم العاطفي مثل ممارسة التمرينات الرياضية والتأمل والتنفس العميق.
- الكشف والمواجهة: في هذا الجزء من رحلتك نحو التعافي، سوف تكشف عما حدث معك؛ آثاره النفسية القصيرة الأجل والطويلة الأجل، الشخصية والمهنية؛ حيث إن توضيح هذه الأشياء سوف يساعدك على فهم الصدمة وتحويل الأفكار المنهكة إلى تأملات أكثر إنتاجية.
- خلق قصة جديدة: حتى نتمكن من قبول الفصول التي كُتبت بالفعل في قصتنا في الماضي، علينا خلق فصول جديدة ذات معنىً. وبدلاً من أن تدور القصة حول الماضي المؤلم، يمكن أن نحكيها بطريقة مختلفة عبر النظر إلى مستقبل أفضل. ولهذا؛ عندما تكون مستعداً، ابدأ صياغة قصة الصدمة التي مررت بها، وكيف دفعتك إلى إعادة التفكير في أولوياتك، وما المسارات أو الفرص الجديدة التي نشأت عنها.
- طلب المساعدة: يمكنك التحدث إلى أحد أصدقائك أو أقاربك؛ عبّر عن مشاعرك لدى ظهورها، وحين تثير الصدمة ذكريات مؤلمة في هذه المرحلة حاول مواجهتها، وإذا وجدت صعوبة في القيام بذلك، تُمكنك الاستعانة بأحد متخصصي الصحة النفسية.
اقرأ أيضاً: من السخرية إلى إسقاط عيوبك على الآخرين: تعرف إلى الآليات الدفاعية النفسية
ماذا يحدث لنا حين ننجح في تجاوز الصدمات النفسية؟
يستغرق تجاوز الصدمات النفسية بعض الوقت من أجل استعادة التوازن العاطفي وإعادة بناء الحياة مرة أخرى، وحين تنجح في تجاوز صدمتك النفسية، سوف يحدث معك التالي:
- إعادة اكتشاف قوتك الشخصية: غالباً ما يتفاجأ الأشخاص بمدى نجاحهم في التعامل مع الصدمات النفسية، وكيف أنها جعلتهم أكثر قوة ومجهزين على نحو أفضل لمواجهة التحديات المستقبلية.
- إمكانيات جديدة: الحقائق الجديدة التي سوف تكتسبها عن نفسك سوف تمنع استئناف العادات والأدوار والاستراتيجيات القديمة.
- تقدير قيمة الحياة: حين نواجه الفقد والخوف والخسارة، سوف نكون أكثر امتناناً للأشياء التي نملكها.
في النهاية، علينا أن ندرك أن عملية التعافي تأخذ وقتاً، فبعد وقوع الكوارث والحروب يتطلب الأمر الكثير من الوقت من أجل إعادة الإعمار وإزالة الأنقاض إصلاح الأضرار، والأمر نفسه يحدث بعد وقوع الأحداث الصادمة. لهذا؛ خذ وقتك في الحزن ولا تتجاهل مشاعرك؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى إبطاء عملية التعافي.