الانتحار عند المراهقين: الأمارات وسبل الحماية

الانتحار عند المراهقين
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: من المعروف أن تأثير جائحة كوفيد-19 لم يقتصر على الصحة الجسدية بل امتد ليطال صحتنا النفسية أيضاً، وكان المراهقون الأكثر تأثراً إذ تزامنت هذه الأزمة مع طبيعة المرحلة التي يمرون بها فأصبحوا أكثر عرضةً للاضطرابات النفسية والأفكار الانتحارية، الأمر الذي ولد سؤالاً مُلحّاً لا تحتمل إجابته التأخير وهو: كيف يمكننا حمايتهم وتدارك الموقف قبل أن تصبح الفكرة فعلاً؟ تقول مختصة الطب النفسي للأطفال جولي رولينغ: “الانتحار عند المراهقين ليس فعلاً حتمياً ومن الضروري أن نعرف كيف ننتبه إلى إشاراته التحذيرية المحتملة وتُمثل التغيرات السلوكية مؤشرات مهمة في هذا الصدد، فمن الطبيعي مثلاً أن يقضي المراهق وقتاً بمفرده في غرفته لكن عندما يصبح منعزلاً أكثر من المعتاد فإن على الوالدين التساؤل عن الأسباب”.
من المعروف أن تأثير جائحة كوفيد-19 لم يقتصر على الصحة الجسدية بل امتد ليطال صحتنا النفسية أيضاً، وكان المراهقون الأكثر تأثراً إذ تزامنت هذه الأزمة مع طبيعة المرحلة التي يمرون بها فأصبحوا أكثر عرضةً للاضطرابات النفسية والأفكار الانتحارية، الأمر الذي ولد سؤالاً مُلحّاً لا تحتمل إجابته التأخير وهو: كيف يمكننا حمايتهم وتدارك الموقف قبل أن تصبح الفكرة فعلاً؟ لنتعرف إلى إجابة هذا السؤال وكيفية التعامل مع قضية انتحار المراهقين الحساسة، أجرينا المقابلة التالية مع مختصة الطب النفسي للأطفال بجامعة ستراسبورغ (University of Strasbourg) بفرنسا، جولي رولينغ (Julie Rolling).

كان للجائحة تأثير كبير في الصحة النفسية للبالغين، فماذا عن المراهقين؟

جولي رولينغ: “تشير أرقام الصحة العامة في فرنسا إلى أن نوبات الاكتئاب ازدادت 43% في عام 2021 مقارنة بالأعوام السابقة بين الأطفال الذي تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً كما ازدادت نسبة الأفكار الانتحارية بينهم 31%. وفي هذا السياق، ازداد عدد الزيارات إلى غرف الطوارئ النفسية للأطفال منذ بداية العام أكثر من 80% كما ازدادت نسبة الخضوع إلى العلاج في المستشفى بعد هذه الزيارات أكثر من 79%.

من الشعور بعدم اليقين حيال المستقبل وفقدان القدرة على التفكير بوضوح، إلى الشعور بالذنب لاحتمال نقل العدوى إلى الآخرين والخوف المرتبط بهذه العدوى، عاش العالم أجمع بسبب هذا الوباء فترةً غير مسبوقة وكان تأثيرها شديداً في المراهقين على وجه الخصوص، وعلى الرغم من أن الكثيرين منهم لم يعانوا صعوبات كبيرة خلال هذه الأزمة فإن آخرين تأثروا نفسياً.

كانت الإجراءات الصحية التي فُرضت كالحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي ضروريةً للحد من الوباء لكنها أضعفت في الوقت ذاته الروابط الاجتماعية؛ إذ حُرم المراهقون من ممارسة الأنشطة الرياضية والترفيهية الجماعية والدراسة الحضورية وقد أثر ذلك بشدة فيهم لأن التفاعل مع الآخرين هو نشاط في حد ذاته بالنسبة إليهم. وحتى عندما حاولوا خلق مساحات بديلة للتفاعل ولا سيما على الشبكات الاجتماعية، فإن ذلك لم يعوضهم عن التفاعل الاجتماعي مع الأصدقاء الذي يمثل متنفساً لهم بعيداً عن الضغوط المدرسية والرقابة الأسرية.

إضافةً إلى ذلك، فإن القيود المفروضة على الخروج ومقتضيات الدراسة وحالة عدم اليقين التي لا يمكن التنبؤ بنهايتها وغياب الإجابات الواضحة عن الأسئلة المُلحّة هي أمور تراكمت كلها لتسبب ضغطاً نفسياً على المراهق في هذه المرحلة الحساسة التي يبني فيها هويته كاملةً.

أخيراً، لا يمكن إغفال التأثير الفيزيولوجي الذي سببه استخدام المراهقين المفرط للشاشات والذي تمثل في تغير نمط النوم وعدم الحصول على قسط كافٍ منه ما أدى إلى تدهور صحتهم النفسية”.

ما دوافع المراهق للإقدام على الانتحار؟

جولي رولينغ: “بعيداً عن الحدث المسبب، من الصعب تحديد الأسباب التي دفعت المراهق للانتحار فهذا الفعل معقد ويرتبط بعوامل متعددة.

يمكن أن تسهم مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية والجسدية في زيادة خطر الانتحار عند الفرد، أما الإقدام على الفعل في حد ذاته فهو يتزامن مع لحظة من الضعف النفسي لتكون “القشة التي قصمت ظهر البعير”.

قد تتراكم التجارب المؤلمة في حياة المراهق، فيتعرض إلى التنمر في المدرسة تزامناً مع طلاق والديه أو وفاة أحد أفراد أسرته مثلاً، فيسهم ذلك في خلق حالة من التعاسة في نفسه تؤدي إلى تدهور نتائجه المدرسية، ومن ثم تدني احترام الذات، وقد يضاف إلى ذلك حدث أقل أهمية لكنه يعجل بإقدامه على الانتحار كوقوع خلاف في دائرة الأصدقاء التي تمثل عادةً مصدر الدعم للمراهق، فتراكم هذه الأحداث السلبية يُشعره بأن لا شيء في حياته يسير على ما يرام؛ ما قد يوقعه فريسة للحظة من الضعف تدفعه إلى الانتحار.

ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على التواصل مع المراهقين؛ إذ إنهم أكثر اندفاعاً عموماً من البالغين الذين ترتبط محاولات الانتحار لديهم بالأعراض الاكتئابية، ولذلك فإن اتصال المراهق بصديقه أو معالجه النفسي أو أحد خطوط الدعم النفسي يمكن أن ينقذ حياته عندما يكون بصدد الإقدام على الانتحار.

وثمة نقطة مهمة يجب أن ننتبه إليها، وهي أن معظم المراهقين الذي أُسعفوا إلى غرف الطوارئ بعد محاولة الانتحار قالوا إنهم لم يكونوا يريدون الموت بل كل ما كانوا يريدونه هو التخلص من المعاناة التي سيطرت على حياتهم”.

هل ثمة إشارات تحذيرية يجب أن ينتبه إليها الوالدان والأحباء؟

جولي رولينغ: “ليس الانتحار فعلاً حتمياً، ومن الضروري أن نعرف كيف ننتبه إلى إشاراته التحذيرية المحتملة ومن ثم سنتمكن من مساعدة الشخص الذي يمر بأزمة نفسية على رؤية بدائل أخرى لهذا الفعل.

تُمثل التغيرات السلوكية مؤشرات مهمة في هذا الصدد، فمن الطبيعي مثلاً أن يقضي المراهق وقتاً بمفرده في غرفته لكن عندما يصبح منعزلاً أكثر من المعتاد فإن على الوالدين التساؤل عن الأسباب. وبالمثل؛ إذا توقف عن الاستماع إلى الموسيقا المفضلة لديه أو لم يعد يشتهي الطعام الذي يحبه، أو عندما يغضب باستمرار دون سبب واضح على عكس طبيعته، وغير ذلك.

يجب الانتباه أيضاً إلى مشاعر الحزن والتعابير المرتبطة بالموت التي قد يستخدمها من قبيل: “الحياة بلا قيمة”، والسلوكيات الخطرة مثل ركوب الدراجات النارية أو تعاطي الكحول والمواد المخدرة. إنها عموماً مجموعة من العلامات التي يجب أن تسترعي انتباه الوالدين كما يجب أن يثقا بحدسهما فهما يعرفان طفلهما حق المعرفة، وحين يشعران بأن ثمة خطأ ما يجب ألا يترددا في التحدث عنه أو حتى استشارة مختص”.

لكن ليس التواصل مع المراهقين سهلاً دائماً، صحيح؟

جولي رولينغ: “في الحقيقة، يشعر المراهق بتحسن حالته النفسية في كثير من الأحيان بمجرد أن يصارحه والداه بقلقهما بشأنه وبأنهما يتفهمان أنه ثمة ما يشغل باله أو يكدره؛ إذ إن دعم المحيطين به أساسي وكفيل بتغيير حالته على نحو ملحوظ.

وإذا بقي المراهق حبيس عزلته أو تأزمت علاقة والديه به، فإن بإمكانهما أن يطلبا من أشخاص آخرين كالأجداد والأخوال والخالات والأعمام والعمات، التحدث إليه ويمكن لذلك أن يمثل متنفساً للمراهق عندما تتوتر الأجواء في المنزل. وتبعاً للموقف، تمكن الاستعانة أيضاً بأشخاص يمثلون مرجعيات في حياة المراهق للتحدث إليه كمعلميه ومدربيه الرياضيين وغيرهم، وبالأقارب الآخرين لينصحوه بالاتصال بخطوط الدعم النفسي مثلاً.

وإذا استمرت حالة الكدر التي يعانيها رغم كل المحاولات، فمن المهم استشارة مختص صحي مثل الطبيب العام أو طبيب الأطفال، أو مختص في الطب النفسي للأطفال إذا لزم الأمر”.

هل ثمة عبارات يجب تجنبها تماماً عند التواصل مع المراهق؟

جولي رولينغ: “نعم، فعلى الوالدين تجنب توجيه أوامر له من قبيل: “قاوم، تماسك، انهض” فهي بلا فائدة ولا يمكن للأشخاص الذين لديهم أفكار انتحارية وفي حالة اكتئاب، الاستجابة لها. من جهة أخرى من الضروري تجنب الكلام الاستفزازي تماماً مثل: “على كل حال، إنها مجرد تهديدات فأنت لن تتحلى بالشجاعة الكافية للإقدام على الانتحار”، فالمسألة لا تتعلق بالشجاعة”.

كيف تؤثر الشبكات الاجتماعية في اتخاذ القرار بالانتحار؟

جولي رولينغ: “لكل حالة ظروفها ولا يمكننا التعميم في هذا الخصوص. تؤدي الشبكات الاجتماعية اليوم دوراً مهماً في الاندماج الاجتماعي للمراهقين الذي يُعد أساسياً لتوازنهم النفسي.

أما التأثير الضار للشبكات الاجتماعية في هذا السياق فيظهر عند استخدامها كأداة للتنمر الإلكتروني، لأن هذه الواجهات الافتراضية تضاعف تأثير الفعل فيصبح أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع؛ كما أن آثار التنمر الإلكتروني كالصور والتعليقات تبقى متاحة عبر الإنترنت ومرئية للجميع.

وتتعلق المشكلة الأخرى بالمواقع التي تمجد فكرة الانتحار، ومن المهم التحاور مع المراهقين حول تطرف هذه المواقع (شرح إطار عملها وزيادة الوعي بأهداف الأشخاص الذين يقفون وراءها وما إلى ذلك) سواء في المدرسة أو ضمن الأسرة والحرص على نشر معلومات دقيقة عن الصحة النفسية والانتحار”.

ما عوامل الخطر في فعل الانتحار عند المراهقين؟ وكيف يستجيب المراهق الذي حاول الانتحار للعلاج؟

جولي رولينغ: “تشير بيانات الأدبيات العلمية إلى أن وجود تاريخ عائلي للانتحار أو السلوك الانتحاري يُعد من عوامل الخطر؛ كما أن محاولة الطفل الانتحار سابقاً تزيد احتمال تكراره المحاولة مجدداً ولا سيما خلال الأشهر الستة الأولى التالية، الأمر الذي يتطلب يقظة ورعاية ملائمتَين، وبالمثل فإن الصدمات النفسية السابقة التي تعرض لها المراهق تُعد من عوامل الخطر أيضاً.

يطلب معظم المراهقين الذين حاولوا الانتحار الدعم والعلاج ويتقبلونه، وتختلف طريقة المتابعة ومدتها، ففي بعض الأحيان قد تكون بضع جلسات كافية في حين أن حالات أخرى تتطلب العلاج في المستشفى، ويتوقف تحديد ذلك على الدافع وراء محاولة الانتحار والظروف التي رافقتها ونتائج الفحص السريري، فلكل حالة طريقة علاجية خاصة بها.

تتحسن حالة معظم المراهقين بعد المتابعة العلاجية، فيستعيدون قدرتهم على التفكير السليم وتهدأ أعصابهم ويتمكنون من التعبير عن أنفسهم مجدداً، ويدرك المراهق أنه محاط بالدعم وأن الموقف الذي كان يظنه كارثياً قد لا يكون بهذه الأهمية.

عندما نمر بحالة نفسية سيئة فإننا ننظر إلى الحياة نظرة سوداوية مبالغاً فيها ولا تمثل الواقع، وهو تحيز معرفي، ويمثل محور الرعاية المقدمة بعد محاولة الانتحار. وتشهد معظم الحالات تطوراً إيجابياً، فعلى الرغم من أن ثمة احتمال لتكرار محاولة الانتحار خلال السنة الأولى لدى 20% من الحالات، فإن هذا يعني أن 80% منها تتحسن”.

المحتوى محمي !!