دليلك لفهم مرض انفصام الشخصية

مرض انفصام الشخصية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لطالما ارتبط مرض انفصام الشخصية في الأعمال الأدبية والسينمائية بالأعراض العنيفة والغريبة؛ لكن الحقيقة هي أنه لا يمكن اختزال هذا الاضطراب النفسي في أعراض الهلوسة والأوهام التي يسببها.

إن “انقسام الروح” هذا؛ كما أطلق عليه الطبيب النفسي السويسري يوجين بليولر، هو قبل كل شيء مصدر معاناة لمن يصاب به، وسبب تعرضه للإقصاء الاجتماعي. فيما يلي؛ نسلط الضوء على مرضٍ لا يزال يثير العديد من الأسئلة.

“أنا مصاب بانفصام الشخصية، وخلال الفترة الماضية كان الشعور بأن الحياة قد فاتتني ملازماً لي. لقد منعني هذا المرض من التطور مثل الآخرين، فقد دمر ماضيّ ودمر حياتي ببطء، لقد رسم معالم مستقبلي، كما فعل مع ماضيّ تماماً”.

عندما يشارك غيوم تجربته في منتدى سايكولوجيز، فإنه يشهد على كل الفزع الناجم عن مرض انفصام الشخصية. يُعد انفصام الشخصية أحد الاضطرابات النفسية الذُهانية، وهو “يلتهم” المريض التهاماً، ويصعب التكهن بتبعاته. ويتجلى المرض بأعراض مختلفة الشدة تبعاً للحالة التي يمكن أن تتحسن تدريجياً، أو تسوء أو تستقر. وبخلاف تقييم الطبيب النفسي؛ لا يوجد فحص طبي يسمح بتشخيصه بدقة؛ إذ يبقى انفصام الشخصية لغزاً من نواح كثيرة.

تعرّف على مرض انفصام الشخصية

يُعتبر انفصام الشخصية مرضاً “غير متجانس”؛ إذ لا تظهر أعراضه بالطريقة نفسها في جميع المرضى. وبينما صنف الباحثون أعراض المرض في 3 مجموعات أساسية، فإن لكل مريض تجربته الخاصة مع انفصام الشخصية. يقول تامر على المنتدى: “أخي الأكبر مصاب بانفصام الشخصية، وهو يفكر في كل ما يتعلق بحياته وحياة الآخرين، ويعيد تحليله مراراً وتكراراً، ويتساءل عن كل الأمور، حتى عن الواضح منها، ويغير آراءه وسلوكياته في كل لحظة. تخيل نفسك تعيش حالة شك مستمرةً، وتحلل كل ما يمر بك، من أبسط الأمور إلى أعمقها، وتنتقل بين الحقيقة ونقيضها في بضع دقائق، ليلاً ونهاراً. أضف على ذلك معاناته من الهلوسات، فهو يتخيل أن العائلة تحيك مؤامرات ضده، ودائماً ما يعبر عن شكوكه حول حقيقة هوية والدينا … “.

الأعراض الإيجابية لمرض انفصام الشخصية

الهلاوس

عادةً ما تكون الهلوسات المظاهر الأولى التي ننسبها إلى مرض انفصام الشخصية، وهي جزء من الأعراض الإيجابية للمرض التي وصفها الأستاذ نيكولاس فرانك في كتابه “انفصام الشخصية: التعرف عليه وعلاجه” (La Schizophrénie, la reconnaître et la soigner) بأنها المسؤولة عن التغيرات في شخصية المريض وسلوكياته.

يمكن أن تكون هذه الهلاوس لفظية أو “حركية” – جسدية؛ إذ يدرك المريض أشياء لا وجود لها في الواقع ويقتنع بها اقتناعاً تاماً، سواء كان يتخيل سماع أصوات (غالباً ما يتخيل سماع عبارات إهانة وازدراء) أو أحاسيس جسدية أو يشم روائح غير موجودة. ويشعر المريض بأنه مضطر للرد على هذه الأصوات التي يتوهم سماعها، أو الانصياع لها؛ ما يؤدي إلى تفاعله مع محاور وهمي.

يطوّر مريض انفصام الشخصية تبعاً لهذه الهلاوس أفكاراً وهمية لا أساس لها في الواقع، ويتعامل معها كحقائق مؤكدة بالنسبة له. تقول فابريس: “عندما أصبحتُ راشدة أدركت أن أمي كانت تعيش معاناةً حقيقيةً؛ إذ دائماً ما كانت في حالة ارتياب وتشعر أنها مُراقبَة، ثم بدأت تعتقد أن المخابرات العامة تلاحقها، وأن الدولة تريد سجنها، وكانت تقول كلمات غير مفهومة، وتفتش المنزل عند عودتها إليه بحثاً عن أجهزة تنصت”. إن اضطراب جنون العظمة، وتوهم التعرض للاضطهاد، أو الوقوع في حب أحد ما أو الإيمان بمعتقدات وهمية أو توهم الإصابة بمرض جسدي خطير، هي أبرز حالات الهوس التي يواجهها مرضى انفصام الشخصية في فترة الهذيان.

يؤدي مرض انفصام الشخصية إلى طمس الحدود بين ذات المريض والآخرين، لذلك من الشائع أن يعتقد المرضى أن هناك عنصر أو شخص خارجي يتحكم في أفكارهم؛ ما يؤدي إلى اضطراب “تخطيط المهام وإنجازها”، وهو العَرَض الإيجابي الأخير.

الأعراض السلبية لمرض انفصام الشخصية

لا تقل الأعراض السلبية لانفصام الشخصية سوءاً عن أعراضه الإيجابية، ووفقاً لنيكولاس فرانك: “تُمثّل الأعراض السلبية قيوداً تحد من قدرة المريض على التفكير أو التصرف أو الشعور”. وبعبارة أخرى؛ يفقد المريض الشعور بالرغبة أو المتعة، فهو يفتقر إلى الطاقة، وروح المبادرة ويميل إلى الخمول أحياناً، إلى درجة عدم قدرته على الاعتناء بنفسه، تقول كلير: “لن أنسى ذلك اليوم أبداً عندما زرت أخي في شقته، كانت الفوضى تعم المكان، ولم يُحرَّك أي شيء من مكانه منذ عدة أشهر. كانت القمامة متراكمةً، وفاضت بقايا الطعام في الأطباق، وعندما سألته عما حدث، التزم الصمت وعاد إلى أفكاره”.

يوضح الطبيب النفسي: “إضافةً إلى عدم قدرته على اتخاذ القرارات أو التواصل مع الآخرين؛ قد لا يكون المريض قادراً أيضاً على التعبير عن مشاعره، أو حتى الشعور بمشاعر مناسبة للموقف الحالي في بعض الأحيان. وفي ظل استحالة الشعور بالسعادة أو حتى الحزن بالنسبة لهم؛ يعجز المرضى عن التكيف مع الأحداث التي يعيشونها، ومع البيئة الاجتماعية التي يجدون أنفسهم فيها”، ولسوء الحظ؛ يمكن أن يؤدي هذا “التباين” بين المريض ومحيطه إلى فصله عنه ودخوله في حلقة مفرغة من الإقصاء الاجتماعي.

أخيراً؛ يعاني مريض انفصام الشخصية من عدم القدرة على تنظيم أفكاره؛ ما يؤدي إلى انقطاع في كلامه وسلوكه، كما يمكن ملاحظة هذا التشوش في نشاطه غير المنظم أو لغته غير المفهومة، وقد يخترع مصطلحات جديدة أو يستخدم كلمات غير لائقة لوصف موقف ما. يواجه بعض الأشخاص المصابين بانفصام الشخصية صعوبةً كبيرًة في هيكلة سلوكهم؛ ما يجعل انخراطهم في الحياة المهنية والاجتماعية أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.

أسباب مرض انفصام الشخصية

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية؛ يعاني ما يقرب من 1% من سكان العالم من مرض انفصام الشخصية، ويعاني منه 600 ألف شخص في فرنسا. ويتجاوز عدد المصابين بهذا الذُهان، عدد المصابين بمرض الزهايمر أو التصلب المتعدد.

بينما مازالت أسباب مرض انفصام الشخصية مجهولةً إلى حد كبير، فيبدو أن هناك دوراً للوراثة والبيئة في ظهور المرض. جاء في موسوعة لاروس الطبية: “إن الأشخاص الذين يعاني أحد والديهم أو أحد أشقائهم من مرض انفصام الشخصية، معرضون لخطر الإصابة بالمرض بنسبة 10%”، أو 10 مرات أكثر من الشخص العادي؛ إلا أننا لا نستطيع اختزال المرض في التاريخ المرضي للعائلة.

ويتضح هذا من خلال السبل المختلفة التي أبرزها البحث لتفسير أعراض انفصام الشخصية كما يلي:

  • يمكن أن يحفز الإنتاج المفرط للدوبامين؛ وهي مادة تنظم نقل المعلومات بين الخلايا العصبية، الأفكار الوهمية.
  • يمكن أن يكون لاضطراب في نمو دماغ الجنين، خاصة أثناء الحمل (يرتبط أحياناً بعدوى فيروسية أو حمى عند الأم) دور في المرض.
  • ويشير الاكتشاف الأحدث حول مرض انفصام الشخصية إلى أنه ليس ذو منشأ نفسي، وبناءً عليه؛ يبدو أنه ليس بإمكاننا أن نعزوه إلى التاريخ المرضي لعائلة الشخص. ومع ذلك؛ يمكن للعوامل النفسية، وخاصةً الأحداث المسببة للضغوط النفسية (الصدمات العاطفية، ومواجهة القرارات المصيرية) أن تعجّل في ظهور المرض، أو تجعله يتطور، أو تحفز ظهور الأعراض مجدداً؛ وبالتالي سيكون الضغط النفسي عاملاً محفزاً على أرضية مرض انفصام الشخصية الموجودة مسبقاً …

العلاج والدعم

بهدف التعامل مع تنوع أعراض انفصام الشخصية؛ يتم تنظيم العلاجات حول محورين هما: الرعاية العلاجية (خاصة الأدوية) التي تهدف إلى السيطرة على أقوى أعراض انفصام الشخصية؛ بما فيها الهلوسة، إضافةً إلى الرعاية الداعمة، لدعم المرضى في هذه المحنة طويلة الأمد.

العلاج في المستشفيات

يعد العلاج في المستشفى ضماناً لسلامة الجميع، وهو يتيح تشخيص انفصام الشخصية من خلال استبعاد الأمراض الأخرى، وبدء العلاج الفعال الذي من شأنه أن يخفف من أعراض المرض، إضافةً لتوفر المراقبة الطبية المستمرة لحالة المريض. وعلى الرغم من صعوبة ذلك، فإن إقامة المريض في المستشفى، طوعاً أو تحت الإكراه، تعد مصدر أمل كبيراً في تحسن حالته. وعلى الرغم من أن البقاء في جناح الطب النفسي غالباً ما يكون ضرورياً في حالة حدوث أزمة لدى المريض، فإن العديد من دور الرعاية الصحية تقدم الآن رعايةً موجهة خصيصاً لمرضى انفصام الشخصية بما في ذلك المراكز الطبية – النفسية ووحدات الاستقبال العلاجي للمستشفيات النهارية.

العلاجات الدوائية

تسمح الأدوية المضادة للذهان للمرضى بإيجاد بعض الراحة؛ إذ تقلل من شدة الهلوسة ومراحل الهذيان والانفعالات. يوضح نيكولاس فرانك في كتابه أن هذه العلاجات “توفر نوعاً من عزل المريض عن تجربته الداخلية، وتسمح له باستعادة السيطرة على أفكاره، والتواصل بهدوء مع من حوله”. لكن هذه الأدوية لا تخلو من الآثار الجانبية (النعاس، والرعشة، وزيادة الوزن، وما إلى ذلك) وتعتمد فعالية العلاج على مراقبة حالة المريض؛ حيث يضطر بعض الأشخاص إلى الاستمرار فيه لعدة سنوات، أو حتى مدى الحياة، وتكمن هنا أهمية تقديم الدعم والمعلومات الكافية لعائلة المريض، لتكون قادرةً على القيام بمهمتها تجاهه.

العلاج النفسي

وهو مكمّل أساسي للعلاج الدوائي، فهو يجعل من الممكن إعادة إنشاء علاقة جيدة بين المريض وعائلته والطبيب، ومساعدته في إدارة علاجه وضغوطه النفسية. إلى جانب المتابعة من قبل الطبيب النفسي؛ يمكن أن يساعد التحليل النفسي، والعلاج النفسي التحليلي، والعلاج السلوكي، والعلاج الأسري، إضافةً إلى العلاج بالموسيقى والفن، والعلاج بالدراما النفسية (سيكودراما)، في تعايش المريض مع مرض انفصام الشخصية بصورة أفضل، ويعود للمريض اختيار العلاج الذي يجده مناسباً له.

تؤكد كيون في رسالة لها على منتدى سايكولوجيز، على أهمية التمسك بالأمل وتقول: “لقد أصبت بانفصام الشخصية منذ 10 سنوات. أعتقد أن الوقت هو أفضل حليف للمريض، ومع الحصول على العلاج المناسب والمراقبة الطبية المنتظمة، ستتحسن الأعراض، وغالباً ما يتلاشى المرض مع تقدم العمر، عليك أن تتحلى بالصبر، ومع الدعم الذي يمكن أن يقدمه لك المعالج الجيد، سيكون كل شيء على ما يرام”.

التعايش مع مرض انفصام الشخصية

إذا تذكرنا مرض انفصام الشخصية ومآسيه ونوباته، فإننا غالباً ما نتجاهل آثاره الأخرى على المريض؛ بما في ذلك الإقصاء الاجتماعي الذي يتعرض له. عندما يعاني مريض انفصام الشخصية من عدم القدرة على العمل أو رعاية نفسه أو إدارة حياته، وعندما يصبح عاجزاً عن التواصل مع الآخرين، فإن أنشطة العلاج النفسي الاجتماعي تكون ضروريةً لمساعدته في العودة إلى حياته، وإنشاء روابط مع الآخرين من جديد.

البدء بأنشطة تركز على الحياة اليومية

الهدف: تعليم المريض اتخاذ إجراءات تساعده على إيجاد مكان لنفسه في المجتمع. وبالتالي؛ تقدم مراكز الرعاية ورش حول إدارة الميزانية أو صيانة المساكن، أو ببساطة تعيد تعليم المرضى كيفية التواصل مع عائلاتهم؛ وذلك بفضل العلاج الأسري السلوكي.

الأنشطة الجماعية

تهدف الأنشطة الجماعية إلى إخراج المريض من حالة الإقصاء الاجتماعي؛ من خلال إتاحة الفرصة له لينشئ علاقات مع الآخرين. وتتضمن هذه الأنشطة، أنشطةً بدنيةً مثل ممارسة الاسترخاء أو اليوغا التي تساعد أيضاً في تخفيف الأعراض المرتبطة بالتوتر، إضافةً إلى الأنشطة الفنية؛ مثل: العمل على المصنوعات اليدوية والرسم والكتابة …

إنشاء روابط مع الآخرين للتعامل مع مرض انفصام الشخصية، رسالة الأمل الجميلة من سينثيا إلى غيوم:

“لقد أصبتُ بانفصام الشخصية منذ 6 سنوات، وأنا أتفهم معاناتك بسبب هذا المرض، لأنني أعيشها كل يوم، وأفهم أنك -مثلي تماماً- تفتقر إلى الاستقلالية. من الصعب للغاية التعايش مع مرض انفصام الشخصية، وأود أن أخبرك أن تعيش يومك وتواظب على تناول أدويتك. أعلم أننا لسنا مثل الآخرين؛ ولكن يجب أن تعتاد عاجلاً أم آجلاً على فكرة التعايش مع هذا النقص وأن تنشئ أكبر عدد ممكن من الروابط مع الآخرين، لتتمكن من تخطّيه. والأمر الأهم هو أن تتحلى بقوة العزيمة، لأن الحياة يمكن أن تكون جيدةً رغم كل شيء”.

المحتوى محمي !!