كيف تؤدي حالات الانفصال المهني إلى زعزعة الاستقرار النفسي للفرد؟

الانفصال المهني
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تؤدي حالة الانفصال المهني إلى صدمة نفسية؛ ولكن حتى لو كنا نتحدث عن ترقية في العمل فإن التعامل معها بطريقة غير صحيحة قد يؤدي إلى زعزعة الحالة النفسية للفرد.
إن تعلم الفرد تقنيات جديدة في العمل، وحاجته إلى أن يصبح أكثر كفاءة واحتمالات ارتقائه في الهرم الوظيفي، أو تنفيذ الخطة التي وضعها لمساره المهني على أرض الواقع، هي كلها أمور ترافقها انكسارات نفسية. وإذا كان منظرو الإدارة والاقتصاديون يدعمون ثقافة التغيير والتنقل الوظيفي، فإن التآلف مع هذه الثقافة لن يكون بتلك السهولة بالنسبة إلى الموظفين، ذلك أنها تفرض عليهم تحديات نفسية وعاطفية كبيرة.

كيف يؤثر التنقل الوظيفي في نفسية الفرد؟

يعد ترك الوظيفة حدثاً مهماً يثير لدى الفرد مشاعر القلق والخوف والغضب والاكتئاب والإنكار، سواء كان بسبب الطرد أو الترقية أو إعادة تصنيف الوظائف. يقول المدرب بيير سنهون: “يؤدي أي تغير يطرأ على الوظيفة إلى صدمة عاطفية؛ إذ يتفاعل الفرد مع هذا الموقف بشخصيته وعاطفته وغريزته وتاريخه الشخصي بكامله”.

وتوضح مختصة التحليل النفسي هيلين فيكيالي أن ظروف الحياة المستقرة التي لا يتحرك فيها شيء تمثل الطموح الرئيسي لكل فرد. تقول هيلين فيكالي: “نحن نخاف دائماً من التغيير، وهو خوف قديم شبه فيزيولوجي، ومع ذلك فإن الرغبة في بقاء كل شيء على حاله بصورة دائمة هي رغبة يستحيل تحقيقها”.

يشير تمسكنا الشديد بعملنا إلى ما يسميه علماء النفس مقاومة التغيير، وشعورنا بالانتماء إلى مجموعة محددة تمثل جزءاً من هويتنا، الأمر الذي يدفع بعض الأشخاص لقبول ما هو غير مقبول. وتشهد على ذلك سكرتيرة تنفيذية سابقة اعتاد رئيسها في العمل إهانتها حتى انهارت في نهاية الأمر، وتقول: “لطالما كرهته؛ لكن الخوف من أن أجد نفسي عاطلةً عن العمل منعني من التمرد على هذا الوضع”.

يثير تغيير الوظائف أزمةً لدى الفرد. تعني كلمة أزمة في اللغة الصينية “الخطر” و”الفرصة” في آن معاً، ويدرك اللاوعي تماماً هذا البعد المزدوج عندما نفكر بتغيير الوظيفة. ومن هنا يأتي الشعور بالخوف اللاواعي الذي يمكن أن يتحول بسرعة إلى رهاب يجعل خسارة الوظيفة أو الاستقالة منها فكرةً لا يمكن تصورها بالنسبة إلى الفرد.

لكن ما منشأ الخوف من تغيير الوظيفة؟ يوضح علماء النفس أن حالات الانفصال المهني تعيد إحياء الجروح النفسية التي عانى منها الفرد في الماضي؛ كالفجيعة أو الهجر أو الإخفاقات التي تعرض لها في مرحلة الطفولة، ولم يمتلك القدرة على تجاوزها. وبسبب الرعب الذي تثيره في نفسه فكرة التخلي عنه فهو يراهن على الأمن الوظيفي ويرى الشركة التي يعمل فيها “أماً تمنحه الاطمئنان والرعاية والاستقرار”.

ترافق التغيير المهني حالة “حداد” ضرورية. يوضح بيير سنهون قائلاً: “عليك أن تغير توجهاتك وأفكارك، وتتخلى عما كنت عليه، وتستبدل المجهول بالمعلوم”. عندما يكون الخوف من التغيير مصحوباً بالجمود النفسي، يصبح الفرد متحفظاً بصورة مفرطة، الأمر الذي يجعله غير قادر على تحمل الأمور غير المتوقعة أو حالات عدم اليقين. ومن ثم فهو يبقى حبيس هذه الموانع ويفضل التمسك بوضع غير مناسب، يصيبه بالملل ويجعله عرضةً للإهانة والمضايقات، على أن يجد نفسه مطروداً من الشركة التي تمثل بالنسبة إليه “شرنقته” الآمنة.

على الرغم من ذلك فإن قيم العمل قد تغيرت اليوم. بحسب النموذج الأميركي، فإن البقاء لأربع سنوات في الوظيفة ذاتها يعد حالةً من “الجمود”. لكن هذا لا يعني ممارسة التغيير من أجل التغيير فقط؛ إذ توضح هيلين فيكيالي أن ذلك يعد سلوكاً متهوراً وعقيماً يرهق صاحبه. وللمفارقة فإنه حتى الأفراد الذين يعانون من التململ المهني مثل موظفي الخدمة المدنية، يخافون أيضاً من فكرة التخلي عنهم.

محنة الفصل من العمل

تعترض حياتنا المهنية الكثير من المزالق والأزمات، ويعد الفصل من العمل أصعبها دون أدنى شك. لأربعة أشهر، أخفى كمال وهو موظف مبيعات فصله من العمل عن أسرته، وكان يخرج من المنزل كل صباح كعادته ويعود في المساء مرهقاً وسمحت له هذه التمثيلية بالصمود والاحتفاظ بماء وجهه أمام أفراد عائلته.

وفقاً لمختص التحليل النفسي جان بيير وينتر، فإن النشاط المهني، سواء كنا قد اخترناه بملء إرادتنا أو لا، هو أحد العناصر الأساسية لهويتنا. وكدليل على ذلك فإن السؤال الذي لا مفر منه: “ماذا تعمل لكسب لقمة العيش؟” يعني بالتأكيد أن هويتنا هي عملنا. يعد فقدان الشخص لوظيفته بمثابة فقدان للهوية يعاني بسببه من فراغ وجودي، فهو يفقد توازنه ووضعه الاجتماعي وأمنه المادي وجزءاً من تاريخه الشخصي.

وسواء كان الفصل من العمل لأسباب اقتصادية أو بسبب خطة إعادة الهيكلة وحتى إذا كان مصحوباً بتعويض كبير ووعد بإعادة التدريب، فإنه يُنظر إليه دائماً على أنه فشل شخصي وإبعاد رمزي. إذا لم يكن الشخص المفصول من العمل محاطاً بعائلة أو أصدقاء داعمين وكانت ثقته بنفسه هشةً في الأساس فإن خطر انهياره نفسياً سيكون هائلاً. يؤكد جان بيير وينتر: “أصعب ما يمكن تحمله هو الشعور بأنك “عنصر” يخضع بالكامل لقانون السوق”، ولا يقتصر الأمر على أن الشركة لم تعد تعترف بقيمتك المهنية فحسب؛ بل إنها تنكر شخصيتك أيضاً ولا تأخذ في الاعتبار حالتك العاطفية”.

الترقية التي تزعزع الاستقرار النفسي

على عكس ما قد يعتقد الكثيرون، فإن الحصول على ترقية لا يجلب الرضا فقط؛ إذ إن تعيين الفرد في منصب جديد يمكن أن يصيبه بالتوتر. على سبيل المثال وجد سامر، الذي رُقي حديثاً إلى منصب مدير المشروع، نفسه في غرفة الطوارئ النفسية بعد أن تعرض لنوبة قلق شديد. وحتى لو لم يكن الفرد يعاني من “متلازمة المحتال” المعروفة فإن الترقية تؤدي دائماً إلى زعزعة الاستقرار النفسي، على الأقل لفترة من الوقت. وفقاً لهيلين فيكيالي، فإن أفضل الترقيات المهنية هي تلك التي استغرق الحصول عليها وقتاً طويلاً، وليست الترقيات التي تعد جزءاً من مشروع شخصي، أو الترقيات “الانتقامية” أو المبهرة.

ويوضح جان بيير وينتر: “أن حصول الشخص الذي يعاني من اضطرابات نفسية على منصب رفيع في السلم الوظيفي، قد يؤدي إلى انهيار داخلي حقيقي لديه”. هذا ما وصفه فرويد في قضية القاضي شرايبر الشهيرة؛ الذي أصيب بالهذيان بمجرد تعيينه رئيساً لغرفة محكمة الاستئناف في دريسدن بألمانيا.

يقول بيير سنهون: “يأتي الناس طلباً للاستشارة مدفوعين برغبتهم الواعية في تحسين حالتهم وتطوير أنفسهم”. ويتابع: “ولكن من جهة أخرى ثمة عاطفة لاواعية تحركهم ألا وهي الخوف”. لا يعمل الفرد ليحصل على أجر فقط؛ بل ليعزز احترام الذات والثقة بالنفس ويلبي احتياجاته النفسية العميقة أيضاً.

الفصل من العمل وعنف الكلمات المرتبطة به

“طُرد من العمل، وجُرد من صلاحياته، واستُغني عن خدماته”

يثبت عنف المصطلحات المستخدمة للدلالة على الفصل من العمل مدى تأثير هذا الموقف في الفرد؛ إذ يتمثل هذا التأثير في حالة من إنكار الذات وفقدان الهوية. يوضح المدرب المتخصص في البحث عن الوظائف، بيير سنهون أنه يتفاجأ دائماً عندما يرى أن الأشخاص الذين فصلوا من وظائفهم، بصرف النظر عن مناصبهم، يحتفظون بطريقة منهجية بالهدايا التذكارية والأقلام والأدوات والقمصان التي تحمل اسم الشركة التي عملوا لديها.

يقول المدرب: “احذر من هذا السلوك فهو يعيقك عن الاستثمار في عمل جديد. لذا فأنا انصح دائماً بالتخلي عن كل ما يتعلق بالوظيفة السابقة”.

طقوس الوداع

تقول مؤلفة كتاب “بحثاً عن طقوس جديدة” (A la recherche de nouveaux rites)، ميشيل فيلوس: “يتسم حفل وداع الموظفين المغادرين ببعد طقسي”. الهدف منه كغيره من الطقوس تسهيل “عملية الانفصال” هذه. يعني هذا الحفل أن المجموعة أصبحت على علم بأن الفرد سيغادر كما أنه يجعل مغادرته رسمية بطريقة معينة، ويسمح له باكتساب القوة للمضي قدماً، إضافة إلى أنه طريقة لاختتام هذه الرحلة واستخلاص قصة منها.

بالنسبة لأولئك الذين يبقون؛ تعزز هذه اللحظة الاحتفالية الرابطة بينهم. ويمثل الطعام الذي نتشاركه في مناسبة كهذه رمزية معينة، كما هو الحال بالنسبة لوجبات الطعام التي يتشاركها الناس في الجنازة، وبوصفه آخر جزء مرتبط بالفرد المغادر؛ يمثل هذا الحفل حالة “الحداد” في هذا الموقف.

تشير الطقوس بوضوح إلى رحيل الشخص الذي يغادر الشركة وبعد انتهاء حفل الوداع فإنه لا يعود موجوداً سواء من الناحية الرمزية أو الفعلية، حتى لو وعد الجميع بالتقائهم مرةً أخرى.

المحتوى محمي !!