لماذا قد ترى وجهاً باسماً أو عابساً في فنجان القهوة؟ تعرَّف إلى ظاهرة الباريدوليا

4 دقائق
الباريدوليا
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: الباريدوليا ظاهرة طبيعية وإنسانية تجعل الأفراد يبحثون عن المعنى من خلال الصور العشوائية، وعادةً ما تتجسد تلك الصور في فناجين القهوة أو السُّحُب، وهذه الظاهرة ليست مرضاً أو اضطراباً نفسياً لكنها في بعض الأوقات يمكن أن تكون عرضاً لأحد الأمراض النفسية مثل الفصام.

في أحد أيام الأسبوع الماضي، كنت أسكب لنفسي فنجاناً من القهوة تمهيداً لبدء العمل. كانت رائحة القهوة تملأ المكان ويتصاعد منها الدخان، حين أطل من الفنجان وجه ذو ملامح مبتسمة، والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها وجهاً في فنجان القهوة، وأنت، هل سبق لك أن شاهدت وجوهاً مختلفة من مشاهداتك اليومية؛ مثل ملاك أو قلعة أو كلب أو وحش، في السحاب؟ أو ربما شطيرة جبنة مشوية تبدو مشابهة على نحو مثير للريبة لأحد الوجوه؟ الحقيقة أن هذه الظاهرة لها اسم وهو "الباريدوليا" (Pareidolia)، فما قصتها؟ ولماذا تحدث لنا؟ الإجابة من خلال هذا المقال.

ما هي ظاهرة الباريدوليا (Pareidolia)؟

تتكون كلمة "الباريدوليا" اليونانية من مقطعين؛ وهما "بارا" (para) و"إيدوليا" (eidōlon)، وتُترجم الكلمة حرفياً بمعنى "ما وراء الشكل أو الصورة"، ويمكن أن يُطلق عليها "الاستسقاط البصري" وتعني العثور على معانٍ وأنماط لا وجود لها في الصور العشوائية.

ويؤكد الطبيب النفسي علي جابر السلامة إن ظاهرة الباريدوليا لا تدل على مرض نفسي أو عضوي؛ ولكنها فقط توضح أن دماغ الإنسان مصمم على أن يربط بين ما يراه أو ما يسمعه، وبين ما يعرفه، حتى لو كان ذلك عبر صورة عشوائية مبهمة وغير واضحة.

كيف يمكن تفسير ظاهرة الباريدوليا؟

درس علماء النفس وعلماء الأعصاب المهتمون بفهم كيفية معالجة الدماغ للمعلومات المرئية الباريدوليا، وكيف يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى تصورات خاطئة، وكانت هذه الظاهرة أيضاً موضوعاً لتفسيرات فنية وثقافية؛ حيث قام فنانون وكُتّاب كُثُر باستكشاف الطرق التي يمكن أن تشكل بها الباريدوليا تصوراتنا للعالم من حولنا، وقد توصلت تلك الدراسات إلى التفسيرات التالية: 

  • التطور الإنساني: يوضح أستاذ علم النفس في جامعة تورنتو (University of Toronto)، كانغ لي (Kang Lee)، إن ظاهرة الباريدوليا هي نتاج ملايين السنين من التطور، فنحن منذ ولادتنا نبحث عن الوجوه، ناهيك بأن البشر بطبيعتهم كائنات اجتماعية. وفي قديم الزمان، كان التعرف إلى الوجوه مسألة حياة أو موت؛ حيث إن عدم رؤية الأسد بين الشجيرات قد يكلف المرء حياته، ومن الأفضل للدماغ أن يكون مستعداً للتعرف إلى الخطر الحقيقي.
  • معالجة الدماغ البشري للصور: وجد فريق من علماء الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology)، إن الدماغ البشري تُمكنه معالجة الصور بأكملها في أقل من 13 مللي ثانية أي ما يعادل 0.013 ثانية، وحين يتلقى الدماغ البشري لأول مرة معلومات بصرية جديدة، تُرسَل إلى الفص القذالي؛ وهو الجزء من الدماغ الذي يعالج الصور. بعد أن يقوم الفص القذالي بترجمة البيانات الأولية إلى صور، تُرسَل تلك الصور إلى الفص الجبهي الذي يقوم بالمعالجة العالية المستوى؛ حيث تُجمع الصورة معاً لتبدو وكأنها وجه.
  • توقعات الأشخاص: تؤكد أستاذة علم الأعصاب في جامعة كوليدج لندن (University College London)، صوفي سكوت (Sophie Scott)، إن الباريدوليا يمكن أن تحدث بسبب توقعات الأشخاص، وتضيف سكوت إن القدرة على رؤية وجه شخص راحل في السحاب يمكن أن تخبرنا الكثير عن توقعات الأفراد وكيف يفسرون العالم بناء على توقعاتهم، وفي سياق متصل، يشرح مؤلف كتاب "وهم الذات: كيف يخلق الدماغ الاجتماعي الهوية" (The Self Illusion: How the Social Brain Creates Identity)، بروس هود (Bruce Hood)، إن الباريدوليا دليل دامغ على مدى قوة التأثيرات الإدراكية، ففي الوقت الذي سترغب فيه برؤية تلك الوجوه سوف يبدأ نظامك الإدراكي ذلك.
  • استخدام الخيال: من الناحية الواقعية، ثمة مجموعة من الأسباب التي قد تجعلك تتتبّع الوجوه في الأشياء؛ مثل الشعور بالملل، أو استخدام خيالك، أو من البحث عن المتعة برؤية الأشكال التي تتجسد في السحب، وليس هناك ما يدعو إلى القلق في هذه الحالات.

اقرأ أيضاً: الأبوفينيا: عندما يُسقط الشخص هواجسه على كل ما يحدث حوله

أين تُمكن رؤية الباريدوليا؟

يمكن أن تظهر الباريدوليا في كل مكان؛ في السحب، وفي لحاء الأشجار، وبين الأوراق المتجمعة، وعلى قطعة من الخبز المحمص، وفي فنجان القهوة، وحتى في شكل القمر حين اكتماله، وأفضل الأماكن التي يمكنك البحث فيها هي البقع ذات الأنماط العشوائية؛ مثل حبيبات الخشب الرقائقي أو الأشكال التي تشكلها الصخور.

من الأشخاص الأكثر عرضة إلى ظاهرة الباريدوليا؟

في الواقع، قد تؤثر شخصيتنا وجنسنا وحالتنا العاطفية في احتمالية إدراكنا للوجوه والأنماط عندما لا تكون موجودة بالفعل؛ حيث وجد فريق من الباحثين في جامعة هلسنكي (University of Helsinki) في فنلندا، إن الأشخاص المؤمنين بالخوارق والدين هم أكثر عرضة إلى رؤية وجوه بشرية في حال عدم وجودها.

ومن المرجح أن ترى النساء الوجوه والأنماط أكثر من الرجال، وفي هذا السياق، يوضح الباحث في مختبر علوم الاتصالات في طوكيو (the NNT Communication Science Laboratory)، نوريميتشي كيتاغاوا (Norimichi Kitagawa)، إن هناك سبباً تطورياً لقدرة النساء على رؤية الوجوه أكثر من الرجال، فقديماً كانت النساء تقليدياً أضعف جسدياً من الذكور؛ وهذا جعلهن ذلك أكثر حساسية تجاه المحفزات ذات المغزى؛ ما مكّنهنّ من اكتشاف الحيوانات المفترسة في الغابة على نحو أفضل.

وتجدر الإشارة إلى أن الأشخاص العصابيين أيضاً  أكثر عرضة إلى ظاهرة الباريدوليا؛ وذلك لأنهم عادةً ما يكونون أقل استقراراً عاطفياً من الآخرين، ناهيك بأنهم يكونون في حالة تأهب قصوى للخطر، وهذا يمكن أن يزيد ميلهم إلى رؤية أنماط ذات معنىً غير موجودة في الواقع.

وترى أستاذة الطب النفسي السريري، سيلفيا آر كاراسو (Sylvia R. Karasu)، إن المرضى الذين يعانون داء باركنسون يكونون أكثر عرضة إلى رؤية الباريدوليا، هذا بالإضافة إلى المرضى الذين يعانون خرف أجسام ليوي؛ وهي حالة تؤدي إلى الهلاوس البصرية لدى كبار السن، وهناك أيضاً مرضى الفصام.

اقرأ أيضاً: 9 تساؤلات حول داء باركنسون

كيف يمكن التعامل مع الباريدوليا؟

في الواقع، إن ظاهرة الباريدوليا طبيعية وإنسانية تماماً، وتحدث للكثيرين من الأشخاص. المهم هو ألا نوليها قدراً كبيراً من الاهتمام ولا نبني عليها أي قرارات؛ فقط يمكنك الاستمتاع بالوجه الباسم على كوب القهوة أو شكل الأرنب المتجسد في السحب دون أن تحاول إعطاءَه معنىً أكبر من أجل الانتصار لمبادئك! وتجدر الإشارة إلى أن الباريدوليا يمكن أن تكون مثيرة للقلق في حال كانت عرضاً لأحد الأمراض، وفي هذه الحالة تجب استشارة الطبيب المختص.

في النهاية، تذكر أن رؤية الوجود العشوائية أمر شائع للغاية ينقل إلينا إحساساً بالمعنى أو يثير في داخل كل منا شعوراً ما، ويبدأ القلق من تلك الظاهرة حين تكون عرضاً  لأحد الأمراض مثل العصابية أو الفصام أو داء باركنسون، وفي هذه الحالة يجب طلب المساعدة من الطبيب النفسي.