فرضت ظروف جائحة كوفيد-19 منذ سنة 2020 على بعض الشركات الانفتاح التام على إعادة التفكير في طريقة إدارة عمل موظفيها؛ ما أثار طفرةً في ثقافة العمل عن بعد التي كانت متزايدة من قبل، غير أن الأزمة الصحية العالمية تلك وضعت أسس تغييرات جذرية حالية وقادمة مستقبلاً في الطريقة التي يمارس بها الأشخاص من حول العالم وظائفهم.
رغم المجهودات التي قد تقوم بها هذه الشركات لتسهيل العمل المرن؛ أصبح بعض الموظفين أكثر حساسية تجاه المخاطر النفسية والاجتماعية لعملهم من المنزل بعد أن صار مصدراً للقلق والتوتّر والضغط المتزايد. إذاً كيف تحافظ على التوازن النفسي والعلاقات الصحية مع الزملاء والرؤساء أثناء عملك من المنزل؟
العمل عن بعد يوفر بيئة عمل مرنة وضغطاً أقل
يوفّر العمل من المنزل مزيداً من الوقت وعوامل التشتيت وتوتّراً أقل للموظفين؛ حيث يمنحهم المساحة لزيادة إنتاجيتهم وتحسين أدائهم.
كما لا يجب أن ننسى أن عاملاً مهماً كتوفير تكاليف النقل يمثّل حافزاً كبيراً لأي موظف يفكّر أو يمارس عمله من المنزل؛ حيث تبقى احتمالية العمل دون تقيّد بموقع جغرافي معين مغرية وذات فائدة حتّى لأصحاب الأعمال والشركات؛ ما يزيد من إمكانيات منح الموظف فرصاً أكبر للتركيز على إنجاز مهامه وسط بيئة منزلية غير ضاغطة ومريحة يقوم بتهيئتها هو بنفسه.
وقد أكّدَ هذه الأسباب -إضافة إلى أخرى- وراء رغبة أغلب الموظفين في مزاولة عملهم عن بعد، استطلاع رأي نُشرت نتائجه في ديسمبر/كانون الأول سنة 2019 وقامت به شركة "زبير" (Zapier) للتكنولوجيا والمعلومات التي تُعتبر أولى وأكبر الشركات التي لديها قوة عاملة 100% عن بعد. شمل الاستطلاع 880 موظفاً أميركياً يعمل في بيئة مهنية يستخدم فيها الحاسوب كجزء من وظيفته، وذلك بهدف تفحّص مشاعر هؤلاء الموظفين بخصوص العمل من المنزل.
حيث اتّضح أن 95% من المشاركين في الاستطلاع يرغبون في العمل من المنزل، وصرّح 74% منهم أنهم على استعداد لترك وظيفتهم الحالية للعمل من منازلهم؛ ولكن لأسبابٍ متباينة كقضاء المزيد من الوقت مع الأسرة، بينما أكّد 29% أن العمل خارج مكاتبهم أفضل لصحتهم العقلية.
كلّ هذه الحقائق والأرقام تشير إلى أن سياسة العمل المرن أصبحت ضرورة ملحّة بعد أزمة الجائحة؛ حيث أوضج ما يقرب من 99% من الموظفين تفضيلهم للفكرة وفقاً لتقرير نشرته منصة إدارة الوسائط الاجتماعية للشركات "بافر" (Buffer) سنة 2019 وتمّ تحديث معطياته في 2022، عن طريق مسحٍ أجراه على 2500 عامل عن بعد أكدوا أن المرونة هي من أكثر المزايا التي تجعلهم يرغبون في تجربة العمل من المنزل.
رغم إيجابياته: كيف يمكن أن يؤثر العمل عن بعد في الصحة النفسية؟
رغم كل الإحصائيات التي تشير إلى أن أغلب الموظفين الذين جرّبوا العمل من المنزل يرغبون في ممارسته أكثر مستقبلاً، فهناك دراسات حديثة أيضاً تفيد أن أولئك الذين أُلزموا بممارسة عملهم عن بعد لمدة زمنية طويلة اشتكوا من شعورهم المتزايد بالإرهاق وإصابتهم بالاحتراق الوظيفي (Burnout)، لأنهم يميلون إلى العمل لساعات أطول حينما لا يعملون من المكتب، وفقاً لما نشرته منظمة "ديجيتال أوشن" (DigitalOcean) التكنولوجية التي تجري سلسلة بحوث بين مجتمعات المطورين الذين يعملون عن بعد؛ حيث أكدت واحدة من أبرز نتائجها أن مشكلة الاحتراق الوظيفي حقيقية لأن ثلثيّ المشاركين أبلغوا عن زيادة مستويات التوتر والإرهاق الشديد.
وفي دراسة أخرى نشرتها جامعة كامبريدج في ديسمبر/كانون الأول سنة 2020، قام الباحثون القائمون عليها بتحليل ظروف عمل 322 عاملاً عن بعد؛ ثلاثة أرباعهم من النساء ومتوسط أعمارهن هو 42 عاماً، أبلغ العديد منهم عن مشاعر العزلة والوحدة التي تنال منهم خلال عملهم من المنزل لأن يوم العمل يصبح وكأنه لا ينتهي أبداً، فقال البعض منهم أنهم عمِلوا ما يقارب 40 إلى 50 ساعة في الأسبوع وقضوا نفس عدد الساعات تقريباً في القيام بمهام أخرى كرعاية الأطفال أو الدراسة.
بينما ربطت نتائج دراسة قام بها باحثون من جامعة كاليفورنيا ونُشرت في مارس/آذار 2021 بين العمل من المنزل وانخفاض الصحة البدنية والنفسية بشكل عام نتيجة قلة ممارسة الرياضة وتناول وجبات فقيرة غذائياً، إضافة إلى التواصل الضعيف مع الزملاء والاضطرار لرعاية الأطفال داخل المنزل بجانب مشتتات أخرى.
الاحتراق الوظيفي والإرهاق ومشاعر الوحدة والعزلة وتدهور جودة الحياة بسبب تداخل المهام الشخصية والمهنية مع بعضها، كانت من أهم الآثار السلبية التي أثبتت الدراسات أثناء أو ما بعد الجائحة العالمية أن لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالعمل من المنزل لدى الموظفين والعاملين عن بعد.
اقرأ أيضاً: الاحتراق الوظيفي بين النساء العاملات: إحصائيات من المنطقة العربية
كيف تحافظ على توازنك النفسي إذا كنت تعمل بشكل مرن؟
بات العمل المرن ضرورة لا بد منها، فقد وافق البرلمان الهولندي في بداية يوليو/تموز 2022 على تشريع ينص على أن العمل من المنزل أصبح حقاً قانونياً، وهو ما يجعل هولندا واحدة من أولى الدول التي تمنح مرونة العمل من المنزل بموجب القانون؛ ما يعني أنه لن يختفي أو يقل في السنوات القليلة المقبلة بل سيتزايد وستتزايد معه مشاكل الصحة النفسية إذا لم يتم تدارك ذلك من طرف الشركات والعاملين أنفسهم.
خطوات عملية للحفاظ على صحة نفسية متوازنة خلال العمل من المنزل
لذا يوصي مركز الصحة النفسية في مكان العمل التابع للجمعية الأميركية للطب النفسي (The Center for Workplace Mental Health) بتتبع بعض الخطوات للحفاظ على صحة نفسية متوازنة للعاملين عن بعد، وهي توصيات صالحة في الأوقات الحرجة التي تُلزم الأشخاص بمتابعة أعمالهم من المنزل كانتشار الأوبئة أو في الأوقات العادية حين يكون العمل عن بعد سياسة متَّبعة من طرف الشركة.
- احتفظ بجدول مهام منتظم وضع روتيناً تستطيع الالتزام به، يتضمن مساحة مخصصة لك ولكل فرد من أفراد الأسرة و فترات راحة دورية لإعادة شحن طاقتك.
- حافظ على التواصل مع العائلة والأصدقاء والزملاء الذين تستطيع التحدّث معهم عن مشاعرك.
- حافظ على قوة جهازك المناعي من خلال الالتزام بنظام غذائي متوازن يحتوي على الفيتامينات التي تحتاجها، إضافة إلى الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم وشرب المياه.
- مارس الرياضة وحافظ على نشاطك لما في ذلك من فوائد عديدة لصحتك الجسدية والنفسية.
- احصل على هواء نقي كلما سنحت الفرصة.
- تحكّم في حجم استهلاكك لوسائل التواصل الاجتماعي، والتعرض المستمر للأخبار ووسائل الإعلام.
- التزم بجدول زمني محدّد وتأكد من أنك تعمل لساعات معقولة من المنزل.
- انخرط في الممارسات الإيجابية مثل التأمل واليوغا والطهو وتمارين التنفس أو الاستماع إلى بودكاست أو موسيقى هادئة.
- شارك النصائح والأفكار مع زملائك وأصدقائك من خلال طرق إبداعية ومبتكرة كمشاهدة الأفلام في نفس الوقت أو ممارسة التمارين الرياضية معاً.
كما ينصح مركز الصحة النفسية في مكان العمل أصحاب الشركات والمدراء وخبراء الموارد البشرية بتشجيع التدريب عبر الإنترنت وتسهيل التواصل المنتظم مع الموظفين العاملين عن بعد وإظهار التعاطف قدر الإمكان.
وعلى الرغم من التأثيرات السلبية التي يمكن أن تطال الصحة النفسية والجسدية؛ تتطلّب تحديّات العصر التكنولوجي والثورة المعلوماتية التأقلم السريع مع متغيّرات ومستجدات سياسات العمل، فسواء كان العمل من المنزل بصفة دائمة أو مؤقتة، لا ينبغي أن تتداخل مهام الحياة العملية مع الحياة الشخصية بحيث يصبح العامل عن بعد غير قادرٍ على الالتزام بكليهما؛ ما يجعله ضحية للاحتراق الوظيفي والإرهاق.