من أكثر الأشياء التي تثير فضولي وتدفعني للتفكير ملياً هو مدى تأثير أفكارنا ومشاعرنا -نحن لا الآخرين- في أنفسنا. تلك الأفكار تجعلني أغوص أكثر في أعماق ذاتي لأبدأ في فك تشابكات ظلت سنوات غير مفهومة بالنسبة إليّ؛ لكنها نمت وازدهرت بمرور الوقت دون وعي كامل مني، لتظهر نتيجتها النهائية في مشاعر وأفكار منطوقة وغير منطوقة تحفزها مواقف مختلفة. تناولت في مقال سابق فكرة سعينا إلى خداع ذواتنا على الرغم من وجود حقائق يمكن أن تثنينا عن ذلك، وكيف يمكن أن يكون ذلك وسيلة للدفاع عن أنفسنا والشعور بالرضا. وبالبحث عن مفاهيم مقاربة تتناول أفكارنا عن أنفسنا وواقعنا، أثارت فضولي فكرة التلاعب النفسي (Gaslighting)، بشكل أدق، التلاعب النفسي الذاتي (Self-Gaslighting) الذي نمارسه تجاه أنفسنا لنكون نحن الجاني والمجني عليه في الوقت ذاته.
ما الفرق بين التلاعب النفسي والتلاعب النفسي الذاتي؟ وفقاً لاختصاصية علم النفس السريري إنغريد كلايتون (Ingrid Clayton)؛ يُعد التلاعب النفسي أحد أشكال الإساءة العاطفية التي تستخدم التلاعب وإرباك شخص ما بغية دفعه للشك في واقعه ورفض مشاعره، وهو يُستخدم غالباً كوسيلة لممارسة السيطرة على شخص أو موقف. والكلمة مأخوذة من مسرحية من ثلاثينيات القرن العشرين تحمل اسم "مصابيح الغاز" (Gas Light)؛ يتلاعب فيها الزوج بزوجته نفسياً بخفض مصابيح الغاز قليلاً كل ليلة لإرباكها مع نفي أي ملاحظة حول التغيرات التي تحدث في الإضاءة تشير إليها زوجته، مبرراً ذلك بأن هذه الأشياء تحدث فقط في رأسها ما دفعها لتتوهم أن المشكلة في عقلها وليست واقعية. بينما يحدث التلاعب النفسي الذاتي عندما نوجه هذا التلاعب تجاه أنفسنا، وقد يؤدي التشكيك في حقيقة جروحنا النفسية إلى الشك حول كل شيء عن أنفسنا. على سبيل المثال؛ عندما يقول شخص ما شيئاً مؤذياً فقد نلاحظ أن مشاعرنا قد تعرضت للأذى؛ ولكن بعد ذلك نقنع أنفسنا أن المشكلة بنا لأننا حساسون للغاية، وأن الطرف الآخر لم يصدر منه أي شيء سيِّئ، فتتردد في دواخلنا عبارات مثل: "ربما لم يكن الأمر بهذا السوء؛ أنا من أهوّل الأمر" أو "إذا كنت شخصاً أقوى مما أنا عليه لما كنت شعرت بهذا القدر من السوء". تظهر المشكلة هنا في الانتقال من النقطة (أ) وهي حدوث الموقف، إلى النقطة (ج) وهي إبداء رد الفعل، دون التوقف عند النقطة (ب) وفهم مشاعرك التي تستحق الاهتمام والتعبير عنها بحسب مختصة العلاج الجسدي النفسي، راشيل أوتيس (Rachel Otis).
الطبيعة غير المرئية للتلاعب النفسي الذاتي تزيد الأمر صعوبة تضيف كلايتون إن ما يزيد الأمر صعوبة في التعرف إلى سلوك التلاعب هي طبيعته غير المرئية؛ ما يجعل التشكيك في مدى صحة هذه الجروح وواقعيتها أمراً صعباً ليبدأ الفرد في مساءلة نفسه: هل أستحق ذلك فعلاً؟ هل حدث ذلك فعلاً؟ ويؤدي ذلك إلى غياب ثقة الفرد في نفسه لدرجة أن يرى كل شيء كمجموعة من الاحتمالات مع صعوبة الوصول إلى حقيقة لا تقبل الشك. وفي هذه الحالة، يصبح الشخص المجني عليه شاهداً على ألمه دون رحمة بذاته أو سعي إلى التحقق من صحة ذلك الألم أو محاولة علاجه، لاعتقاده أنه يستحق ذلك أو أن نظرته إلى الأمور غير حقيقية.
ما الذي يدفعنا لممارسة التلاعب النفسي الذاتي؟ من أهم الأسباب التي تغذي التلاعب النفسي الذاتي؛ التعرضُ للتلاعب النفسي خلال مرحلة الطفولة من قِبل أحد مقدمي الرعاية أو شخصية ذات سلطة علينا أدت ذلك الدور لتستمر في الحفاظ على السيطرة كما تشير أوتيس في مقالها. وخلال تلك المرحلة، نكون معتمدين بشكل كامل على القائمين برعايتنا لذلك لا يمكننا توجيه اللوم إليهم أو مساءلتهم عما يفعلونه، فليست لدينا المهارة أو حتى الدافع لذلك. وعندما لا يجد الغضب متنفساً، يتجه نحو الداخل ويحدث التلاعب النفسي الذاتي نتيجة للشك الداخلي وصوت الناقد الخارجي؛ بحيث نبدأ في التشكيك في واقعنا ورفض مشاعرنا. وتحقيقاً لهذه الغاية؛ قد نطور أصواتاً تنتقد ذواتنا مع إعادة توجيه المشاعر السلبية نحو أنفسنا من أجل البقاء معتمدين على مقدم الرعاية المتلاعب.
كيف يمكن التوقف عن التلاعب النفسي الذاتي؟ إذا كنت تمارس التلاعب النفسي تجاه ذاتك، فأول خطوة عليك اتباعها هي الاستماع الجيد لمشاعرك. بعد ذلك يجب تدوين كل شيء تفكّر وتشعر به في هذه اللحظة في دفتر يومياتك دون إصدار حكم عليه أو تحديد معنىً له؛ حيث يمكّنك ذلك التنقيب الذاتي من استكشاف حقيقة مشاعرك. كذلك يمكنك استعادة القوة وإيقاف أي سلوك للتلاعب النفسي الذاتي من خلال النصائح التالية التي تقدمها المعالجة النفسية ليا أفيلينو (Lia Avellino):
احترم فكرة أن التلاعب النفسي الذاتي هو استراتيجية بقاء استخدمتها في مرحلة لم تكن تستطيع خلالها فهم ما يدور حولك أو بداخلك؛ إلا أن الاستمرار في إبطال المشاعر أو اختلاق الأعذار للأفراد المسيئين هو مؤشر إلى أنك ما تزال تحاول التشبث بدلاً من النمو حيث يمكنك أن تجد ذاتك الحقيقية، لذلك يجب أن تتوقف عن ذلك وتعترف بمشاعرك وتقبلها.
ابتكر عادات جديدة وأحِط نفسك بأشخاص إيجابيين، فلك سيساعدك على تشكيل أفكارك وعاداتك. على الرغم من أن ذلك يستغرق وقتاً، فإن امتلاك تجارب جديدة مبنية على الدعم والشفافية والرحمة يمكّنك من تطوير أخاديد جديدة في دماغك والتي بمرور الوقت تسهم في تكوين الصوت الداخلي الواثق لا الناقد.
والآن، هل تشعر أنك تجبِر نفسك أحياناً على احتضان مشاعر متضاربة مع مشاعرك الحقيقية وتصديقها؟ إلامَ تسعى باتباع هذه الطريقة؟ شاركنا أفكارك حول ذلك وما يمكن تطبيقه عند المرور بمثل هذه المواقف للتوقف عن تغذية الشك والتلاعب النفسي الذاتي على البريد الإلكتروني لنشرتنا: [email protected]
نعلم جيداً ما يمكن أن يفعله الضغط المتواصل بصحتك النفسية، لذا نقدم لك من خلال نشرة "تأملات نفسية" اليومية مقالات متنوعة تجعلك أكثر فهماً لنفسيتك بشكل يزيد وعيك بما يحدث لها من تأثيرات، وتساعدك على التحكم في حياتك