4 سبل لإيقاظ مشاعر الحب في قلب الأشخاص مفرطي الحساسية

مفرط الحساسية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الوقوع في الحب هو تجربة مؤثرة تزلزل كياننا، فما بالك بتأثيره في إنسان مفرط الحساسية؟ بالطبع سيكون أشد وطأةً عليه. ولا حصر لوسائل الوقوع في الحب؛ لكننا سنقدم إليك أربع وسائل جربها أشخاص مفرطو الحساسية، كتبتها “إيلين آرون” مؤلفة كتاب “مشاعر الحب عند مفرطي الحساسية” (Aimer quand on est hypersensible).

1. الوقوع في حب توأم روحك

يرى معظمنا أن مشاعر الحب تتولد عندما نلتقي الشخص المناسب. عندما أجريت وزوجي بحثاً عن الأشخاص مفرطي الحساسية طلبنا من الناس أن يرووا لنا قصص حبهم وإعجابهم الأولي بشريكهم، فتراهم يقولون كانت ذكيةً، كان جذاباً، كانت شخصيتها مميزة، أو يقولون أنهم لمسوا فيهم سمات ساحرة بسيطة أو نواحٍ محببة جداً. كما قال الناس أنهم شعروا بالحب غالباً عندما اكتشفوا أن شريكهم يحبهم أو معجب بهم، لهذا يجب أن تكون صادقاً في مشاعرك عندما تؤسس روابط عاطفية.

نظريات حول أنماط الأشخاص الذين يجذبوننا

تكثر النظريات حول سبب اختيار قلبنا للأشخاص الذين نحبهم. البعض يستحضر اللاوعي لديه، فمثلاً نقع في حب الأشخاص الذين يذكروننا بشخص آخر نسيناه منذ زمن طويل أو نتمنى أن نحل خلافنا المؤلم معه في الماضي. ويقول البعض الآخر أننا نقع في حب الذين نعتقد أنهم قادرون على دعمنا لننضج ونسير في منحى معين إما بإرشادنا إلى الطريق الصحيح أو بإلزامنا بتغيير ردة فعلنا اتجاه الأمور. مثلاً لنتخيل أن امرأةً تود الذهاب إلى الغابة لتروّح عن نفسها وتتواصل مع ذاتها الفطرية مجدداً لكنها تخشى الحشرات والظلام والدببة والعواصف، والتقت برجل يحب التخييم والخروج للاستمتاع بمشاهدة البرق؛ حتماً ستقع في حب مرشدها. إليكم مثالاً آخر:

يعتقد المهتمون بمشاعر الحب من منظور علم الأحياء بوجود نظام خاص في الدماغ يتحكم في اختياراتنا. وتقول “هيلين فيشر” أن هذا النظام يتيح “للأفراد تركيز مساعيهم على الشركاء المتميزين” الذين ينفعنا اختيارنا لهم. في مملكة الحيوانات يزيد هذا النظام الطاقة الموجهة لجذب شريك محدد، وعند البشر الذين قد تدوم الصفات التي جذبتهم إلى شريكهم مدى الحياة ودون تزاوج يمنحهم هذا النظام لذةً في العيش ورغبةً في أن يرتبطوا بشريكهم ويشغلوا تفكيرهم به دائماً. أما كيف نختار الشخص الذي نركز عليه، فيشير بعض علماء الأحياء إلى دور الفيرومونات في ذلك؛ وهي جزيئات عديمة الرائحة موجودة عند العديد من الفصائل وظيفتها الإشارة إلى حالة العدوانية أو النشاط الجنسي. لكن هذا لا يفسر سبب وقوع الناس في حب أشخاص لم يعرفوهم شخصياً ويتواصلون معهم من خلال رسائل البريد الإلكتروني أو البريد العادي، أو لماذا تتلاشى مشاعر الحب بين ليلة وضحاها إذا كان الانجذاب إلى الفيرومونات قوياً.

استخلصنا من بحثنا أن معظم الناس لديهم فكرة واضحة عن صفات الشريك الجيد وهم حريصون على الوقوع في حب شخص يناسبهم في الوقت المناسب والظروف المناسبة ويبادلهم تلك المشاعر. أما الأشخاص مفرطو الحساسية فإن ميلهم إلى المبالغة في التفكير يمنحهم فكرةً أدق عما يبحثون عنه. ولأنهم يجيدون ملاحظة التفاصيل الدقيقة يلحظون بسهولة الصفات الخارجية والداخلية للناس، لذا يعلمون عندما يلتقون بشخص ما أنه المنشود فيهيمون في حبه.

تأثير الطباع في الانجذاب

ينجذب الجميع إلى شخصيات وطباع معينة أكثر من غيرها؛ لكنني أعتقد أن الأشخاص مفرطي الحساسية يميلون بطبعهم إلى الانجذاب إلى شخص آخر بحالتين أكثر من غيرهما. أول حالة هي الانجذاب إلى شخص مفرط الحساسية مثلهم؛ إذ سيشعرون عندها براحة كبيرة كما لو أنهم يقابلون توأمهم. وهو انجذاب فوري، فقد أثبتت عدة أبحاث أن الناس ينجذبون إلى من يشبههم وحتى أن إحدى الدراسات وجدت أن الأشخاص الذين يتشابه حمضهم نووي يرجَّح أن ينجذبوا إلى بعضهم.

لكن في الحالة الثانية نجد العكس تماماً: ينجذب مفرط الحساسية بشدة إلى شخص غير مفرط في الحساسية (PnHS)، فتكمن في نظرهم روعة الشريك/ة في حالته “الطبيعية” (في أنه كأي شخص آخر؛ أي مختلفٌ عنهم) وأنه ينعم بقدرات استثنائية. قد تبدو صفاتهم التي لا يملكها الشخص مفرط الحساسية سحريةً بالنسبة إليه؛ مثل قدرة الأشخاص غير الحساسين على مقاومة مستويات عالية من العوامل التي تثير المشاعر فيرغبون في اكتساب موهبته أو على الأقل أن يبقوا صاحب الموهبة بجانبهم ويشعرون أنه يكمّلهم، وقد يشعرون أيضاً بسعادة عميقة لأن شخصاً يتحلى بهذه الموهبة قد يحبهم. وقد يبادلهم الشخص غير المفرط في الحساسية الإعجاب ذاته ويراهم شخصيات ساحرة، فيعزز هذا الانجذاب المتبادل بينهم ويسعد كل واحد منهما أن شخصاً بهذه الصفات يحبه.

طبعاً بصفتك مفرط الحساسية قد يكون حبك لشريكك أقوى عندما تنفصل عن شريك سابق أو عندما تنتهي علاقتك معه، فمهما كانت شخصية آخر شريك لك، خاصةً إذا لم تسر الأمور بينكما على ما يرام، أتوقع أنك ستنجذب إلى الشخصية المعاكسة. يمكنك الادعاء بأن سبب هذا هو أن البشر يبحثون عن عيش تجارب مختلفة؛ لكن لا شك أن هذا الميل يكون أقوى عند مفرطي الحساسية أمثالك، لأنه عندما يكون آخر شريك لك مفرط الحساسية مثلك أيضاً فأنت لا تريد فقط العيش مع شخص غير مفرط الحساسية ومختلف عنك ويتميز بصفات لا تملكها؛ بل تريد أيضاً التقرب من شخص يراه المجتمع طبيعياً ونموذجياً، وهو أمر لا يشعر به الأشخاص غير مفرطي الحساسية عندما يريدون أن يرتبطوا بشخص مفرط الحساسية. أما إذا كنت سابقاً مع شخص غير مفرط الحساسية فستتوق حينها إلى التلذذ بعمق الشخص مفرط الحساسية وترغب في أن تكون مع شخص يشبهك على سبيل التغيير.

لذا مهما كانت الحالة فإن الصفات التي يتحلى بها الشخص والتي تجعله “الشخص المنشود” ستكون بالنسبة لشخص مفرط الحساسية مثلك أكثر أهمية.

2. الوقوع في حب محاسن الآخر

أعني بمحاسن الآخر جمال الجسد والعقل والروح. أثبتت الأبحاث أنك كلما نظرت إلى شخص بعين عواطفك زادت مشاعرك اتجاهه، وهذا بديهي فأنت لن تود إطالة التفكير في شخص يزعجك؛ لكن مقصدي هنا أنه كلما زادت مدة تفكيرك باحتمال حبك لشخص ما سيزداد احتمال حبك له فعلاً. طبعاً بمجرد اكتشاف عيوب محبوبك ونقاط ضعفه قد تضعف مشاعر حبك اتجاهه أو تخبو نهائياً. لكننا سنركز في حديثنا في هذا المقال على جانب الوقوع في الحب فقط، لذا سنتحدث عن شخص قابلته أول مرة وبدأت تستلطفه ثم تعجب به ثم تحبه.

ربما يمكنك تخمين ما سأقوله في هذه المرحلة عن الأشخاص مفرطي الحساسية فأمثالنا متخصصون في الوعي والتعقيدات لأننا نعالج المعلومات بتعمق ولوقت أطول من غيرنا. لذا من البديهي أن تكون المشاعر التي تغمرنا عندما نفكر في جميع صفات الشخص التي بدأنا باستحسانها أكثر من تلك التي يشعر بها الشخص غير مفرط الحساسية.

كما أود أن أضيف أنه سواءً كان نمط تعلقنا طبيعياً أو لم يكن كذلك فإننا نتساءل: “ماذا لو لم أشغفه حباً؟” أو “ماذا لو انفصلنا؟”. تثير تلك المخاوف بالذات فينا مشاعر قوية اتجاه الآخر ومن بينها البهجة. والإنسان مفرط الحساسية يثق في مشاعر البهجة والخوف الفائضة تلك التي تغمره، فالمشاعر والأفكار الفائضة تشعل في الإنسان مفرط الحساسية نار حب متقدة.

3. الوقوع في الحب عند حدوث موقف مؤثر

تعد أهمية موقف لقاء شخصين فكرة مفاجئة نوعاً ما بالنسبة لمعظمنا، فنحن نفترض أننا نحب “الشخص المناسب لنا” بصرف النظر عن البيئة العامة التي جرى فيها اللقاء. لكن كما ذكرت يبدو في الواقع أن الناس لا يحبون عندما يكون الطرف الآخر يناسبهم فقط بل عندما يكون الموقف ملائماً أيضاً، فلولا ذلك لمَ فضلنا مثلاً الليالي المقمرة ونسمات الشواطئ العليلة وغيرها من الأماكن الرومانسية؟

كان زوجي من أوائل الذين لاحظوا ذلك في “دراسة الجسر” الشهيرة. في هذه التجربة التقى عدة رجال الواحد تلو الآخر بالمرأة الجذابة ذاتها إما على جسر معلَّق فوق وادٍ أو على جسر للمشاة يرتفع بضعة أمتار عن مجرى مائي. كان الرجال الذين قابلوها على جسر معلَّق أكثر انجذاباً لها ومنذ ذلك الحين أظهرت العديد من الدراسات في مواقف أخرى التأثير ذاته. يزيد الموقف المشوق كل من حولك جاذبيةً، ربما لأنهم يبدون متحمسين أكثر في تلك المواقف.

عندما يجتمع التحفيز مع فرط الحساسية يولد الحب

وجدت بعض الأبحاث التي تلت “دراسة الجسر” أن أي نوع من الإثارة؛ كمشاهدة فيلم أو حتى ركوب دراجة، يعزز شعور الانجذاب. إذا كنت شخصاً مفرط الحساسية وغايتك الوقوع في الحب يرجَّح أن المواقف الجديدة ستحفزّك. ننصحك أن تزيد من فرصك بإيجاد شريكك بالخروج وعيش تجارب جديدة فقد تلتقي حينها بالشخص المنشود أو الشخص الذي يرغب بمرافقتك في هذه المواقف وتعجب به. وليس بالضرورة أن تعلق معه في مصعد أو تضيع معه في جزيرة منعزلة فقد تلتقيه في مواقف عادية كدرس صناعة الأواني الفخارية.

ماذا نتعلم من أولئك الذين يحبون معالجهم؟

تعد المشاعر التي تتولد ضمن الإطار العلاجي مثالاً آخر يثبت تأثير الموقف في الوقوع في حب شخص ما بغض النظر عن صفات هذا الشخص. كان فرويد أول من لاحظ أن المرضى غالباً يقعون في حب معالجهم، وهو دافع يسميه “التحويل” (أي توجيه المرء أو نقله لمشاعره إلى شخص آخر)، حتى لو لم يكن اختيار المريض لمعالجه في البداية مدفوعاً بمشاعره وكان يكنّ مشاعر مماثلة لمعالج آخر استشاره قبل المعالج الحالي أو بعده. وأظن أن قوة هذا “التحويل” عند الأشخاص مفرطي الحساسية أمثالنا تكون أشد من غيرنا. ولا يقتصر سبب ميولنا لحب معالجنا على مجرد إعادة إحياء حب قديم أو احتياجاتنا التي نتوقع من المعالج أن يلبيها كما يوحي مصطلح “التحويل” لسامعه، فإن العلاج النفسي يؤسس بنيةً لعلاقة يندر أن تشابه علاقات أخرى تكون مبنيةً على الاهتمام والقبول والخصوصية وتوفر فرصةً لاستكشاف أعمق النواحي النفسية. لذا من الطبيعي أن يجذبنا أي شخص نعيش معه في هذا الموقف، أو كما وصفت المعالجة النفسية “إثيل بيرسون” في كتابها “أحلام الحب واللقاءات المصيرية” (Dreams of Love and Fateful Encounters) هذا الموقف: “يبدو الحب كاحتمال دائم ينتظر أن يولد”.

وتفسر “إثيل” لماذا تستمر مشاعر الحب لفترة أطول في العلاج أو في أي موقف آخر نحب فيه سراً ولا نتعرض فيه للرفض؛ كما ذكرنا يتأجج الحب عندما نفكر في محاسن بعضنا دون أن تزعجنا “الحقائق” المبتذلة عنه. توضح “دراسة الجسر” أصل شرارة الانجذاب الأولى، ويوضح الإطار العلاجي كيف نبقي هذه الشرارة مشتعلة مع مرور الوقت عندما تتيح الظروف ذلك. وأشارت “إثيل” إلى ذلك بقولها: “يمنح هذا الإطار للمرء شعوراً بالأمل (أو الوهم) أن مشاعره متبادلة، وضماناً أنه لن يتعرض للرفض، ويفسح لمخيلته مجالاً منهجياً لدرجة تكفي لجعلها تنسج السناريوهات.

عندما يجتمع الموقف المثير للعواطف مع المخيلة الخصبة للإنسان مفرط الحساسية يولد الحب

يتميز الأشخاص مفرطو الحساسية بحسهم الإبداعي العالي لذا لمخيلتهم دور مهم في وقوعهم في الحب. وكلما كان الموقف مثيراً للعواطف أكثر تأججت مخيلتهم أكثر، فما تعجز عن رؤيته بوضوح تحت ضوء القمر أو ما لا تسمعه بسبب نسمات الشاطئ العليلة تتركه لمخيلتك. على سبيل المثال يحرك مشهد امرأة تقف على جسر يتأرجح فوق وادٍ مخيلتك أكثر من المواقف العادية، فتتساءل مثلاً: “لماذا تقف هناك وماذا لو تقطعت حبال الجسر؟”. بالتوازي مع إجراء تجربة الجسر أجرت “آرت” (Art) أيضاً دراسة على موقف يواجه فيه كل رجل على حدى امرأةً إما عذبتهم بوضع قطرات من الأسيد على جباههم (وهي في الحقيقة قطرات ماء)، أو لم تفعل شيئاً محدداً. وفي موقف آخر كان ينبغي للرجال التغلب على امرأة إما كانت تقاومهم بشدة أو واجهتهم دون مقاومة تذكر. كانت تجارب الجسر أو التعذيب أو القتال كلها أساليب فظة جداً لخلق موقف “نموذجي” مثير للعواطف كان جاذباً أكثر بكثير من المواقف الرتيبة، سواءً تقبلنا هذا أم لا.

فبصفتك شخصاً مفرط الحساسية تتحفز مخيلتك أكثر وتكون واعيةً اكثر لما يدور حولك عندما تكون في الهواء الطلق (تمشي في الشارع أو تشاهد كلبين يلعبان أو تشتري كتاباً) على مستوى أعمق وأكثر نموذجيةً. يمكننا أن نقول أنك تميل في تلك الحالة أكثر لمعالجة الموقف بتمعن، أو يمكننا تفسير ذلك كما ذكرنا سابقاً أن التواجد في الهواء الطلق مثير أكثر من البقاء في المنزل. وفي كلتا الحالتين نجد أن الموقف الذي نقع فيه في الحب يؤثر في جميع أنماط الناس وخاصةً مفرطي الحساسية، فسواءً كان الموقف نشاطاً جسدياً مشوقاً أو رومانسياً جداً أو يحرك عواطفنا بعمق أو مثيراً للذكريات أو نموذجياً تماماً، ستميل أكثر للحب عندما تعيشه.

4. الوقوع في الحب المدفوع باللاوعي

لقد تحدثنا بالفعل عن تأثير اللاوعي في اختياراتنا للأشخاص الذين نحبهم؛ لكن يمكن لللاوعي أيضاً أن يدفعنا نحو الحب لأسبابه الخاصة. وأعتقد أن أكثر المتأثرين به هم مفرطو الحساسية، فهم أكثر انفتاحاً على اللاوعي لديهم وما يمثله من عالم الذكريات والرموز والأفكار الشخصية والجماعية على حد سواء، وأكثر ميلاً لتفكيرهم بالصدمات التي يكبتها خوفهم وارتباطاً بحكمتهم الداخلية بصرف النظر عن الحياة المعاصرة التي تبعدنا عن غرائزنا. تبدو القدرة على الوقوع في الحب مرتبطةً مع فهم اللاوعي غالباً، ربما لأن شعور الحب ينبثق عن دافع لا يمكن السيطرة عليه ينبع من أعماق اللاوعي والبعض يتقبله أكثر من البعض الآخر.

الرابط بين الحب واللاوعي ليس جديداً؛ يقول معتنقو فلسفة “سيغموند فرويد” إن الناس يحبون لرغبتهم بالتراجع إلى طفولتهم وتحقيق حلم الطفولة المتمثل في إشباع رغبتهم الجنسية الدائمة أخيراً. يقول الباحثون في الارتباط الذين يهتمون بمرحلة الطفولة المبكرة لكنهم أكثر توجهاً نحو دراسة الطبيعة البشرية، إننا نريد استعادة هذا الارتباط الآمن الذي كنا نحظى به أو كان ينبغي أن نحظى به منذ الولادة. ويؤكد علماء النفس التحليلي (اليونغي) هاتين الفرضيتين ويضيفون إن البشر يرون في الحب أيضاً فرصةً للتواصل مع خالقهم والكون والآخرين من حولهم.

التنعّم في العودة إلى الروح الجوهرية

تؤكد كل التفسيرات السابقة أننا عندما نحب نتخيل الجنة، ومن يتفوق على الأشخاص مفرطي الحساسية بخيالهم الخصب؟ نعلم منطقياً أنه لا وجود للجنة في الحياة الدنيا لكن تخيلنا لها وبحثنا عنها يهوّن علينا الحياة ويجمّلها. تكمن روعة الحب في أنه مغامرة استثنائية لا تمتثل للعقلية المنطقية المهيمنة وتخرج عن سيطرتها، تماماً كاللاوعي، فالحب يشبه بجموحه الغابة التي تقبع خارج أسوار المدينة حيث تتجول الذئاب.

يولّد الحب ما يسميه “جون ديستيان” الروح الجوهرية في كتابه “لقاؤنا وفراقنا” (Coming Together – Coming Apart)، فتغنى الحياة وتتصف بالتلقائية، ونرغب دائماً في عيشها ونفقدها تدريجياً مع مرور الوقت أثناء امتثالنا لما يسميه “جون”: “العقل المهيمن”.

العقل المهيمن هو ما نتعلمه من ثقافتنا ويصب في صالح الجماعة، فقد تعلمنا عن الحب أن الشغف ليس أفضل مقياس نختار شريك حياتنا وفقاً له، وأن تقديم تنازلات وتقبل خيبات الأمل جزء لا يتجزأ من ارتباطنا مع من نحب، وأن الوقوع في حب أحدهم خارج إطار الزواج يقود إلى تصرفات متهورة تحول دون التزامنا معه مدى الحياة. يصير العقل المهيمن الرؤية الشخصية لمعظمنا وخاصةً لمفرطي الحساسية؛ إذ أنهم قد يعدّونه وجهة نظر حكيمة إن لم تكن ضروريةً أيضاً. لكنهم يرون الروح الجوهرية والصادقة والمادية والغريزية الأعمق التي تغذي الروح المهيمنة الأصلب والأكثر عمليةً بنفس الطريقة؛ إذ يفهم الأشخاص مفرطو الحساسية بديهياً الحاجة إلى الانصياع إلى هذه الروح الجوهرية.

ولإخلاصهم الشديد لهذين الروحين لا عجب أن يهيموا في الحب عندما يتمكن أخيراً من التسلل إلى قلوبهم. كلما علت أسوار قلبهم وكانت منيعةً زاد تمنّعهم عن الوقوع في الحب والتصرف الطائش وغير المسؤول، وكان فيض مشاعرهم عندما يحبون وتتحطم تلك الأسوار جارفاً مهما كان الثمن؛ كما لو أن فرط الحساسية والحب كانا سبيلين للتعبير عن الروح الجوهرية؛ كما لو أنهما يكملان بعضهما.

هل تتوافق الروح الجوهرية مع الروح المهيمنة؟

من منظور الروح الجوهرية يستتبع الوقوع في الحب الزواج الذي تطمح إليه الشخصيات مفرطة الحساسية بالذات؛ إنه تزاوج بين غرائزنا العميقة التي ندعوها بالروح الجوهرية ومشاعرنا ورغباتنا وقيمنا التي تراودنا يومياً والتي تتأثر عموماً بالروح المهيمنة. وإن الجمع بين هذه الغريزة العميقة ومشاعرنا اليومية المعتادة هو معنى اكتمالنا، وعثورنا على الكمال الذي فقده الناس لتحولهم إلى أفراد أكثر تحضراً وعقلانيةً. يمكننا القول إن الروح الجوهرية والروح المهيمنة عند العشاق، لا سيما إذا كانوا مفرطي الحساسية، تزوجتا وأن ثمرة زواجهما ستكون عذبة، أو هذا ما نأمله! وسنلحظ بالتأكيد إذا بنى العشاق حياةً جديدةً.

في معظم الأحيان يُبنى مفهوم الحياة عند المرء الذي ينضج عند الوقوع في الحب، وخاصةً عندما يكون المرء مفرط الحساسية، على غريزة أو رغبة بإنهاء ذاته الفردية والمنعزلة. تميل الذات إلى التضحية بنفسها بغاية نيل شيء أعظم، فتضحي في سبيل المحبوب أو علاقتها معه أو طفلها الذي على وشك الولادة أو الحب بحد ذاته أو خالقها أو حتى الكون من حولها.

ما ثمرة اتحاد العقول؟

يذكر المحلل في علم النفس التحليلي (اليونغي) “جون هول” في كتابه “الجنون الروحاني” (Divine Madness) أن الصوفيين يرون أن الحب العميق يمكن أن يؤدي إلى ظهور “فئة جديدة” من المشاعر ونمط جديد من الحب يسمى “الفناء” (الفناء كمصطلح تصوف يعني سقوط الأوصاف المذمومة)؛ “الفناء” هو الاستغراق في تأمل الذات الإلهية. يصف المتصوفون المسيحيون واليهود حالة النعيم ذاتها التي ينالها المرء بمحبة خالقه، وأما الشعراء المتجولون الرومانسيون والمتصوفون العرب يرون أن المرء يصل إلى حالة “الفناء” من خلال التعمّق في الذات الإلهية بمساعدة شخص آخر.

ربما بدأ بعضكم يرى الأمور معقدة في هذه النقطة من المقال؛ لكنني أعلم أن الفكرة ما زالت واضحة للعديد منكم. أنا مقتنعة بأن الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة كانت فرصهم أكبر في خوض هذه التجربة عند وقوعهم في الحب وكانوا أول من حاول شرحها للآخرين دون أن يشيروا إليها بأنها جنون لا منطقي؛ وإنما وصفوها بجنة موجودة بداخلنا وفي كل مكان حولنا، ومتاحة دوماً للجميع.

طبعاً قد يضيّع من يعيشون حالة “الفناء” مفرطي الحساسية أو يقودونهم نحو عيش شغف ميؤوس منه أو يبقونهم في حالة وهم، ربما بسهولة أكبر من تأثيرهم على الأشخاص غير مفرطي الحساسية. لكن إذا كانت هذه هي حالة “الفناء” الحقيقية، فعندئذٍ يقول الصوفيون إنك ستعرف حالة “البقاء” (وجود الأوصاف المحمودة)؛ وهي “فئة جديدة” من الحب يجدها العديد من الأشخاص مفرطي الحساسية أكثر واقعيةً. عندما تعيش تجربة “البقاء”، فإنك تثري أعماق شخصيتك وتعزز قوتك دون الآخرين؛ حيث يختفون ولا يبقى إلا كيان واحد فقط. ونستنج من هذا المفهوم أنك ستتعرف إلى الحب الحقيقي عندما تلحظ تأثيره فيك على المستوى الروحي؛ إنه يعرّفك إلى أعمق مستوىً من ذاتك وأكثرها إبهاماً.

المحتوى محمي !!