قصة شقيقي مع “القتل الرحيم”

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

شُخصت إصابة ميشيل بورم دماغي شديد العدوانية عندما كان في الـ 43 من عمره، ولما كان شفاؤه مستحيلاً فقد قرر الذهاب إلى بلجيكا بغية الخضوع لإجراء “القتل الرحيم” بمساعدة طبية. تشاركنا كارين شقيقة ميشيل قصة رحلته هذه واللحظات الأخيرة في حياته، وذلك بناءً على رغبته الأخيرة.
قدمتها كارين ديلفلاي.

أسمحُ لنفسي بالتحدث نيابةً عن شقيقي الذي جعل من معاناته مصدر قوة للآخرين، ودون أن أنحاز لإجراء “القتل الرحيم” أو أدافع عنه أنقلُ اليوم قصته لأولئك الذين يتساءلون عن هذا الإجراء الذي بالكاد يُعرف عنه شيء؛ ذلك أنه يُعتبر موضوعاً محظوراً وحساساً بدرجة كبيرة فهو يثير إشكاليةً أخلاقيةً ودينيةً أيضاً. كما يثير مشاعر الخوف وعدم الفهم والعجز، دون أن ننسى أن الحديث عن الموت في مجتمعاتنا الغربية يُعتبر أمراً مزعجاً في العموم، وعليه فإن الكلام بحرية عن إجراء “القتل الرحيم” قد يساعد على عدم شيطنته وربما فهمه فهماً أوضح. وعلى الرغم ذلك فإنه يصعب جداً عليّ أن ألخص في بضعة سطور هذه اللحظة المريرة من الحياة بكل المشاعر الشديدة التي تنطوي عليها والقوة والشجاعة التي تتطلبها.

في 15 مارس/ آذار من عام 2018، شُخصت إصابة أخي بالمرحلة الرابعة من الورم الأرومي الدبقي المعروف باسم “الورم الدماغي”؛ وهي المرحلة الأخيرة من المرض الذي يُعتبر أكثر أورام الدماغ الأولية الخبيثة عدوانيةً وشيوعاً لدى البالغين. تُعتبر فرص النجاة لدى الأشخاص المصابين بهذا الورم ضئيلةً ويتراوح متوسط مدة بقائهم على قيد الحياة بين 9 و15 شهراً، وفي حالة أخي بدأ كل شيء بخدر بسيط في ساقه اليسرى ثم في ذراعه بعد أيام قليلة؛ وهو ما جعله يقرر الذهاب إلى غرفة الطوارئ.

في نهاية شهر مارس/ آذار خضع أخي للعملية الجراحية الأولى، ورغم كل المخاطر التي كانت تنطوي عليها فقد تكللت بالنجاح وأُزيل الورم بالكامل، وتبع ذلك البروتوكول العلاجي المعروف في مثل هذه الحالات وهو العلاج الكيميائي والإشعاعي. كان أخي يتحلى بشجاعة وقوة استثنائيتَين وتمكّن سريعاً من استعادة قدرته على المشي والجري. كما أنه عاد إلى ركوب الدراجة خلال بضعة أسابيع، فلطالما كانت ممارسة الرياضة جزءاً مهماً من حياته اليومية ومصدراً للتوازن الذي يحتاجه، وقد فرض على نفسه في الوقت ذاته حميةً غذائيةً صارمةً؛ ولكن حتى مع هذا العلاج المركز ونمط الحياة المثالي، فقد استغرق الأمر 9 أشهر فقط لظهور الورم مرةً أخرى بقوة أكبر مما كان عليه بالفعل. وفي فبراير/شباط 2019 اقترح عليه الأطباء إجراء جراحة ثانية ووافق على ذلك على الرغم من المخاطر التي انطوت عليها الجراحة الأولى في الأساس؛ وهي فقدان القدرة على الكلام، فقدان البصر وتفاقم فقدان القدرة على الحركة. لقد فاجأ الجميع بإصراره وشجاعته، وعلى الرغم من صعوبات ما بعد الجراحة والآثار المدمرة للعلاج الكيميائي الجديد فقد استعاد قدراً من الاستقلالية وبدأ في ممارسة الجري مرةً أخرى رغم الضعف الذي كان يعاني منه في جانبه الأيسر. لقد أثار ميشيل إعجاب الجميع بمن فيهم الطبيب المشرف على حالته.

رغبة ميشيل بالتحكم في كيفية إنهاء حياته

مع معاودة الورم أدرك ميشيل خطورة وضعه ورغم ذلك فقد آمن دائماً بأن معجزةً ما ستحدث وظل متمسكاً بالأمل وحافظ على نظرته ذاتها إلى الحياة وأحاط نفسه بطاقة كانت تمنحه القوة كل يوم، مستمداً الدعم بصورة رئيسة من زوجته وأطفاله، إضافةً إلى باقي أفراد العائلة الذين رافقوه خلال العلاج ومنحوه أملاً لا ينكسر.

ورغم ذلك فقد كان ميشيل يفكر في جميع الاحتمالات، وأعرب عن رغبته في معرفة كل الطرق المتاحة له لمساعدته على الرحيل بهدوء قدر الإمكان إذا ما تدهورت حالته. وكان الشيء الوحيد الذي أرعبه هو التدهور الجسدي البطيء وشعوره بفقدان كرامته بسبب ذلك؛ إذ لم يرغب في ترك صورة سيئة عنه في أذهان أحبائه وخاصةً طفليه الصغيرين.

في بداية الأمر تواصل ميشيل مع أحد مراكز الرعاية التلطيفية لفهم ماهية هذا النوع من الدعم، ثم قرر اللجوء إلى خيار آخر فاجأنا جميعاً وهو “القتل الرحيم”، فتواصل لاحقاً مع الدكتور داماس في مدينة لياج ببلجيكا؛ وهو طبيب مختص في دعم المرضى حتى انتهاء الإجراء، وكان الغرض من المقابلة الأولى هو التحقق من أن المريض في كامل قواه العقلية وأن اختياره هذا شخصي تماماً. لقد أراد ميشيل ذو الشخصية المستقلة جداً التحكم في كيفية إنهاء حياته وتجنيب نفسه المزيد من المعاناة وإراحة عائلته من هذا العذاب؛ إذ أثارت القصص التي سمعها عن كيفية موت الأشخاص المصابين بهذا المرض خوفه وكان كلام الدكتور داماس والتوضيح الذي قدمه مشجعاً بالنسبة له، فما كان مجرد احتمال أصبح حقيقةً بأسرع مما توقعنا.

الرغبة في إنهاء مشقة العلاج

تغيّر مصير أخي خلال نزهة في الغابة نهاية شهر مارس/آذار 2019 حيث انهار تماماً وفقد قدرته على الحركة وعانى من صعوبة في الكلام. وفي غرفة الطوارئ اتضح كل شيء؛ إذ كانت هناك وذمة كبيرة أشارت إلى عودة الورم بعد شهر واحد فقط من العملية الثانية دون أن يحظى بأي فترة راحة، وقُضي على آماله في الاستمرار في الحياة وإصراره على التمسك بها، فقرر مع الأطباء وقف العلاجات المضنية التي لم يستجب الورم لأي منها بل تابع قتله بثبات وبطء.

وفي غضون أسبوع بدأ أخي يفقد استقلاليته بصورة تدريجية فكان صعود الدرج يتطلب بذل جهد منه كما أنه أصبح بحاجة للمساعدة عند تناول طعامه. وفي ذلك المساء كان الحريق الذي وقع في كاتدرائية نوتردام يشبه قراره الذي جعلنا عاجزين عن الكلام؛ لقد قرر اللجوء إلى حل نهائي وهو الذهاب إلى مدينة لياج ببلجيكا حتى يخضع لإجراء “القتل الرحيم”.

ورداً على استفساراتنا وأسئلتنا حول قراره هذا أجاب قائلاً آنذاك: “سأموت بعد بضعة أسابيع على أي حال، وأنا أفضّل الرحيل بكرامة على انتظار النهاية التي لا مفر منها فكل ما أتمناه هو أن تحتفظوا بصورة جميلة عني. قد لا تفهمون الأمر لعدم قدرتكم على الشعور به لكنني ميت بالفعل، فأنا حبيس جسدي ولم يعد بإمكاني الاستمرار في هذا الوضع. أريد أن أصل إلى مدينة لياج واقفاً على قدميّ وقادراً على المشي، والوقت المناسب للرحيل هو الآن قبل أن أفقد القدرة على ذلك”. تواصلت زوجته مع الدكتور داماس الذي رتب له حجزاً في المستشفى في يوم عيد الفصح، تحديداً في الثالث والعشرين من أبريل/نيسان 2019.

أُقر “القتل الرحيم” بمساعدة طبية في بلجيكا قانونياً في عام 2002 بعد اقتراح صوّت عليه مجلس النواب. ومع ذلك فإن 5% فقط من المرضى الذين يحجزون موعداً يخضعون لهذا الإجراء بالفعل؛ إذ يجب أن تكون الحالة غير قابلة للشفاء إضافةً إلى تصديق 3 أطباء مختلفين للملف الطبي للحالة وتأكيدهم عدم قابليتها للشفاء وأن جميع العلاجات الطبية المنصوص عليها في البروتوكول العلاجي قد اتُّبعت بصورة ملائمة. 

بعد تحديد موعد، ينتظر المريض 72 ساعة للسماح للمستشفى بالعثور على سرير وذلك لعدم وجود خدمة مخصصة لحالات “القتل الرحيم”. أما عن القبول في المستشفى فيكون في اليوم السابق للعملية كما هو الحال مع أي مريض آخر.

لقد طار بعيداً لينضم إلى النجوم

أكد شقيقي رغبته بعدم حضور أفراد العائلة هذا الإجراء خشية أن يفوق الأمر تحملهم وطلب أن نحضر أنا وزوجته فقط. ستبقى لحظة مغادرة ميشيل المنزل خالدةً في أذهاننا؛ لقد كانت توصياته الأخيرة لنا آنذاك أن نعيش حياتنا ونبحث عن سعادتنا، وكان شجاعاً بما فيه الكفاية ليودع الجميع وخاصةً طفليه. ورغم إدراكنا لما نحن بصدد فعله فقد كانت لحظةً من عدم اليقين توقف فيها الزمن، ولا يمكن لأي كلمات أن تصفها. لقد تحلى ميشيل بالقوة والتصميم الكافيَين للسفر في مسافة ساعة ونصف بالسيارة دون النظر إلى ماضي حياته؛ بل إلى الأمام مباشرةً نحو مصيره.

وعندما وصلنا كان يقف ويمشي أمامنا بمساعدة عصا المشي وأخذ يبحث بنفسه عن غرفته في المستشفى أمام دهشة الممرضين لحالته العامة، فعادةً ما تكون حالة الأشخاص الذين يخضعون لهذا الإجراء مختلفةً تماماً.

حضر الدكتور داماس عند الخامسة والنصف مساءً لإجراء فحص أخير والتحقق من أن قرار ميشيل هو قرار شخصي تماماً وعن وعي تام، وكانت هذه من أولى المرات التي يلتقي فيها الطبيب بمريض في مثل سن ميشيل وإصراره سيخضع لإجراء “الموت رحيم”، كما حضر طبيب ثانٍ أجرى مقابلةً للتحقق من صحة الإجراء وفقاً للقانون البلجيكي. غالباً ما يكون المرضى الذين يخضعون لإجراء القتل الرحيم أكبر سناً بكثير من ميشيل وبحالة صحية نفسية وجسدية أكثر تدهوراً، لذا ستبقى حالته عالقةً على الدوام في أذهان الأطباء والممرضين. قدم لنا الطبيب التوصيات النهائية واتفق مع ميشيل على الاجتماع في الساعة 8:15 من صباح اليوم التالي؛ الصباح الذي ستشرق فيه الشمس مجدداً ولكنها ستغرب للمرة الأخيرة بالنسبة إليه. وبعد أن قضينا أمسيةً وليلةً حافلَتين بالنقاشات وصل الدكتور داماس صباح اليوم التالي في الموعد المحدد وكانت الممرضة قد وضعت القسطرة بالفعل، وبدأ الطبيب بشرح المراحل المختلفة للإجراء وانتظر موافقة ميشيل حتى يتمكن من فتح الصنبور الموجود فوق رأسه. أومأ أخي وهو ينظر إلينا أنا وزوجته ثم غط في نوم عميق كما في حالة التخدير العام ورحل كما هو مقرر في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الثلاثاء الموافق للثالث والعشرين من أبريل/نيسان 2019 ليصعد باتجاه القمر بهدوء والابتسامة تعلو وجهه؛ لقد كانت ابتسامةً مليئةً بالحب والامتنان تجاهنا نحن الذين احترمنا رغبته في الرحيل كما يشاء، فطار بعيداً للانضمام إلى جميع النجوم الأخرى التي تنير حياتنا وتوجهها على الدوام. لقد انسحب بعد معركة شرسة مع المرض الذي لم يكن هو المنتصر هذه المرة؛ بل أخي. 

المحتوى محمي !!