ممَّ يخاف المصابون برهاب الأماكن العامة؟

رهاب الأماكن العامة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: ذعر ودوار وعرق بارد؛ هذه من علامات رهاب الأماكن العامة التي تعتري أُناساً كُثُر عندما يفكرون في عبور مكان خالٍ أو في الذهاب إلى السينما أو ركوب الحافلة. إنه اضطراب يمكن أن نعاني منه جميعاً يوماً ما؛ لكن هناك مداخل لاكتشاف حقيقته والتخلص منه.

أخذت صوفيا موعداً عند معالج نفسي من أجل علاج رهاب الأماكن العامة الذي تعاني منه؛ لكن الخروج وحدها من البيت أصبح مستحيلاً بالنسبة إليها منذ أن انتابتها نوبة ذعر في الشارع. وبمجرد أن تفكر حالياً في الذهاب يحول شعورها بالإغماء والسقوط بينها وبين ذلك، وهذا هو سبب استشارتها للطبيب. وعلى الرغم من ذلك ستنجح صوفيا في الذهاب إلى عيادة الطبيب النفسي برفقة ابنة عمها. وحسب منظمة الصحة العالمية يعاني 1.8% من سكان العالم من رهاب الأماكن العامة؛ لكن كلاًّ منا معرض للمعاناة من هذا الاضطراب المعيق ولو لفترة وجيزة. ويظهر هذا الاضطراب عموماً بعد صدمة أو بعد سلسلة من الأحداث المرهقة أو بعد حالة من الخوف. وكما سنرى ذلك، فلا يوجد نوع واحد من رهاب الأماكن العامة بل عدة أنواع.

وفي أغلب الحالات لا يفهم المقربون من المريض رفضه الشديد وخوفه من خوض مغامرة خارج البيت، فيشجعونه على التحرك قائلين: “ابذل جهداً للخروج من بيتك، فالحي الذي تقيم فيه آمن تماماً”.

خطر كامن في النفس

لا تكمن المشكلة في الأماكن التي يخشاها المريض كالفضاءات الواسعة وقطارات المترو وقاعات الحفلات؛ إنها تكمن في نفسيته. فسواء كان المريض بصدد عبور مكان خالٍ أو شارع مزدحم، يتبادر السؤال نفسه إلى ذهنه: كيف يمكن الإفلات من هذا الخطر اللامرئي والمجهول المحدق بي؟ إلى أين المفر إذاً؟ يشعر هذا الشخص بأنه ضعيف تماماً، ويخاف من فقدان السيطرة على جسده (يخاف من التبول أو التقيؤ أو فقدان الوعي)، وقد تصيبه حالة من الذعر (الخفقان أو تسارع نبضات القلب، الإحساس بالاختناق، فقدان صوابه، الشعور بأن هناك خطباً ما في العالم من حوله).

ليس رهاب الأماكن العامة مرضاً من أمراض القرن الحادي والعشرين، ففي كتابه “حدود الجنون” (Les Frontières de la folie) الصادر سنة 1888، يؤكد رئيس قسم الأمراض النفسية والعقلية بمستشفى أليينيه الفرنسي (l’asile d’aliénés)، ألكسندر كولير(Alexandre Cullere)، أن رهاب الأماكن العامة وُصف لأول مرة سنة 1872 من طرف اختصاصي المخ والأعصاب والطبيب النفسي كارل ويستفال (Carl Westphal). ويسجل كولير في كتابه: “إن هذا الشخص الذي يتصبب عرقاً ويشرف على فقدان الوعي، يقول في نفسه إنه لن ينجح أبداً في عبور هذه الساحة الفسيحة الفارغة التي أمامه؛ لكن يكفي أن يظهر شخص آخر، أو تعبر سيارة ما، لكي يستعيد طمأنينته”. كما يلاحظ أن النوبة تحدث في الشوارع التي ليست فيها محلات تجارية أو في وسط غابة أو في قاعة المسرح؛ أي حيث لا أحد يعرف هوية الآخر. ويورد كولير حالة السيدة ب البالغة من العمر 43 عاماً والأم لثلاثة أطفال؛ التي تتمتع بصحة جيدة وتتحلى “بشخصية جد نشيطة وودودة بذكريات سعيدة”: “إنها محبوبة ومرحب بها جداً في عالمها، ولم يسبق لها أن عاشت نوبة هستيريا”. ولكن منذ 15 عاماً، وفي أعقاب زيارة قامت بها إلى سويسرا وتسلقها لجبل ريجي، لم تعد السيدة ب قادرة على عبور الشارع أو إحدى الساحات الكبرى أو حتى طريق عريضة، “دون أن تركض بسرعة كفريسة شديدة الذعر وتُصاب بالرجفة”! إنها تشعر بأن الأرض تهوي من تحت قدميها: “أنا خائفة، هذا كل شيء”. خائفة من الموت فجأة، ومن التعرض لهجوم أو إغماء، والخضوع لعدوانية حشد مجهول من الناس.  ولقد سبق لألكسندر كولير أن حدد ما يعذب الأشخاص المصابين برهاب الأماكن العامة: إنه الخوف من فقدان السيطرة، فاضطرابهم هذا يذكرهم أنهم: “لا يستطيعون التحكم في كل شيء”. وقد توصل المحللون النفسيون المعاصرون للخلاصة ذاتها.

شعور بالغ بالوحدة

يعتقد أحد أكبر خبراء التحليل النفسي الفرنسيين، جان بيرجوريه (Jean Bergeret) أن أي رهاب يعكس نقصاً في حب الذات. وهذا ليس لأن الشخص المصاب بالرهاب افتقد في طفولته شخصيات تُشعره بالأمان؛ وإنما لأن مشكلته أنه لا يستطيع الانفصال عنها، وأن شيئاً ما في نفسه يمنعه من الاستقلالية. بمعنىً آخر، فإن رهاب الأماكن العامة يذكر هذا الشخص بهشاشته العميقة، وهذا من الطبيعة البشرية بالطبع.

في هذا النوع من الرهاب، يرى المريض نفسه وحيداً ومتقلباً، محروماً من مساندة نظرةٍ صديقة، وعندما يسير في الطريق العامة، يشعر أنه خاضع للنظرات الساحقة لأشخاص مجهولين. هذه النظرة الرهيبة تؤوّلها المحللة النفسية ومؤلفة الكتاب المرجعي “الرهاب أو الفراق المستحيل” (Les Phobies ou l’Impossible Séparation)، إيرين ديامونتيس (Irène Diamantis)، بأنها شبيهة بنظرة أم مسيطرة وطاغية؛ ليست أماً حقيقية وإنما هي صورة خيالية تسكن وجدان الشخص المريض الذي ليس هناك ما يحميه منها. ومن المنطقي جداً أن يشعر هذا الشخص الذي يعيش غريباً عن بقية البشر بالانهيار أمام هذه النظرات؛

لكن ما الذي يخشاه بالضبط؟ حسب نظرية فرويد؛ تمثل الأماكن العامة فضاء لكل المخاطر، ليس لأنها مخيفة ومليئة بالأعداء فقط وإنما لأنها تفسح المجال للرغبات كلها، فتترك الشخص فريسة السيناريوهات العدوانية التي ينسجها خياله وترفضها الأنا. ويمثل الرهاب في هذا السياق حلاً (منهِكاً وغير مجدٍ بالطبع) للاحتماء منها؛ إنه يعمل مثل لافتة إرشادية تحمل عبارتيّ: “ممنوع المرور”، “احذر الخطر”. ويروي فرويد في كتابه “الكف والعرض والقلق” (Dans Inhibition, symptôme et angoisse (PUF))، حالة شاب يعاني من رهاب الأماكن العامة ويختبئ في بيته خوفاً من رغبته، اللاواعية تماماً، في قتل أي شخص يمر بالقرب منه! هذا يعني أن بعض أشكال رهاب الأماكن العامة عبارة عن قناع يخفي في الحقيقة “رهاب الاندفاع” (phobie d’impulsion) كما يقول فرويد.

الحقيقة تختفي وراء الخوف

هذه هي النتيجة التي توصلت إليها أيضاً المحللة النفسية دومينيك ريدوليه (Dominique Reydellet) في كتابها “الصدمات ورهاب الأماكن العامة: الضحية قد تشكّل خطراً محدقاً” (Traumatismes et agoraphobie: être détruit, détruire). وينصب جزء كبير من عمل هذه المحللة النفسية على ضحايا الاعتداءات والصدمات العاطفية الذين عاشوا تجربة الشعور بالموت الوشيك. ومن المنطقي أن يكون هؤلاء الأشخاص عرضة للإصابة برهاب الأماكن العامة، فبعد التعرض لاعتداء في الشارع من الطبيعي أن تخاف الضحية من العالم الخارجي، فيصبح البيت بمثابة الدرع الواقي الذي يحمي الضحية ريثما تتجاوز أزمتها. ومع ذلك فقد يكون مصدر الخوف الحقيقي من نوع آخر؛ مثل تجنب مواجهة الرغبة في الانتقام أو إيذاء الآخرين، فالأنا الذي أضعفتها الصدمة لا تستطيع الاستجابة لهذه الرغبة. وتكتشف دومينيك ريدوليه المرضى الذين يعيشون هذه المشكلة من خلال طريقتهم الخاصة في دق بابها بقوة وحدّة غير عاديتَين، عند زيارتهم الأولى من أجل الاستشارة الطبية.

تقول دومينيك عن حالة أحدهم: “مثل هذا التاجر ذي الثلاثين عاماً الذي تعرض لسرقة إيراد يوم من العمل تحت تهديد السلاح، في مشهد عنيف حاول مقاومته. هذا الرجل الصامت والمتوتر، نجح على الرغم من ذلك في البوح بأن فكره أصبح مسكوناً بشكل دائم بصورة وجه الشخص الذي اعتدى عليه. سألته إذاً إن كان خائفاً من ملاقاة هذا المعتدي أو أنه يرغب في ذلك، ثم أضفت قائلة، وأنا أشك في إصابته بحالة رهاب الاندفاع: “أنا أتساءل إن لم يكن خوفك من عنفك هو الذي يمنعك من الخروج وحدك من البيت حالياً. تفاجأ المريض في البداية ثم أذعن بعد ذلك بإخباري عن تخيلاته العدوانية مع انتقاد هذه التخيلات”. لقد ترك هذا التدخل، الذي سمح له بالاعتراف بما لا يمكن الاعتراف به، أثراً عظيماً من الارتياح والسكينة لدى المريض حسبما أكّدته المحللة النفسية، ولو تعمقت أكثر في هذا التحليل لربما كشفت عن تخيلات عدوانية أقدم تعود إلى مرحلة الطفولة. هذا يعني أن أمراض الرهاب رسائل تحتاج إلى تفكيك شِفرتها وتعكس حقائق لا نتمنى أن نسمعها؛ لكن بمجرد أن نبوح بها فإنها تساعدنا على النضج.

طرق الحرية

يعتبر المعالجون النفسيون الذين يمارسون العلاج الذهني والسلوكي أنهم أكثر فعالية من المحللين النفسيين في علاج هذه الاضطرابات، فخلال هذه الفترات العلاجية القصيرة (تتراوح ما بين بضع أسابيع وبضع أشهر) يواجه المريض خوفه شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي تماماً. حيث يعمل على قناعاته الخاطئة وسلوكياته غير اللائقة؛ لكنه لا يسبر أغوار اللاوعي ليفكك شِفرة الرسالة المتضمنة في رهابه، وهنا مكمن خطورة عودة الأعراض. وهناك أشخاص أكثر قابلية للتعرض لأنواع من الرهاب لأسباب بيولوجية، ذلك أن لوزتهم الدماغية المسؤولة عن رصد الوضعيات الخطِرة تذعر بسهولة جداً. ويمكن لهؤلاء الأشخاص الاعتماد على بعض قواعد التصرف التي يقدمها الطبيب النفسي كريستوف أندريه (Christophe André)، في كتابه “علم نفس الخوف” (Psychologie de la peur) الصادر عن دار نشر أوديل جاكوب (Odile Jacob).

ومن بين هذه القواعد: لا يجب أبداً الخضوع للرهاب باعتباره سيداً مطاعاً؛ وإنما باعتباره دخيلاً يمكن طرده خارج البيت. وكذلك، فإن ممارسة التأمل يومياً تهدئ اللوزة الدماغية، وتجب مواجهة الرهاب ذهنياً؛ حيث يُعد تخيل السيناريوهات الرهيبة محتملة الحدوث طريقة لترويض هذه المخاوف. وختاماً فإن الحل قد يكمن أيضاً في تحدي هذا الرهاب، نفسياً إن أمكن، لأنه لا ينبغي للمريض أن يضغط على نفسه.

المحتوى محمي !!