هل تبالغ في ثقتك بقدراتك؟ دراسة تدحض تأثير كروغر

تأثير ديننغ-كروغر
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: عندما يبالغ الناس في تقدير مهاراتهم ومعرفتهم دون أن يدركوا أنها محدودة، فإنهم يقعون في فخ الثقة المفرطة، وهو ما يُعرف بـ “تأثير ديننغ-كروغر” الذي يغفل فيه المتأثرون عن ضعف كفاءتهم، هذه الفكرة التي ظلت سائدة لأكثر من 15 عاماً يدحضها عالم رياضيات

يُقال: “أسوأ أنواع الفهم أن تُبتلى بغليظ الفهم محدود الإدراك؛ الذي يرى نفسه أفهم الخلق وهو أجهلهم”. في الواقع، كلما كان الشخص غير كفؤ، زادت ثقته بنفسه؛ وهي ظاهرة تُعرف باسم “تأثير ديننغ-كروغر” التي أُطلقت عام 1999. ربما تقول في نفسك الآن: “وما أكثرهم!”؛ لكن يبدو أن للرياضيات وجهة نظر أخرى، فقد تمكّن الباحث ومحاضر الرياضيات إريك غيز (Eric Gaze) وزملاؤه في بحثهم المنشور عام 2016 في دورية “الحساب” (Numeracy)، من دحض النظرية من وجهة نظر الرياضيات. فما الذي ينص عليه تأثير ديننغ-كروغر؟ وكيف دحضت الرياضيات صحته؟

بداية القصة

عام 1995، حدثت واحدة من أكثر عمليات السطو على البنوك غرابة وإثارة للضحك؛ حيث سرق رجل يُدعى مكارثر ويلر مصرفين بنكيين في مدينة بيتسبرغ الأميركية، في وضح النهار ودون أي قناع، غير آبه بالتقاط كاميرات المراقبة صورة لوجهه!

تمكنت الشرطة من اعتقاله في اليوم ذاته، وعندما عرضوا له صوره من تسجيلات المراقبة، عبّر عن صدمته وذهوله. كان اللص مقتنعاً بنجاح خطته، وقدرته على اللوذ بالفرار؛ لأنه فرك وجهه بعناية بعصير الليمون قبل عملية السطو ليجعل نفسه غير مرئيّ، بعد أن قرأ عن استخدام عصير الليمون كحبر سري في الكتابة!

بعد 4 سنوات، عادت القصة تحت الأضواء مرة أخرى؛ حيث أثارت تساؤلاً لدى عالمَيّ النفس الأميركيَّين ديفيد دنينغ (David Dunning) وجوستين كروغر (Justin Kruger) في جامعة كورنيل (Cornell University): ما سبب الثقة المفرطة لدى البعض واستخفافهم في الوقت ذاته بإنجازات الأشخاص الأكثر كفاءة؟ وتوصل الباحثان إلى نتيجة مفادها أنهم غالباً لا يدركون عدم كفاءتهم!

وجد الباحثان أن غياب الكفاءة لدى البعض يؤدي إلى المبالغة في تقييم الذات، وهو ما عُرف لاحقاً بـ “تأثير ديننغ-كروغر”. 

ما هو تأثير ديننغ-كروغر؟

هل لديك زميل يدلي ببيان حول كل موضوع؟ أو زميلة تعرف كل شيء وتجد رأيها أفضل من رأي الخبراء؟ أم أن صديقك الذي نال رخصة القيادة حديثاً يعبر عن ازدرائه من مهارات الآخرين في القيادة مقارنة بمهارته؟

في الواقع، ربما قد مر معظمنا بمثل هذا الموقف، وربما كنت أحدهم. إنه تأثير ديننغ-كروغر؛ وهو تحيز معرفي يبالغ فيه الأشخاص ذوو المعرفة أو الكفاءة المحدودة في مجال فكري أو اجتماعي معين، في تقدير معرفتهم أو كفاءتهم في هذا المجال على نحو كبير بالنسبة إلى المعايير الموضوعية أو أداء أقرانهم أو أي شخص. وعلى النقيض من ذلك، يتسبب هذا التأثير أيضاً في اعتقاد أولئك الذين يتفوقون في مجال معين، بعدم كفاءتهم وضعف مقدراتهم!

اقرأ أيضاً: 4 ممارسات تساعدك على اكتشاف مواهبك ومهاراتك

البحث

في دراستهم التي كانت بعنوان “غير ماهر وغير مدرك لذلك: كيف تؤدي صعوبة التعرف إلى عدم كفاءة الفرد إلى التقييمات الذاتية المتضخمة؟”؛ التي نُشرت في “مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي” (Journal of Personality and Social Psychology) عام 1999، اختبر ديننغ وكروغر 4 مجموعات من الشباب في 3 مجالات هي الفكاهة والاستدلال المنطقي والقواعد، ثم طلبوا من الشباب تقييم نتائج اختبارهم بطريقتين مختلفتين:

  • تقدير عدد الأسئلة التي تمكنوا من الإجابة عنها.
  • تقدير أدائهم مقارنة بالطلاب الآخرين الذين أجروا الاختبار.

وكانت النتائج كالتالي:

  • الطلاب الذين نالوا درجات متدنية توقعوا أنهم حققوا أداءً أفضل.
  • الطلاب الذين نالوا درجات جيدة كانت توقعاتهم أقل.

اقرأ أيضاً: احترام الذات: أسباب تدنّيه ونصائح لتعزيزه

أسباب تأثير ديننغ-كروغر

اقترح الباحثان ديننغ وكروغر أن يكون السبب الرئيس لهذه الظاهرة هو ما يُعرف بـ “العبء المزدوج”. وفقاً لهذا المفهوم؛ فإن الأفراد الخاضعين لتأثير ديننغ-كروغر ليسوا فقط أقل مهارة وكفاءة؛ بل إن عدم كفاءتهم يمنعهم من إدراك مدى عدم كفاءتهم وتدني مهاراتهم. حيث يمكن تمييز الأشخاص غير الأكِفّاء من السمات التالية:

  • المبالغة في تقدير المهارات.
  • الفشل في تمييز مهارات الآخرين وخبراتهم.
  • عد تمييز أخطائهم الشخصية.

ويشير الدكتور نايف الصيفي إلى أنه باكتساب المعرفة والمهارة في مهمة ما، نزداد إدراكاً لحجم ما نجهله، فإذا افتقرت إلى تلك المعرفة والمهارة ستظل سيئاً في هذه المهمة وجاهلاً بمدى هذا السوء. وبصفة عامة، يمكن أن يُعزى تأثير ديننغ-كروغر إلى مجموعة من الأسباب؛ بما فيها:

  • عدم القدرة على إدراك  نقص المهارة والأخطاء.
  • النقص في ما وراء المعرفة؛ وتُقصد به قدرة الفرد على النظر في سلوكه وقدراته من خارج نفسه.
  • القليل من المعرفة يمكن أن يؤدي خطأً إلى الاعتقاد بالمعرفة الكاملة؛ أي الثقة المفرطة والمبالغ فيها.

اقرأ أيضاً: 4 تمارين لإعادة بناء ثقتك بنفسك

تأثير ديننغ-كروغر

يمكن أن يؤدي تأثير ديننغ-كروغر إلى العديد من التأثيرات الفردية؛ بما فيها:

  • قلة الوعي الذاتي: قد لا يدرك الأشخاص الخاضعون لتأثير ديننغ-كروغر مهاراتهم ولا يتمكنون من تمييز تخصصاتهم، لاعتقاده بأن ما هو سهل بالنسبة إليهم سيكون سهلاً بالنسبة إلى غيرهم أيضاً.
  • عدم القدرة على تحديد التخصص: فعندما تتفوق في مجال ما، من وجهة نظرك، قد تعتقد بأن مواهبك تكمن في هذا المجال؛ لكن في الحقيقة قد يكون تقييمك فيه دون المتوسط؛ ومن ثَمَّ يساعد تأثير ديننغ-كروغر على تمييز متى تثق بقدراتك الخاصة ومتى تطلب المشورة.
  • خيبة الأمل: قد تشعر بخيبة الأمل عندما لا يُبدي الآخرون إعجابهم وتقديرهم بـ “مواهبك”.
  • تفويت فرصة التعلم: فعدم تقديرك لمهارات الآخرين يعوقك عن اكتساب المهارة والتعلم منهم. وفي المقابل، عندما تقلل من قيمة موهبتك أو مهارتك في مجال ما، فإنك تفوت فرصة التفوق والإبداع في هذا المجال وتعليم الآخرين.

اقرأ ايضاً: استعادة الثقة بالنفس: التغيير هو المفتاح

دحض تأثير ديننغ-كروغر رياضياً

كررت دراسات عديدة التجربة، ودعمت وجود تأثير ديننغ-كروغر في مجالات مختلفة؛ مثل الدراسة المنشورة في دورية “السلوك التنظيمي وعمليات القرار البشري” (Organizational Behavior and Human Decision Processes).

ومع ذلك، فقد شكك غيز وزملاؤه في النمذجة الإحصائية المستخدَمة في الدراسة الأصلية؛ وكشفوا أنها نتيجة لتصميم البحث وليست انعكاساً للتفكير البشري، من خلال إنتاج تأثير ديننغ-كروغر باستخدام بيانات عشوائية.

شكّل غيز وزملاؤه مجموعة وهمية مكونة من 1,154 شخصاً، وخصصوا لهم نتائج اختبارات عشوائية، وتصنيفات تقييم ذاتي مقارنة بالأقران بدرجات تتراوح ما بين 1 و100، وبناءً عليه، قسّموا المجموعة الوهمية إلى 4 أقسام.

بالنتيجة؛ سيتفوق في الربع الأخير (الأقل تقييماً) 12.5% من المشاركين على 12.5% منهم؛ أي أنهم أفضل من 50% من المشاركين في الربع الخاص بهم، وهو تقييم صحيح نسبياً لمهاراتهم.

وفي دراسة أخرى نُشرت في “مجلة علم الأحياء الدقيقة والتعليم الحيوي” (Journal of Microbiology & Biology Education)، قدم الباحثون مجموعة من اختبارات محو الأمية العلمية على الطلاب، وتبعها اختبار تقييم للأداء يتضمن أحد الخيارات التالية:

  • أُتقنه.
  • لست متأكداً.
  • ليست لديّ فكرة.

قسّم الباحثون المجموعة إلى 4 أقسام وفقاً لنتائج الاختبارات، فكان أفرد الربع الأخير الذين نالوا أقل العلامات؛ أي الأقل مهارة، الأعلى تقديراً لقدراتهم؛ حيث بلغت نسبتهم نحو 16.5%. بينما قلل 3.9% من الطلاب غير الماهرين من إمكانياتهم؛ أي أن نحو 80% من الطلاب غير الماهرين استطاعوا تقييم مهاراتهم على نحو صحيح نسبياً.

ويتعارض ذلك مع تأثير ديننغ-كروغر الذي يفترض أن الطلاب غير الأكِفّاء أو الذين لا يمتلكون مهارة، يبالغون في تقدير مهاراتهم.

اقرأ أيضاً: ماذا يعني أن يكون الشخص ذكياً؟

إذاً إن تأثير ديننغ-كروغر ليس مرادفاُ لانخفاض معدل الذكاء أو الغباء، فلا تستعجل في حكمك على الآخرين وتقع في فخه لاعتقادك بأن مثل هذه الأشياء ببساطة لا تنطبق عليك؛ حيث يقول الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل (Bertrand Russell): “مشكلة العالم أن الحمقى والمتعصبين يتميزون دائماً بالثقة المفرطة بأنفسهم، وأن الحكماء يملؤهم الشك والحيرة”.

المحتوى محمي !!