تعرف إلى عملية الانتباه من منظور علم الأعصاب

الانتباه
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وفقاً لمؤسس علم النفس التجريبي الأميركي ويليام جيمس، فإننا جميعاً نعرف ما هو “الانتباه”، وعلى الرغم من ذلك فقد بدأنا مؤخراً فقط بالتعرف إلى آلياته العميقة في الدماغ، والدور الرئيسي للنصف الأيمن منه في هذه العملية. نقدم لكم توضيحات أكثر حول هذا الموضوع من خلال المقال التالي الذي نشر في الأصل على موقع “ذا كنفرسيشن” (The Conversation).

هذا المقال مقتطف من كتاب “فكّر بطريقة صحيحة” (Penser droit) وهو من تأليف طبيب الأعصاب ومدير الأبحاث في المعهد الوطني للبحوث الصحية والطبية بفرنسا “إنسيرم” (Inserm)، باولو بارتولوميو.

سواء كنا معجبين بلوحة في المتحف، أو نبحث عن صديق وسط حشد من الناس، أو نقرأ جملاً طويلة من رواية ما، أو نعبر الشارع بحذر حتى لا تصدمنا سيارة، فنحن بحاجة إلى حشد مجموعة من العمليات تندرج جميعها تحت اسم “الانتباه”.

وفقاً لمؤسس علم النفس التجريبي الأميركي ويليام جيمس، فإننا نعرف جميعاً ما هو “الانتباه”، وعلى الرغم من ذلك فقد بدأنا مؤخراً فقط بالتعرف إلى آلياته العميقة في الدماغ، والدور الرئيسي للنصف الأيمن منه في هذه العملية.

ما أهمية الانتباه؟

تواجه جميع الكائنات الحية التحدي ذاته: يجب أن تحقق أهدافها في بيئة مليئة بالعديد من العناصر التي تتنافس لجذب انتباهها وتحديد سلوكها. ويعد بعض هذه العناصر؛ كالكلمات التي تتضمنها جملة ما ولون إشارة المرور عندما نعبر الشارع، جوهريةً فيما يتعلق باللحظة التي نقرر فيها اتخاذ سلوك معين، ويجب أن ننتبه إليها. 

من جهة أخرى؛ تتطلب هذه اللحظة ذاتها تجاهل العناصر الأخرى كالكلمات المجاورة للجملة التي تهمنا، أو لوحة الإعلانات المضيئة عندما نهم بعبور الشارع.

قد تظهر أحداث أخرى بصورة غير متوقعة ولكنها تتطلب الانتباه إليها بطريقة عاجلة؛ كرنين هاتفك المحمول في أثناء القراءة، أو اشتعال النيران فجأةً في إحدى السيارات في الشارع. وباختصار؛ يتطلب السلوك المتسق انتقاء المحفزات المناسبة في البيئة المحيطة، ومراعاة أننا لا نتمتع بقدرات معالجة ذهنية مطلقة؛ ما يتطلب القدرة على تجاهل الأشياء الأخرى الأقل أهمية.

وهكذا؛ يجب أن نركز نظرنا على مكان واحد فقط في كل مرة. وما يزيد الأمر صعوبةً هو أن حساسية الأسطح الحسية لدينا ليست متماثلة. على سبيل المثال تتسم البقعة الصفراء (وهي الجزء المركزي الصغير جداً من شبكية العين) بأنها أكثر حساسية من محيط الشبكية، وهي الجزء الوحيد منها الذي يتيح لنا الرؤية بدقة عالية.

عندما يرى الإنسان شيئاً ما في محيط مجاله البصري، فعليه أن يحرك رأسه وعينيه لتركيز هذه الصورة على تلك المنطقة الدقيقة من شبكية العين وبهذه الطريقة يتمكن من تحديد ما يراه. إحدى أهم وظائف الانتباه هي السماح بحركات التوجيه هذه نحو الأشياء الموجودة في محيط مجالنا البصري، وهو أمر معروف لدى اللصوص الذين يحرصون بشدة على تشتيت انتباه الضحية ونظرها.

انتبه دون أن تحرك عينيك

حاول تركيز نظرك على كلمة من هذا النص مع الانتباه إلى ما يحدث على يمينك. في الواقع يمكنك توجيه انتباهك حتى من دون تحريك عينيك، وهو ما يسمى الانتباه الضمني. في لوحة “غشاش ورق اللعب” الشهيرة للفنان الفرنسي جورج دي لا تور، يظهر اللاعب الغشاش فيها وهو يتجنب النظر إلى ما يفترض به التركيز عليه؛ أي أوراق اللعب خاصته، وهكذا يتمكن من تشتيت انتباه باقي اللاعبين. 

تهدف التقنية في هذا المثال إلى منع الضحية من إدراك ما يحدث؛ إذ نعلم أنه إذا نظرنا إلى شيء ما، فإن من حولنا سيميلون تلقائياً إلى متابعة الشيء الذي نركز عليه انتباهنا وهذا ما يسمى “الانتباه المنقسم”. ومن ثم، فإن الانتباه ليس علاقة بين المراقب والعنصر موضوع المراقبة فقط؛ بل إنه ينطوي على علاقة اجتماعية تشمل الأشخاص المحيطين بالمراقب.

النظر إلى الشيء دون رؤيته

يمكن أن يؤدي نقص الانتباه أيضاً إلى “النظر إلى الشيء دون رؤيته”. أجرى عالما النفس دانيال سيمونز وكريستوفر شابريس تجربةً شهيرةً بهذا الشأن، عرضا فيها على المشاركين مقطع فيديو لفريقيّ كرة سلة يمرران الكرة فيما بينهما، وطلبا منهم احتساب عدد التمريرات.

يظهر في المقطع خلال عرضه ممثل يرتدي زي غوريلا، يقف في المنتصف ويضرب صدره ثم يخرج. والمثير للدهشة أن أكثر من ثلث المشاركين كانوا مشغولين بإحصاء التمريرات إلى درجة أنهم لم يروا “الغوريلا”، وعلى عكس ذلك فقد كانوا جميعاً سيلاحظون وجودها لو لم يركزوا انتباههم على التمريرات.

كانت تجربة الغوريلا المذهلة مستوحاة من الظاهرة المعروفة باسم “العمى غير المقصود”، وتحدث هذه الظاهرة عند تركيز الانتباه على عنصر واحد بصورة خاصة؛ ما يمنع الإدراك الواعي للعناصر الأخرى.

وتُظهر هذه التجربة والعديد من التجارب الأخرى أننا قد نفوت العديد من التغيرات الكبرى التي تحدث في عالمنا المرئي إذا كان انتباهنا موجهاً نحو مكان آخر. وعليه فإن انطباعنا بأننا ندرك دائماً مشهداً بصرياً غنياً ومفصلاً هو انطباع خادع، وتعد هذه الحالة مسؤولةً عن ارتفاع نسبة حوادث الطرق المأساوية الناجمة عن عدم الانتباه. على سبيل المثال؛ يُعد الإلهاء الذي تسببه الهواتف المحمولة أحد الأسباب الرئيسية لتباطؤ عملية الحد من حوادث الطرق في أوروبا.

شبكات الانتباه في الدماغ

كيف يمكن لعلم الأعصاب تعزيز فهمنا للانتباه؟ مستلهماً من أبحاث بوسنر؛ قاد طبيب الأعصاب في جامعة واشنطن في سانت لويس ماوريتسيو كوربيتا مع عدد من الباحثين، برنامج تصوير عصبي موسعاً حول الانتباه. وبفضل هذا البحث أصبحنا نعرف أن عمليات الانتباه لا ترتبط بمنطقة واحدة في الدماغ؛ بل بشبكات كبيرة تمتد بين منطقتيّ الفص الجداري والفص الجبهي منه.

وعلى الرغم من التباعد بين هاتين المنطقتين في الدماغ، فقد تمكنتا من التواصل مع بعضهما بعضاً بسرعة وكفاءة عبر “الطرق السريعة” في الدماغ أي الحزم الكبيرة التي تشكلها المادة البيضاء. على سبيل المثال توجه هذه الشبكات الجبهية الجدارية انتباهنا في الوسط المحيط نحو إشارة المرور قبل عبور الشارع. وبصورة عامة يوجه كل نصف كرة مخية الانتباه إلى الجانب الآخر من الوسط المحيط عبر شبكة انتباه “ظهرية”، تقع بالقرب من الجزء العلوي من الدماغ.

وعند وقوع حدث غير متوقع وعاجل ويجب التعامل معه كأولوية؛ مثل اقتراب السيارة في مثالنا، فإن انتباهنا يتحوّل إليه. يحدث ذلك من خلال شبكة جبهية-جدارية ثانية تتولى مقاطعة النشاط الجاري الذي يستحوذ على انتباهنا لإعادة توجيهنا إلى هدف جديد، وتقع هذه الشبكة في أسفل الدماغ، وهي شبكة الانتباه “البطنية”. 

جدير بالذكر أن شبكة الانتباه البطنية، لدى معظمنا، غير متماثلة في نصفي الكرة المخية، فهي نشطة بشكل أساسي في نصف المخ الأيمن غير السائد في استخدام اللغة.

المحتوى محمي !!