تأثير مانديلا: كيف يمكن أن تخدعنا ذاكرتنا؟

تأثير مانديلا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بينما تسرد أحداث ذلك اليوم بالتفصيل، يقاطعك أحدهم ليصحح لك بعضها التي لم تحدث؛ لكنك تكون مقتنعاً تماماً بحدوثها، وتحاول جاهداً التأكيد على مصداقيتها بطرق مختلفة. لكن الأمر، بالنسبة للطرف الآخر، لا يمثل سوى ذكرى خاطئة لم تحدث قط. فهل يمكن أن يكون ذلك الشخص على صواب؟

إن الذاكرة البشرية ليست معصومة من الخطأ، فعلى الرغم من تأكُّدنا في بعض الأحيان من حدوث أمر ما، وسرد أحداثه كاملة على أنها حقيقة؛ قد لا يكون إلا نسجاً من الخيال اعتبرناه حقيقة.

الأمر لا يتعلّق بالكذب؛ بل بنوع شائع من الذاكرة الخاطئة أو الزائفة التي تُعرف بـ “تأثير مانديلا”، فما هو ذلك التأثير وكيف يؤثر على ذاكرتنا؟

ما هو تأثير مانديلا؟

يصف تأثير مانديلا (Mandela Effect) موقفاً يكوِّن فيه الفرد أو المجموعة ذكرى خاطئة أو مشوَّهة لحدث ما، ولقد صيغ هذا المصطلح من قِبَل “فيونا بروم”؛ المؤلفة والباحثة، منذ أكثر من عقد من الزمان، عندما أنشأت موقعاً على شبكة الإنترنت يعرض تفاصيل ذكرياتها عن وفاة رئيس جنوب إفريقيا السابق نيلسون مانديلا في السجن في الثمانينيات.

لكن الحقيقة أن مانديلا لم يمت في السجن في الثمانينيات، فبعد أن قضى 27 عاماً في السجن، شغل مانديلا منصب رئيس جنوب إفريقيا بين عاميّ 1994 و1999 وتوفي عام 2013.

لكن على الرغم من وضوح هذه الحقائق؛ فإن ذاكرة بروم قادتها إلى اعتبار التغطية الإخبارية الدولية لوفاة مانديلا في الثمانينيات، ولم تكن في ذلك الأمر بمفردها؛ بل وجدت آخرين لديهم ذكريات متطابقة تقريباً عن وفاة مانديلا في القرن العشرين.

اقرأ أيضاً: كيف تؤثر البيئة على ذكرياتنا؟

ما هي أسباب تأثير مانديلا؟

يعزي البعض تأثير مانديلا إلى قابلية الذاكرة البشرية للخطأ، بينما يعتقد آخرون أنه دليل على وجود حقائق بديلة بسبب وجود أكوان موازية للعالم الذي نعيش به، بالإضافة إلى أسباب أخرى كما يلي:

1. ذكريات كاذبة

يقدِّم مفهوم الذكريات الكاذبة أحد التفسيرات المحتَمَلة لتأثير مانديلا، فالذكريات الكاذبة هي ذكريات غير صحيحة أو مشوَّهة لحدث ما.

تلك الذكريات لا تكون خاطئة كليّاً؛ بل تحتوي على عناصر من الحقيقة تشبه إلى حد بعيد الحدث الفعلي. ومع ذلك، فإن بعض العناصر الأخرى تكون خاطئة تماماً.

على الرغم من أن فكرة الذكريات الكاذبة تسبب عدم ارتياح لبعض الناس؛ فإن أخطاء الذاكرة شائعة جداً، فالذاكرة ليست قاعدة بيانات تفهرس كل المعلومات المُدخَلة؛ بل تنتقي بعضاً منها وتُمحى أخرى أو تختلط بغيرها. كما أنها تتأثّر بالمشاعر والتحيُّز الشخصي.

أظهرت دراسة للذاكرة أُجريت عام 2020 ونُشرت في مجلة “سايكولوجيكال ساينس” (Psychological Science) ارتكاب 76% من المشاركين خطأً واحداً على الأقل خاصاً باستدعاء معلومات سبق التعرُّض لها، على الرغم من حدّة ذاكرتهم.

2. التحريف

في بعض الحالات التي لا يكون لدى الفرد فيها معلومات كافية عن أمر ما؛ تملأ الذاكرة تلك الفجوات بالافتراءات التي يعتقد الفرد أنها حقائق، وهي آلية أخرى تكمن وراء الذكريات الزائفة وتأثير مانديلا.

وفقاً لـ “ليزا بورتولوتي” (Lisa Bortolotti)؛ أستاذة الفلسفة بجامعة برمنغهام في المملكة المتحدة، لا يتشاجر الناس عمداً؛ وخاصة عند افتقارهم للمعلومات التي من شأنها أن تجعل تفسيراتهم دقيقة، فيحاولون الاستعانة ببعض الأمور غير الصحيحة لدعم أفكارهم وتفادي الاعتراف بجهلهم.

يحدث ذلك النوع من التحريف أيضاً في الحالات المرضية العصبية التي تؤثر على الذاكرة؛ مثل مرض ألزهايمر وأشكال أخرى من الخرف. عندما يتكلم شخص مصاب بالخرف، فهو لا يكذب أو يحاول الخداع؛ بل إنه ببساطة لا يمتلك المعلومات أو الإدراك الضروريين لاستدعاء ذكرى أو حدث معين بدقة – بحسب دراسة منشورة في مجلة علم الأعصاب السلوكي (Behavioral Neurology).

3. الإيحاء

إذا تعرَّض الشخص لمحفِّز ما بشكل مباشر ثم تعرَّض لمحفز آخر مشابه لاحقاً، فقد ينتج عن ذلك نفس الاستجابة في الحالتين. على سبيل المثال؛ إذا قرأ شخص ما أو سمع كلمة “عشب”، فسوف يتعرّف إلى كلمات أخرى ذات صلة؛ مثل “شجرة” أو “جزازة العشب”، بسرعة أكبر من الكلمة غير ذات الصلة، ويعتقد أنهم شيء واحد.

4. حقائق بديلة

ينشأ مفهوم الحقائق البديلة من فيزياء الكم ونظرية الأوتار التي تستند إليها فكرة أن كوننا هو إحدى الأكوان التي يُحتَمَل أن تكون لانهائية. لذلك؛ تنشأ تلك الحقائق البديلة بتفاعل واقعنا مع حقائق بديلة أخرى من أكوان موازية.

على الرغم من نجاح الأساس الرياضي لهذه النظرية؛ فإنها تظل غير مُثبَتَة ومثيرة للجدل إلى حد كبير.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون خداع الذات وسيلةً للدفاع عنها؟

أمثلة على تأثير مانديلا

تتعدد الأمثلة على تأثير مانديلا في الحياة اليومية، وكذلك في بعض العبارات الشهيرة المقتبَسة من الأفلام؛ مثل:

  • “الحياة مثل علبة الشوكولاتة” (Life is like a box of chocolates)

هناك خطأ شائع في الاقتباس يأتي من الفيلم الأميركي “فورست غامب” (Forrest Gump)؛ حيث يردد البطل – توم هانكس– عبارة كانت تقولها والدته، فيقول: “كانت والدتي تقول دائماً أن الحياة تشبه علبة الشوكولاتة”، بينما يصيغها كثيرون على أنها “الحياة مثل علبة الشوكولاتة”.

  • “العبها مجدداً يا سام” (Play it again, Sam)

في الفيلم الكلاسيكي “الدار البيضاء” (Casablanca)، يتذكر الناس شخصية ريك التي أدّاها “همفري بوغارت” (Humphrey Bogart) وهو يقول، “العبها مرة أخرى يا سام”، ومع ذلك، فإن شخصية إلسا التي تؤديها “إنغريد بيرغمان” (Ingrid Bergman) هي التي تقولها.

كيف يمكن التعرُّف إلى الذكريات الخاطئة؟

على الرغم من أنه لا توجد طريقة سهلة لتحديد الذكريات الخاطئة؛ يمكن أن تساعد مشاركة الذكريات المشكوك في مدى صحتها مع الأشخاص الذين ربما شاهدوا الحدث أو يمكنهم التحقق من تفاصيله في التعرُّف على مدى صحة أو خطأ المعلومة.

كما يمكن للأشخاص الذين يرغبون في التحقق من ذكرياتهم عن الأحداث الشهيرة؛ مثل وفاة شخصية بارزة أو تاريخ حدث معين، التحقق من أرشيف الأخبار.

وأخيراً؛ لا يعبِّر تأثير مانديلا عن رغبة في الكذب حول حقائق بعينها؛ بل قد يحدث نتيجة ميل بعض الناس إلى المبالغة في تصديق ذكرياتهم، حتى عند مواجهتهم بالأدلة؛ أي أنه قد يكون أحد أشكال حماية الذات.

المحتوى محمي !!