كيف تنجو من دوامة المشاعر السلبية؟

استبداد المشاعر
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: إن رفض المشاعر السلبية يعني تجاهل البوصلة الداخلية الكامنة في النفس، فمشاعرنا تشبه وجهيّ العملة الواحدة اللذين لا يمكن الفصل بينها. يخبرنا الوجه “المظلم” عمّا هو مهم بالنسبة إلينا لأننا لا نحس بعواطف مؤلمة إلا تجاه ما يعني لنا حقاً، فأنا أقلق على ابنتي الصغيرة أو على صديق ما لأنه مهم بالنسبة إليّ، والانفصال عن المشاعر يعني الجهل بما هو مهم في حياتنا وبمن يجب علينا أن نعتني به. في هذا المقال توضيحات عن استبداد المشاعر وكيفية التعامل مع المشاعر السلبية.
إذا كنا نستقبل المشاعر الإيجابية كالفرح والحب والطمأنينة باستمتاع، فإننا نميل إلى كبت الغضب والخوف والقلق وغيرهم من الأحاسيس. ويُعتبر هذا خطأً حسب الباحث في علم النفس الإيجابي، إليو كوسو (Ilios Kotsou) الذي أكد خلال محاضرته الأخيرة أمام مؤتمر تيد إكس (TEDx) إن قبول عواطفنا كلها هو مفتاح الحرية. في هذا المقال توضيحات عن كيفية التعامل مع المشاعر السلبية.

مَن منا لم يسبق له أن حاول الإفلات من ذكرياته المؤلمة، أو مقاومة مخاوفه بشأن المستقبل أو قلقه الذي لا يعرف سببه حتى؟ ستكون قد لاحظت حينها أن مخاوفنا دائماً أسرع منا، ومن المستحيل إذاً التخلص منها.

وعندما نركز أكثر في هذا الموضوع نلاحظ أن المقاومة والهروب يمثلان ردَّي الفعل اللذين يعبّر عنهما جهاز الإنذار النفسي الخاص بنا ضد أي عاطفة سلبية. فطوال مراحل تطور الإنسان، أتاح له جهاز الإنذار هذا النجاة من المفترسين والتصرف في مواجهة مفاجآت البيئة المحيطة به؛ لقد مكنه باختصار من البقاء. وقد نجح ذلك جداً، ما دمنا قد حافظنا نحن البشر على بقائنا، إلى درجة أننا نحاول تطبيق الوصفة نفسها على استبداد المشاعر والتهديدات التي تبدو قادمة من داخل نفوسنا أي مشاعرنا المؤلمة. فنحن نخشى خوفنا ونحاول محوه؛ كما أننا نغضب من غيرتنا ونفعل كل ما بوسعنا للتخلص منها ونخجل من حزننا فنحاول إخفاءه.

عندما تداهمنا عواطفنا السلبية

يذكّرني هذا بآخر احتفال رفقة جيران الحي الذي أقطن فيه. لقد دعوت الناس للاحتفال في بيتي وأذعت الخبر في الحي بأكمله، ووضعت على واجهة الباب لافتة كتب عليها “مرحباً بالجميع”. كانت أمسية جميلة، وكان كل شيء على ما يرام إلى أن تذكرت ياسر. لقد كان ياسر بمثابة الغريب غير المحبوب في الحي؛ كان يعيش في الشارع بالقرب من السوق ويتجول دائماً رفقة كلبه المليء بالبراغيث ذي الرائحة الكريهة مثل رائحة صاحبه، وقد كان يتكلم بصوت مرتفع كما كان عدوانياً ومكروهاً. فجأة بدر إلى ذهني هذا السؤال: ماذا لو رغب ياسر في القدوم إلى حفلتي؟ تملَّكني الذعر، فقمت واتجهت نحو الباب لانتزاع اللافتة التي ترحب بالجميع لكن الوقت كان قد فات، فقد دق جرس الباب، ومن وراء زجاجه ميّزت خيال ياسر.

يجسد ياسر في هذه الحكاية العواطف السيئة كلها؛ تلك التي نريد التخلص منها مثل الخوف والغضب والحزن والغيرة إلى غير ذلك. لطالما أدرت ظهري لهذه المشاعر طوال حياتي وكأنّ شيئاً لم يكن؛ لكن هل ينجح ذلك على المدى البعيد؟ لم يكن شعوري في ذلك اليوم مجرد خوف بسيط بل كان قلقاً ساحقاً: لقد كان ياسر يطبل على الباب ولا أفتح له، وفي النهاية كان سيدخل بالقوة. ولتجنب هذا جربت استراتيجية ثانية، فقد تركته يدخل ثم بدأتُ بمراقبته؛ ولكن لو قضيت الأمسية في محاولة منعه من ارتكاب حماقة ما، فهل كان سيتبقى لي الوقت الكافي لتخصيصه لباقي المدعوين كالفرح والاطمئنان والتقدير والابتهاج؟

المقاومة ليست هي الحل

عندما كنت في السادسة عشرة من العمر كنت أقطن في جنوب فرنسا، وكانت والدتي تقيم في بلجيكا حيث كانت تخضع للعلاج من مرض السرطان. كنت أعرف أن السرطان مرض عضال لكنني لم أكن أستوعب حقيقة السرعة التي يمكن أن يقضي بها على المريض. وفي ليلة من الليالي أركبوني سيارة، وقالوا لي: “إليو، عليك أن تذهب بسرعة”. وبعد اثنتيّ عشرة ساعة، سمعت أحدهم يقول لي وأنا أنزل من السيارة: “إليو، لقد توفيت والدتك”. لقد كانت العاطفة التي اجتاحتني في ذلك اليوم، مثلما تجتاحني اليوم، جارفة جداً إلى درجة أنني لم أستطع مواجهتها، وكانت شقيقتي هي من دفعت ثمن ذلك. لقد كانت في حاجة ماسة إلى من يتفهمها وينصت إليها ويتقاسم معها ألمها، ولأنني لم أكن قادراً على العناية بمشاعري الخاصة فلم أستطع أن أتفرغ لشقيقتي.

إن الله يعطينا القوة لمواجهة الشدائد لكننا نرفض تقبُّل ما مررنا به ومواجهته، وبذلك نكون سجيني كل ما نرفضه ونقاومه لأننا نظن أن المقاومة هي الحل الوحيد والأفضل دون أن ننتبه إلى الثمن الذي سندفعه.

تقبّل المشاعر المؤلمة

ما الموقف الآخر الذي يمكننا تبنّيه في مواجهة مشاعرنا السلبية؟ إذا علقت يوماً ما في الرمال المتحركة سيكون رد فعلك التلقائي والمؤكد هو المقاومة. وبينما ستحاول بيأس إخراج إحدى رجليك، ستضغط أكثر على الرجل الأخرى التي ستغرق بدورها بسرعة أكثر في الرمال. إن الحل الأمثل، وغير الغريزي، يكمن في الاستلقاء بكامل الجسد فوق مستنقع الرمال لتوزيع ثقل وزنك على أكبر مساحة ممكنة، وتجنُّب الغرق إن أمكن. وبالقياس على مشاعرنا الخاصة، فإن الحل يكمن في تقبُّل اختبار العواطف المؤلمة وترويضها للتحرر منها.

لنعد إلى حكايتي مع ياسر. في ذلك اليوم الذي دق فيه الجرس، فتحت الباب مباشرة ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي أنصت فيها إلى مشاعري. حاولت استقباله بأفضل ما يمكنني: “مرحباً ياسر، ما أغرب شكلك اليوم”! أخذته بعد ذلك إلى مائدة المأدبة وقدمت له صحناً، ثم أجلستُه في مكان مريح. لا يعني هذا طبعاً أنني متفق مع كل ما يحكيه ياسر ولا حتّى أنني يجب أن أحبه؛ إن ذلك يعني ببساطة أنَّ رفض استقباله لم يكن خياراً مناسباً. إن مقاومته أخطر من تقبّله، فبمجرد انتهائي من الترحيب به أصبحت متفرغاً لباقي الضيوف؛ أي لبقية المشاعر كالفرح والتقدير والطمأنينة. نحن نتحرر عندما نتقبّل ضيوفنا كلهم ونرحب بهم؛ بمن في ذلك أولئك الضيوف غير المحبوبين الذين لم ندعُهم.

إن مقاومة عواطفنا خيار غير فعال؛ لكن الأسوأ من ذلك هو أننا عندما نكون معتادين على المقاومة وتجنب مشاعرنا، فإننا نلجأ بوعي أو بغير وعي إلى تجنب السياقات والوضعيات التي يمكن أن تنتج منها هذه المشاعر، فنتجنب على سبيل المثال الدخول في مشروع مهم خوفاً من الفشل، ولا نتقرب من شخص مهم بالنسبة إلينا لأننا نخشى أن يرفضنا، ولا نفتح أحضاننا لمن نحبهم لأننا نخاف أن نعاني بسبب ذلك، فتصبح حياتنا محدودة أكثر فأكثر؛ بل إنها تُختزل!

صاحب مشاعرك كلها

إن رفض المشاعر السلبية يعني تجاهل البوصلة الداخلية الكامنة في النفس، فمشاعرنا تشبه وجهيّ العملة الواحدة اللذين لا يمكن الفصل بينها. يخبرنا الوجه “المظلم” عمّا هو مهم بالنسبة إلينا لأننا لا نحس بعواطف مؤلمة إلا تجاه ما يعني لنا حقاً، فأنا أقلق على ابنتي الصغيرة أو على صديق ما لأنه مهم بالنسبة إليّ، والانفصال عن المشاعر يعني الجهل بما هو مهم في حياتنا وبمن يجب علينا أن نعتني به.

إننا نتمنى بالطبع أن تكون لدينا عصا سحرية تمسح مصاعب الحياة كلها؛ لكننا نعرف أنها غير موجودة. لقد حدث التحول الكبير في حياتي عندما فهمت أنني من المستحيل أن أتحرر تماماً إذا بقيت سجين مخاوفي، وأن أهم ما عليّ فعله هو التمرد عليها. إذا كنت خجولاً وأنتظر أن أتحرر من خجلي قبل أن أتقرب من الآخرين، فقد أن أنتظر طويلاً دون يقين بأن ذلك اليوم سيأتي. إذاً أليس من الواقعي أكثر أن أتعلم العيش مع خجلي؟ في اليوم الذي سأتعلم فيه ذلك، يمكنني أن أتأبَّط خجلي يميناً وخوفي يساراً، وآخذهما معاً لأسير نحو ما هو مهم في حياتي.

إن لهذا التحرر ثمناً، فهو يتطلب مصاحبتنا لمشاعرنا كلها بما في ذلك المؤلمة منها، وهذا ما نسميه الشجاعة. وقد كنت بحاجة إلى هذه الشجاعة بعد وفاة والدتي بمدة طويلة من أجل النظر إلى ما في داخلي ومواجهة مشاعري الكامنة كلها. وبالطبع احتجت إلى الوقت لترويض مشاعري وتقبُّلها شيئاً فشيئاً، فتعايشت مع فقدان والدتي بعد أن كنت أحاول الهروب من هذه الحقيقة. .

الشجاعة تولد من الخوف

الخبر السار للذين يشعرون بالخوف مثلي هو أنهم قادرون على تغيير حالهم والتحرر من مشاعرهم السلبية كالشجعان، فكل خوف بسيط توازيه شجاعة بسيطة، وكل خوف شديد توازيه شجاعة عظيمة، وعندما يغيب الخوف تغيب الشجاعة. ليس الخوف في حد ذاته مشكلة إذاً؛ وإنما الخوف من الخوف هو الذي يشلّنا في الواقع، فعندما أتعلم العيش مع ضيوف عيد الجيران الداخليين في نفسي كلهم، فإنني لن أتصرف بشكل غير لائق تجاه ظروف الحياة وعواطفها المؤلمة لكنني أستطيع الرد بطريقة حرة وذكية على أي وضعية كيفما كانت.

إن مواجهة خوفنا تشبه مواجهة إعصار، فرياحه العاتية تتحرك بسرعة أكثر من 300 كيلومتر في الساعة، وللمفارقة فإن المكان الأكثر أمانا يوجد في وسط الزوبعة غير أن الذهاب إليه يتطلب منا الشجاعة؛ شجاعة الكف عن الهروب ومواجهة مخاوفنا حتى نصبح في قلب التجربة. هناك في قلب الإعصار، تكون الرياح ساكنة ويسود هدوء منقطع النظير، وهناك أيضاً يمكننا اكتشاف أن الخوف ما هو إلا دليل على إنسانيتنا.

المحتوى محمي !!