أنا ومعالجي النفسي: علاقة فريدة من نوعها

المعالج النفسي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

المعالج النفسي هو ذلك الشخص الذي نكشف له عن “وجهنا” الخفي، وخبايا نفسنا المظلمة، ونزواتنا الغريبة، وحتى نوايانا اللئيمة. وسواء كان هذا المعالج رجلاً أم امرأة، فهو ينصت إلى ما نقوله دون أن يحكم علينا. تربط المعالج النفسي بمريضه، علاقة من نوع خاص، قد تتسم بالتعقيد في بعض الأحيان.

هل هو صديق؟ بالتأكيد لا. إذاً هل هو شخص مقرب، وكاتم للأسرار؟ نعم هو كذلك بكل تأكيد. هل يمكن القول إن المعالج النفسي هو ذلك الشخص الذي نتخلص عنده من فائض آلامنا وأوجاعنا؟ هذا أمر مرهون بمرور الوقت.

بينما قد لا يكون من السهل تحديد طبيعة هذه العلاقة الاستثنائية بين المعالج النفسي ومريضه، فإن جميع مدارس العلاج النفسي تتفق على أن ما يدور بين المعالج والمريض؛ ذلك التلاقي الإنساني الذي يتم في إطار دقيق للغاية، هو جوهر هذه الرحلة العلاجية. ما مكونات هذه العلاقة الفريدة من نوعها؟ نتعرف على ذلك فيما يلي.

المعالج النفسي لا يعتمد على آلية “التحويل الفرويدية” فقط

“يستلقي المريض على الأريكة، ويجلس مختص التحليل النفسي خلفه”. غالباً ما يشير مفهوم اختصاص علم النفس في فرنسا حتى اليوم، إلى أسلوب التحليل النفسي الكلاسيكي؛ الأسلوب الذي لا يتسم بوجود تفاعل مباشر بين المريض والمختص؛ إذ يُعد الأخير محاوراً سلبياً – غالباً ما يلتزم الصمت، لا يبدي الكثير من المشاعر، ويضع “مسافةً كبيرةً” بينه وبين مريضه الذي يحاول قول كل ما يخطر في باله خلال الجلسة. وبناءً على تقدير مختص التحليل النفسي المحض للحالة؛ يتيح للمريض أن ينسب إلى نفسه مشاعر أو نوايا تشير إلى قصته الشخصية، وهي آلية وضعها فرويد نظرياً تحت اسم “التحويل”.

أما المعالجون النفسيون، فهم يضيفون عناصر أخرى إلى آلية “التحويل”؛ إذ لا تقتصر علاقة المعالج بالمريض على هذه الآلية، كما يؤكد المعالج النفسي آلان ديلورمي: “تتسم العلاقة بين المعالج النفسي ومريضه بالرقة، وأجرؤ على إضافة الحب أيضاً.. نعم حب بلا عاطفة أو فعل”.

وهذا بالتأكيد أحد الأسباب التي جعلت المزيد من الناس يفضلون اللجوء إلى المعالج النفسي، بدلاً عن مختص التحليل النفسي.

يقول جميل: “خلال 15 عاماً من العلاج لدى مختص التحليل النفسي، أعتقد أن ما قاله لي خلال جميع الجلسات، لم يتجاوز 10 جمل”، ويستدرك: “لكن يجب أن أعترف أنني ما زلت أتذكر كل جملة منها، نظراً لصلتها الوثيقة بحالتي”. بعد فترة من إيقاف العلاج؛ فضل جميل استئنافه لدى مختصة في علم السوفرولوجيا، ويوضح: “يمكنني التحاور معها بأريحية تامة، لأنها تعبر عن نفسها أيضاً خلال هذا الحوار”.

إن هذه الحاجة إلى التواصل المباشر بين المريض والمعالج النفسي وجهاً لوجه، وحتى التواصل الجسدي – كما هو الحال في العلاج بطريقة الغشطالت، والعلاج بطريقة “إعادة الولادة”؛ حيث يدعم المعالج النفسي مريضه عندما يستعيد مشاعره القديمة، ويكون منسجماً معه خلال هذه العملية، تبدو حاجةً متلائمةً تماماً مع عصرنا الحالي.

الحاجة إلى الاستماع مع وجود إطار علاجي محدد

تقول أماني؛ 52 عاماً: “عانيت من إهمال والديّ لي، لذا قصدت المعالجين النفسيين بحثاً عما افتقدته في طفولتي”. يمثل المعالج النفسي بالنسبة للكثيرين، المحاور المثالي الذي “يرحب بهم” ويتيح لهم مساحة حوار كافية، وهو ما كان جميل؛ الذي لجأ إلى المعالج النفسي بعد تجربة انفصال مؤلمة، بحاجته. يقول جميل: “إن إمكانية التحدث إلى شخص متاح لي تماماً، أعادت إليّ القدرة على الوثوق بإنسان آخر”.

فالمعالج النفسي يستمع لنا ويعيرنا كامل انتباهه، دون أن يحكم علينا، وهو ما يشجعنا على أن نكشف له عن وجهنا الخفي.

وهكذا كان الحال بالنسبة لـ فادية ذات الـ 41 عاماً؛ والتي كشفت لمعالجها النفسي عن جوانب نفسها المظلمة، ونزواتها ونواياها اللئيمة. تقول فادية: “خلال الجلسة العلاجية، أخلع عباءة الزوجة أو الوالدة أو الابنة، وأتحدث عن نفسي كما هي، وأكشف عن حقيقتي في هذه اللحظة، ويستمع المعالج إلى ما أقوله برحابة صدر، فأنا هي أنا”.

إن هذا الاستماع غير المشروط، والحضور الذي لا يمكن العثور عليه في أي مكان آخر، هو في الواقع ملح مهنة العلاج النفسي. إنها “خدمة مدفوعة”، وفي الحقيقة؛ يعد المال عنصراً أساسياً في النظام العلاجي في هذا السياق. يوضح مختص الطب النفسي العصبي موني القاييم قائلاً: “إنه المال الذي يسمح للمريض بالاستفادة من الاستماع المهني؛ وبالتالي تحرير نفسه من أي دين تجاه المعالج النفسي”. توضح ليلى؛ 42 عاماً، أنها استغرقت وقتاً طويلاً لفهم هذه الآلية؛ إذ تقول: “كنت أرغب دائماً في القيام بعمل جيد، لأكون المريض المثالي، لذا كنت أحكي لمعالجي النفسي الحكايات المضحكة فقط، وشيئاً فشيئاً، فهمت أن وقت الجلسة هذا كان ملكاً لي وتحت تصرفي، عندها شعرت حقاً أنني كنت أدفع المال لأحصل في المقابل على الإصغاء، وسمحت لنفسي بأن أخبر المعالج بكل شيء؛ ما مكنه بعد ذلك من بدء العلاج”.

يوفر العلاج النفسي أكبر قدر من الحرية للمريض؛ ولكن ضمن إطار صارم إلى حد ما؛ مثل انتظام الجلسات، والطقوس الخاصة بكل تقنية علاجية، والوقت المحدود، والتكلفة المالية لكل جلسة. ومن الجدير بالذكر أن المعالج النفسي المؤهل تأهيلاً كافياً، هو الذي يتمكن من تنحية مزاجه ومشاعره وشخصيته جانباً خلال الجلسات. يوضح آلان ديلورمي: “إذا قضيت ساعة مع صديق لي، فإننا نتشارك الحديث مناصفةً؛ إذ يحدّث كل منا الآخر عن نفسه. أما بالنسبة للمريض ، فأنا لا أشاركه الحديث؛ بل أنصت له. وعندما أقول له شيئاً، ويكون ذلك لغرض محدد هو خدمته ومساعدته في حل مشكلته”. ويضيف جان ميشيل فوركاد؛ رئيس الاتحاد الفرنسي لمنظمات العلاج النفسي (أفوب): “المعالج النفسي هو دائماً “الصديق الزائف”، فهو يحتفظ بتلك المسافة التي تعود بالفائدة على المريض”.

المسافة الصحيحة بين المعالج النفسي والمريض

بينما لا يفسر جميع المعالجين النفسيين عملية “التحويل” لدى المريض كما يفعل زملاؤهم مختصو التحليل النفسي، فإنهم يدركون جيداً أن ما يجري خلال الجلسة العلاجية يُعبر عن رمزية معينة في حياة المريض ككل، ويمثل المكان العلاجي صدىً لها. على سبيل المثال؛ هل أنت غاضب من معالجك لأنه يتحدث كثيراً في أثناء الجلسة؟ أكد منطقتك. هل تفعل الكثير لتكسب محبته؟ حاول تحديد الجزئية التي تخطئ فيها بحق نفسك. لا تستطيع تركه؟ تعلم من خلال ذلك أن تنفصل عن كل من تحب. بفضل الروابط “المزيفة” التي ينشئها المريض مع المعالج النفسي؛ يسمح له العلاج بإعادة النظر في جميع الطرق الخاطئة أو الصحية التي يسلكها عندما يتعامل مع الآخرين. توضح روجريان موريل مازيت: “إنها مسألة تعلم احترام الآخر دون إصدار حكم، مع احترام الذات”.

من المهم أيضاً تجنب انحراف علاقة المريض بالمعالج عن مسارها؛ بما في ذلك تجنب العلاقات الجنسية وحتى العلاقات الودية خارج هذا الإطار المحدد، فهي تشوه الارتباط العلاجي، والمفهوم الأساسي له؛ القائم على أن هذه العلاقة ليست علاقة تقارب أو تباعد كبيرين.

في فيلم سام كارمان الرائع “أنا وكينيدي” (Kennedy and I)، يعاني البطل؛ وهو في الأربعينيات من عمره، من أزمة وجودية؛ إذ تجتاحه الرغبة في امتلاك الساعة التي يحملها مختص التحليل النفسي دائماً في يده اليسرى، بغية الاستفادة من الوقت المتبقي له، وكانت هذه الفكرة بمثابة استعارة حول “مذاق الحياة” الذي يمكن للمعالج -إذا قام بدوره المتمثل باليقظة التامة تجاه مريضه- أن يعيد له الرغبة فيه.

استعادة الرغبة في الحياة

دائماً ما كانت سوسن؛ 36 عاماً، تشتكي من علاقتها بزوجها خلال الجلسات العلاجية، وتوضح: “أنا وزوجي مختلفان تماماً؛ إذ ليس لدينا الاهتمامات نفسها”. وذات يوم؛ قال لها معالجها النفسي: “حسناً؛ إذا لم يكن لديك شغف مشترك مع زوجك، فلمَ لا تبتكرين واحداً؟”. تقول سوسن: “لقد كان ذلك مذهلاً بالنسبة لي، وغادرت الجلسة، وأنا أتطلع إلى مشروع جديد في حياتي، وأنظر إليها بطريقة مختلفة”.

بالنسبة لآلان ديلورمي، فإن لشخصية المعالج دور مهم في تفعيل معنى الحياة مجدداً لدى المريض، ويوضح: “أنت بحاجة إلى وجود حقيقي؛ شخص حقيقي أمامك. يمكنك استشارة مفكر لامع؛ لكن من دون وجود اتصال حيّ معه، فإن كل ما ستحصل عليه هو المعرفة “الجافة”. كما أن قضاء بعض الوقت مع شخص خاض تجربة حقيقية في الحياة؛ كتجربة المعاناة والحب وفقدان الأحباء، وعرف كيف يتعافى من مثل هذه المحن، سيمنحك طاقة جديدة لتحيا”.

أخيراً؛ لا يمكن التنبؤ بجودة العلاج، وتوضح الطبيبة النفسية سيلفي أنغل ما يلي: “يعد الذهاب إلى المعالج النفسي بمثابة رحلة طويلة برفقة شخص ما، فإذا لم تشعر بالتآلف معه؛ يمكنك التعرف إلى شخص آخر. ومن حسن الحظ أن هنالك الكثيرين من مختصي العلاج النفسي، لذا إذا أردت العثور على المعالج المناسب لك، فستجده بالتأكيد”.

المحتوى محمي !!