العلاج الأسري: تجربة شخصية على لسان أصحابها

سير العلاج الأسري
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقول مختصة العلاج الأسري ماري روز ريتشاردسون: “العلاج الأسري متعب لكنه فعال”. لسنة كاملة، أشرفت المختصة على علاج أسرة م.ع التي وافق أفرادها على الإدلاء بشهاداتهم لنا حول سير العلاج الأسري وأجرينا معهم هذه المقابلة لنتعرف إلى رحلتهم أكثر.
لكل أسرة نظامها الداخلي الخاص بها وترتبط فعالية هذا النظام بسعادة أفرادها أما عندما تسود بينهم الخلافات وأوجه المعاناة الأخرى فإنه يختل، وفي هذه الحالة يغدو من الضروري محاولة فهم مواضع هذا الخلل. عملت مختصة العلاج الأسري ماري روز ريتشاردسون على مدى ثلاثين عاماً في كندا ثم في فرنسا على رعاية العائلات ومساعدة أفرادها على استعادة الود والتواصل فيما بينهم. في عام 2007، قدمت عائلة م.ع إلى عيادة ماري روز ريتشاردسون بسبب سلوكيات الابن ماجد (الذي كان يبلغ 16 عاماً حينئذ) التي تمثلت في إساءة التصرف مع الآخرين ورفض الانصياع لقواعد المنزل والإهمال الدراسي. وكما تفعل في كل مرة؛ بدأت المختصة الجلسات بجمع كل أفراد الأسرة معاً بغية فهم قصة العائلة كاملةً على مدى ثلاثة أجيال والسماح لكل فرد بفهم دوره في المنظومة، وفي حالة أسرة م.ع لاحظت المختصة منذ الجلسة الأولى ميل ابنهم ماجد إلى الشعور بالقوة المطلقة ورغبته في فرض سيطرته.

تغييرات صغيرة

تعرّض الوالدان مروان ولبنى لصعوبات كبيرة في طفولتهما، فقد شهدا عنفاً أسرياً إضافةً إلى انفصال والديّ كل منهما؛ ما حدا بهما إلى بذل كل جهد ممكن لتجنيب أطفالهما أي مما عايشاه آنذاك ومن ذلك أنهما كانا يجدان صعوبةً في فرض القواعد عليهم خوفاً من أن يكونا مستبدَّين؛ لكنهما لم يدركا أن فرض القواعد على الأبناء سيمنحهم الحرية عندما يكون الطلب محدداً والعقوبة المرتبطة به واضحةً ومطبقةً.

ولذلك فقد اقترحت المعالجة إجراء تغييرات صغيرة ليستعيد مروان ولبنى سلطتهما الأبوية. تقول المختصة: “لقد فهم مروان ولبنى أن وضع القواعد داخل الأسرة ليس استبداداً بل هو حب واحترام”. إضافةً إلى مشكلة ماجد، كانت العلاقة بين شقيقتيه لمى وفاتنة إشكاليةً، وتوضح ماري روز ريتشاردسون قائلةً: “كانت لمى وهي الأخت الوسطى أكثر تحفظاً من شقيقها وشقيقتها، فقد كان يثير ضيقها تمتع فاتنة بامتياز الولد الأصغر في العائلة”.

لسنة كاملة تكلم جميعهم واستمع كل واحد للآخر ثم عبر ماجد ولمى عن رغبتهما بعدم استكمال الجلسات. وتوضح المختصة قائلةً: “كما قلت كان ماجد يحب أن يفرض سيطرته ويتحكم في كل شيء ثم أدرك أن الأمور لا تسير على هذا النحو، وعلى الرغم من أن العلاج لم يثر اهتمامه فقد شارك فيه بالكامل حتى أنه كان أول من بدأ بالتحدث، أما لمى التي كانت تبدي سأمها من الجلسات فقد كانت دائماً تختار الإجابات المناسبة في أثناء الكلام”. بعد ذلك استكملنا الجلسات العلاجية مع فاتنة ووالديها (مروان ولبنى) الذين شعروا براحة نفسية كبيرة، وتوضح المختصة قائلةً: “العلاج الأسري متعِب لكنه فعال، وهو يتطلب البحث في خبايا الأمور وقول كل ما تجنب أفراد الأسرة قوله فيما بينهم، لأن هذا ما سيتيح لهم استعادة جو الثقة وشعور السعادة لوجودهم معاً”، وتقول لبنى: “على الرغم من طلاقنا أنا ومروان

فقد ساعدنا العلاج الأسري على تغيير أنفسنا نحن الخمسة للأفضل”.

المنهجيات الثلاث للعلاج الأسري

يهتم العلاج الأسري التحليلي النفسي بكل فرد من أفراد الأسرة على حدة، ثم جميعهم معاً، إذ يسلط الضوء على الاضطرابات اللاواعية للوالدين التي تؤثر في علاقتهما بأبنائهما، وهو علاج طويل الأمد.

النهج الثاني هو العلاج الشامل الذي يأخذ في الاعتبار البنى التي تتكون منها الأسرة وقواعدها في الحياة، وتُعقد الجلسات في مجموعات مع معالج واحد أو اثنين. ويسمح هذا النهج بإدراك بالمشكلات التي يعانيها كل فرد من أفراد الأسرة ثم التعرّف إلى مشكلات الأسرة ككل.

أما نهج المجموعة العائلية فيتمحور حول طريقة العلاج عبر الأجيال التي تفترض أن أفراد الأسرة ينتمون إلى مجموعة مكونة من جميع أفرادها بما في ذلك الأجداد، ويعمل هذا العلاج الموجز (بضع جلسات) على إبراز الأحداث والصراعات والأسرار العائلية المنسية ما يسمح لكل فرد بفهم مكانه الصحيح في العائلة.

الأب مروان، 52 عاماً

“بعد فترة من طلاقي ووالدتهم شعرت أنني أفقد القدرة على التواصل مع أبنائي وكان ماجد خارجاً عن السيطرة، فقد كانت سلوكياته وإيماءاته في المنزل استفزازية، واتسم بالغطرسة وإساءة الأدب وخلق جواً من التوتر كان يحاول أن يبتزني من خلاله، حتى وصل الأمر حد الاشتباك الجسدي في إحدى المرات إذ رفع يده عليّ، وهنا أدركت أنه من الضروري اتخاذ خطوة ما، لذا سجلته في مدرسة داخلية ولجأنا إلى العلاج الأسري ما ساعد على تغيير الأمور تدريجياً. لم يعد ماجد مركز الاهتمام ووجد أن الانضباط في المدرسة الداخلية لا يطاق ولكنه اعترف أنه علمه العمل لأنه لم يكن لديه شيء آخر يفعله. لقد ساعدني العلاج الأسري على استعادة علاقتي بابنتيّ والأمر الأهم أن كل واحد منا حصل على مكانته المستحقة كما أنني تعلمت كيف أمارس سلطتي الأبوية دون الخوف من أن يقترن ذلك بالعنف الذي تعرضت له في طفولتي والآن وقد وصلنا إلى نهاية الجلسات يمكنني القول إن العلاج الأسري هو مرحلة مؤقتة ووسيلة من وسائل الدعم التي تعين الأسرة على حل أزماتها إذ إنني انخرطت في التحليل النفسي لثلاث سنوات أيضاً وكان الجمع بين هاتين الطريقتين العلاجيتين مفيداً جداً، لقد عاد الحب بيننا مجدداً ولم تعد تخنقه الأزمات”.

الأم لبنى، 50 عاماً

“تطلقنا أنا ومروان في عام 2004 بطريقة عقلانية قدر الإمكان وأتى قرارنا هذا حرصاً منا على مصلحة الأطفال، وبعد 3 سنوات بدأ ماجد أكبر أولادنا يُظهر رفضاً مستمراً للالتزام بقواعد المنزل فكان يتأخر في الخارج دائماً رغم أنه كان يبلغ 15 عاماً فقط. كان بإمكانك سماع صراخنا في المنزل دائماً، وأصبح التعامل معه صعباً جداً كما كانت شقيقتاه تعانيان بسبب هذا الوضع.

ولذلك فقد وضعناه في مدرسة داخلية ونصحنا مختص في طب نفس الأطفال باستشارة مختص في العلاج الأسري وعلى الرغم من أن الخطوة كانت صعبةً بالنسبة إليّ فقد رأيت أن لا مفر منها وقررت اتخاذها، وبالفعل فقد بدأت التغييرات الصغيرة المقترحة في الجلسات تؤتي ثمارها تدريجياً. كانت هذه التغييرات تهدف إلى تعليم أبنائنا تحمّل بعض المسؤولية؛ مثلاً عندما أنادي لمى لتناول العشاء وترفض، فإنني لن أحاول التحايل عليها لتأكل وبهذه الطريقة أخذ كل واحد فينا مكانه الصحيح في العائلة وحصلت الفتاتان على مساحة أكبر. عاد ماجد إلى المنزل بعد نهاية العام الدراسي وانتسب إلى إحدى المدارس العريقة ليبدأ منها رسم مستقبله، ولا يخلو الأمر من نوبة غضب بين الحين والآخر لكن دون أن يتمادى في تصرفاته، ويمكنني القول إن العلاج الأسري قد ساعدنا على إنشاء ملاذ آمن لأبنائنا”.

الابن ماجد، 17 عاماً

“كان لدينا الكثير من المشكلات في المنزل لذا فقد كان العلاج الأسري خطوة جيدة. لم أكن انسجم مع والدي تماماً وعلى الرغم من أنني أدركتُ المشكلة فإنني لم أرغب كثيراً في حضور الجلسات، وبصراحة لا أعلم ما إذا كانت هذه الجلسات قد غيرت الكثير لكنني حضرتها ولم ألتزم الصمت بل تحدثتُ عن سبب المشكلة من وجهة نظري ووافقتُ على الاستماع لأفراد أسرتي أيضاً. لقد تحسنت علاقتنا ببعضنا

في المنزل فلم نعد نصرخ كثيراً. وعلى الرغم من أنني تقبلت الملاحظات حول سلوكي وضرورة احترام القواعد لكنني أرى أن والديّ قد أخذا العلاج على محمل الجد أكثر من اللازم، ربما لم أقتنع بهذا النوع من العلاج تماماً بعد أو إنني في سن يرفض فيه المرء كل شيء”.

الابنة لمى، 14 عاماً

“كان ماجد يشغل الاهتمام كله حتى أننا استشرنا المختص في البداية من أجله فقط ثم تحولت الاستشارة لتشمل العائلة بأكملها وتمكنا من فهم سبب مشكلاتنا مع والدينا. والدي سريع الغضب فعندما لا نحضر إلى طاولة العشاء مثلاً يبدأ بالصراخ على الفور أما الآن فهو يكتفي باستدعائنا مرةً واحدةً دون أن يفقد أعصابه عندما لا نحضر؛ كما أنّ أمي أصبحت أقل بكاءً من ذي قبل. بالنسبة إلى ماجد، فأنا لم أشهد أي تغيرات في سلوكه بصراحة فهو كما هو لكن الأمر لا يزعجني كثيراً. أما بالنسبة إلى علاقتي مع أختي فاتنة فقد تغيرت الأمور كثيراً فنحن نتحدث أكثر ومنذ بضعة أسابيع اعتذرت إليّ عندما عبرتُ لها عن استيائي من طريقة كلامها معي؛ ولكنني على الرغم من ذلك لا أجد جميع جوانب العلاج الأسري مريحةً. على سبيل المثال؛ شعرت بالاستياء عندما طلب منا إغلاق هواتفنا كما أن جلسة أو اثنتين تفيان بالغرض ولا حاجة إلى عشر جلسات”.

الابنة فاتنة، 11 عاماً

“كان لدينا الكثير من المشكلات وكنا نصرخ على بعضنا طوال الوقت، وعندما تساءلتُ عن السبب أدركتُ أنه لا يتعلق بأمي أو أبي أو ماجد فقط فقد كان ثمة الكثير من المشكلات بيني وبين أختي لمى أيضاً. أذهب حالياً إلى المعالجة رفقة أبي أو أمي أو حتى وحدي أحياناً. العلاج الأسري مفيد ويُشعرني بالراحة لأنه يتيح لي التعبير بحرية عن كل ما يضايقني؛ مثلاً مراجعة والدي لواجباتي المدرسية كما لو كنتُ في الصف الأول الابتدائي فأنا أعرف كيف أنجزها بنفسي. لم أكن مرتاحةً لفكرة ذهاب ماجد إلى مدرسة داخلية وسعدتُ بعودته إلى المنزل ونحن الآن لم نعد نصرخ على بعضنا كثيراً”.

المحتوى محمي !!