تلك الشكوك التي تحول الحياة إلى جحيم: كيف نفندها؟

التساؤل الذاتي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تراودنا جميعاً شكوك ومخاوف تدفعنا إلى التفكير وطرح تساؤلات وجودية؛ ولكن كيف نعرف إذا كان التساؤل الذاتي ذا مبرر منطقي؟ وكيف نميز بين الرغبة الحقيقية في التغيير والمشاعر المؤقتة التي لا تلبث أن تزول؟ وهل يرتبط التساؤل الذاتي بالأزمات والاضطرابات التي لا نمتلك القوة لمواجهتها؟ المزيد في السطور التالية.

تنتابنا جميعاً من حين لآخر مخاوف وشكوك وجودية تدفعنا إلى طرح تساؤلات على أنفسنا؛ لكن كيف نعرف ما إذا كانت التساؤلات التي تثور في عقولنا ذات مبرر منطقي؟

لقد نفدت كل الأجهزة وبيعت بالفعل بعد شهرين فقط من بداية العام الدراسي؛ لكننا لا نزال في انتظار تلقي مكالمة هاتفية تفيد بتوافرها، أو نقف في الساحات أمام المحال التجارية على أمل وصول نسخ منها، أو نترقب وصولها إلى منازلنا، أو نظل قابعين أمام الكمبيوتر أو بجوار غسالة الأطباق؛ ولكن ما هذا الذي نفعله بأنفسنا؟ ماذا لو كانت تلك مجرد أوهام لا أساس لها؟ ماذا لو كنا نعيش الحياة كلها بطريقة خاطئة؟ هل هذه الأسئلة التي تباغتنا من حين لآخر لها مبرر منطقي يقبله العقل؟ وكيف نميّز بين الرغبة الحقيقية في التغيير والمشاعر المؤقتة التي لا تلبث أن تزول؟ وهل يرتبط التساؤل الذاتي بالأزمات التي تحفل بها الحياة كالاضطرابات التي نمر بها في العمل والحزن على فقدان أحبائنا وانهيار علاقاتنا والتحديات التي لا نقوى على مواجهتها؟ 

ترصد المحللة النفسية مونيك ديفيد مينار (Monique David-Ménard) هذه الظاهرة قائلةً: “يقول بعض المرضى إنهم يستمتعون بإثارة الشكوك في نفوسهم. والحق أنهم يحاصرون أنفسهم بالشك الدائم الذي لا يعرفون على وجه اليقين ما إذا كان يشكّل عقبة في حياتهم أو وسيلة يستمدون منها الشعور بالمتعة. فقد تتساءل الزوجة: ماذا إذا لم يكن الرجل الذي أمضيت معه ليالي وأياماً من أجمل أيام العمر “شخصاً جديراً بحبي”؟ وماذا لو وجدتُ رجلاً أفضل منه؟”. 

ويؤكد المحلل النفسي، ماري جان سوريه (Marie-Jean Sauret) إن: “التساؤل الذاتي للمرء لا يعني بشكل عام أنه يجب أن يواصل الشك في كل ما حوله إلى ما لا نهاية لأن هذه الطريقة في التفكير ستضع العراقيل في حياته، فعندما تقضي وقتك في اجترار الأفكار لن تستطيع فعل شيء آخر”.

التساؤل الذاتي رد فعل نفسي

ما الذي يعنيه “التساؤل الذاتي”؟ لا يُقصد به طرح المرء للأسئلة على نفسه بشكل متكرر، ولا تأنيب ضميره الذي يُلح عليه بمراجعة “خطاياه”، ولا إجراء تقييم ذاتي نفسي يقيس مستوى أدائه مقارنة بمستوى أداء الآخرين، ولا الاحتكام إلى ما نعتقد أنه يجب أن يكون قاعدة عامة؛ كإنجاب الأطفال أو النحافة أو الإنجاز في العمل أو العلاقة بين الزوجين، إلخ. 

تشير تلك التساؤلات كلها إلى ما يُعرَف بالشك النفسي، وهو ذلك الشك الذي يدفعنا إلى تساؤلات لا تنشأ بعد تفكير ناضج أو قرار طوعي ولكنه يباغتنا بشكل غير متوقع. وتقول مونيك ديفيد مينار: “تباغتنا هذه الأسئلة فجأة، وتخلق في نفوسنا معاناة لا تُطاق لكننا اعتدنا عليها بشكل أو آخر. وينبع الشك النفسي من أعماق نفوسنا، ولا ينفع العقل أو الإرادة في علاج هذه الحالة بحيث يخرج المرء من معاناته النفسية تلك”.

حتى العام الماضي، لم تكن أروى البالغة من العمر 40 عاماً، معتادة حقاً على التساؤل الذاتي: “لم يكن لديّ متسع من الوقت لذلك، فما بين أطفالي الثلاثة وزوجي والعمل، كانت حياتي مشغولة بما يكفي لدرجة أن هذا النوع من الهواجس لم يخطر ببالي ولو لثانية واحدة. وفي صباح أحد الأيام، أخبرني رئيسي عن فرصة عظيمة تتمثّل في توليتي مهمة إدارة الاتصالات الشخصية لرئيسنا التنفيذي مباشرةً. شعرت بالاختناق وقلت لنفسي: مستحيل! لا أستطيع إدارة شؤون مدير لا أشعر نحوه بالاحترام أو التقدير. لقد اعتدت ابتلاع الإهانات كل هذه السنوات في سبيل الحفاظ على راحة بالي؛ ولكن ها قد جاءت لحظة المواجهة التي لطالما حاولت تجنبها. ارتعشتُ وتساءلت بجدية عن معنى حياتي”. 

وجّهت أروى سهامها أولاً إلى بيئتها: “لقد كان كل ذلك خطأ شركتي ومدرائها المرتعشين وغير الأكِفّاء والمثيرين للشفقة، وموظفيها الخانعين الذين تسبّب جبنهم في هذا الجو المسمَّم”. ثم حان وقت جلد الذات: “كنتُ جزءاً من قطيع الموظفين الذين يعملون كالعبيد. كنتُ مجرد سمكة ذهبية في حوض السمك الذي يلهو به كيفما شاء، لقد اكتفيتُ بمشاهدة شخص متعجرف يعتدي على الجميع دون أن أفتح فمي بكلمة واحدة. إنني أستحق كل ما حدث لي في حقيقة الأمر!”.

تسفر موجة الصدمة دائماً عن تداعيات مماثلة؛ إذ نبدأ بمحاولة البحث عن الجناة المسؤولين سواء كانوا يتجسدون في أشخاص آخرين أو فينا نحن. وتعلّق الفيلسوفة والمحللة النفسية الفرنسية، آن دوفورمانتيل (Anne Dufourmantelle) على هذه النقطة، قائلة: “في الواقع، غالباً نأوي في دواخلنا جلادين لا يتورّعون عن تعذيبا”. فنحن على أتم استعداد لإدانة أنفسنا وتجريمها وإيقاعها في فخ الولاءات المتضاربة، وقد نكلفها بأداء مهمات لا نطيقها فقط لكي نُرضي أحباءنا، أو نحاول أداء مهمات نعتقد أنهم يريدون منا أن نؤديها.

التساؤل يعطينا دافعاً قوياً للحياة

في مواجهة جبل الآلام الناجم عن رغبتنا في التغيير، نفضل أحياناً الاستسلام متخيلين أن المهمة مستحيلة. وتتابع آن دوفورمانتيل: “يقول البعض لأنفسهم: ’ها أنت ترى أنك لا تمتلك الوسائل لتحقيق آمالك أو لتغيير مجرى الأمور‘. ولأن محور التساؤلات يتمركز حول التخلُّص من القيود النفسية، فإن الأمر يتطلب الكثير من القوة والشجاعة للإجابة عن هذا السؤال الجوهري: كيف نتوقف عن الربط بين ما نعتقد أنه ذواتنا الحقيقية وذلك الجانب المجهول الذي ينتظرنا؟ وهو سؤال وجيه في واقع الأمر مبني على دافع قوي للحياة”!

ويؤكد ماري جان سوريه إن هذا السؤال يوضح في الواقع ما نحن عليه فعلياً ويسهم في “استخلاص العواقب”. ولا يعني هذا بالضرورة انهيار العلاقات المهنية أو الشخصية أو إغلاق الباب بقوة في وجه الآخرين أو التغيُّر التام بزاوية 180 درجة. 

ويرى المحللون النفسيون الذين يلتمس مرضاهم مساعدتهم في فترات المعاناة التي لا تُطاق أن أي اضطراب أو أي تعديل يجب أن يكون “مستداماً طوال الوقت”، على حد وصف مونيك ديفيد مينار. وقد يمر الإنسان خلال هذه الفترات بتغيُّرات جذرية بطبيعة الحال، بالإضافة إلى إجرائه “تعديلات تقدمية وحساسة في طريقة تعامله مع نفسه وفي علاقاته مع الآخرين”، على حد قول ماري جان سوريه التي تضيف: “لكل إنسان أسلوبه الخاص، ولكلٍّ طريقته الخاصة في التعامل مع الصعوبات التي سيقابلها حتماً في هذا العالم”.

فبعد أن لاحظت أروى شعورها بالاختناق، اختارت اتباع استراتيجية تقدمية: “عندما أدركت أنني أضيّع حياتي هباءً، توصّلتُ إلى بداية إيجابية ولكنها تحمل رياح تغيير جذري، فقد قررت الاستعداد لمغادرة العمل والالتحاق بدورة تدريبية تؤهلني لأن أصبح مدرسة. لطالما حلمتُ بذلك؛ لكن والديَّ وجميع أفراد أسرتي كانوا ينظرون إليّ بنوع من الازدراء كلما عبّرتُ أمامهم عن هذه الرغبة حينما كنت ما أزال في مرحلة المراهقة. وها أنا اليوم أؤدي اختباراتي دون إبلاغ أحد في العمل بهذا السر، وقد خصصتُ درجاً في مكتبي أُخفي فيه كتبي ومذكراتي التي أحرص على مراجعتها كل يوم في وقت الغداء. قد يبدو ذلك أمراً غريباً؛ كما لو كنت أعود إلى الوراء لسنوات، وفجأة أصبح كل شيء سهلاً ويسير بشكل منطقي”.

تتصف القرارات التي يتم اتخاذها بعد طرح هذا السؤال الجوهري عن الذات بقدرتها على وضع حد لما تصفه مونيك ديفيد مينار بأنه “طريقة كارثية للتعامل مع أسباب السعادة والمعاناة في الحياة”. وعندما ننجح في مواجهة الأفكار التي تراود نفوسنا ثم نتخلى عنها، فإننا “نعيد التضامن مع هذا الجزء الأساسي من كياننا الذي كنا نغفله فيما سبق”، على حد قول آن دوفورمانتيل. سنشعر حينها بأننا أكثر حرية، ويتسع الأفق أمامنا وتشرق حياتنا فجأة.

اقرأ أيضاً: ماذا يُقصد بالحوار الداخلي؟

المحتوى محمي !!