تضيع منك أغراضك باستمرار؟ إليك السر والحل

النسيان
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ثمة نوع من الأشخاص الذين دائماً ما تجدهم منهمكين في البحث عن شيء ما أضاعوه، قد يكون هذا الشيء مفتاحاً أوهاتفاً نقالاً أو جواز سفر. فأي ثقوب سوداء يا ترى تستحوذ على أذهانهم المتشتتة إلى هذه الدرجة؟

لماذا ينسى البعض أماكن أغراضه باستمرار؟

قد يُعتبر نزوع البعض إلى إضاعة كل شيء محلّ تَنَدُّر وقد يصير مبعث إزعاج، فدون تذاكر طيران تفسد العطلة، كما أن فقدان جواز السفر في أثناء رحلة إلى الخارج من شأنه أن يحيل عطلة الأحلام إلى كابوس من الإجراءات الإدارية المعقدة، أما ضياع بطاقة البنك مساء يوم الجمعة فكفيل بتنغيص عطلة نهاية الأسبوع.

تتحدث ليزا البالغة من العمر 37 سنة عن حالتها قائلة: “صار إيقاع نسياني اليوم أبطأ مما كان عليه، فقد عانيت من هذه المشكلة طوال عمري، أما أسوأ ذكرياتي مع النسيان فتعود إلى ليلة اختبار رياضيات أيام كنت في المدرسة الإعدادية حين تركت كتاب المادّة في الفصل، ولا سبيل إلى المذاكرة دونه! لم أجد أمامي سوى والدي أتوسل إليه كي يصطحبني في ذلك الليل إلى المدرسة ونطلب من الحارس أن يفتح لنا كي نستعيد الكتاب”.

لا يكفُّ الأشخاص المحيطون بهم عن تقريعهم على السهو وقلة التنظيم بل وعدم اكتراثهم بمتطلبات الواقع كذلك. لكن الأمر خارج عن إرادتهم؛ إذ إنهم بدورهم يقفون عاجزين أمام تحديد السبب وراء “علّتهم” هذه.

النسيان: ضرورة مُلِحّة

الأشخاص ذوو الباع الطويل في تضييع الأشياء ليسوا في الواقع سوى حالات ذهبت بسهوها إلى الحد الأقصى كي تشير إلى حقيقة أن النسيان ضرورة مُلحّة؛ إذ يتم إمطارُ ذهننا في كل لحظة بوابل من المعلومات التي ينبغي التخفيف منها كي لا تفيض. و لهذا السبب “نحن نعيش بشكل مستمر داخل نوع من الضباب النفسي حيث لا تضيء أذهاننا إلا بشكل متقطع” كما يشرح مؤلف كتاب “كيف أثبت علم الأعصاب التحليل النفسي” (les neurosciences démontrent la psychanalyse)، المحلل النفسي جيرار بومييه.

إننا نمضي إذاً تسعة أعشار من حياتنا مُسَرنمين حيث لا يتحكم وعينا لا في أفعالنا ولا في ما نفكر فيه، فتجدنا نضع بطريقة آلية و مغيّبين المفاتيح في جيوبنا والهاتف في الحقيبة. لكن لمَ يكون البعض أكثر عُرضةً من الآخرين للوقوع تحت سيطرة هذه الأفعال الخارجة عن اليد؟

كيف يحمينا النسيان؟

يوضح المعالج النفسي جيرار لوفان: “كلما ألحّت على المرء الرغبة في طرد مجموعة من الأحداث الصادمة أو الأفكار المؤذية عن باله، كلما تضاءلت قدرته على التركيز، وهذا العمل غير الواعي والمرهق ينتهي بالاستحواذ على الجزء الأكبر من حالته النفسية، أو لنَقُل، حياته نفسها”. بات من الواضح الآن أننا نميل إلى تضييع كل شيء في الأوقات التي نكون فيها منشغلي التفكير وقلقين ومهمومين بأمر معين.

يكمل جيرار لوفان في هذا الصدد بقوله: “لكن من النادر أن يفقد المرء شيئاً بغض النظر عما يُمثله؛ إذ يتعلق الأمر دائماً بأغراض رمزية مرتبطة بإشكالية محددة؛ كبطاقات الهوية ومفاتيح البيت والبطاقة البنكية”. يُفشي مثل هذا الفقدان الكثير حول رغبات الفرد أو صورته عن نفسه؛ كأن يُؤوَّل:َ “وجودي أكبر من مجرد أوراق يفترض أنها تمنحني هويتي” أو “لا أشعر أني في بيتي” أو “آخر همّي هو المال”، والغريب في الأمر أن بمجرد ما ينتبه المرء إلى العلاقة القائمة بين ما يفقده وما يحصل في لاوعيه، يشرع سهوه وتشتته في الاختفاء.

كيف نمنع أشياءنا من الضياع؟

إعطاء قيمة للأغراض

نحن نمنح أولوية الاحتفاظ لما هو مهمّ بالنسبة إلينا، فكلما أوليت أهمية للرابطة العاطفية التي تجمعك بالغرَض، كلما قلّلت من فرص ضياعه. ولخلق هذه الرابطة؛ استخدم مثلاً حمّالة مفاتيح تأخذ شكل حيوانك المفضل مثلاً، أو حافظة نقود ذات ألوان زاهية، أو جيباً جميلاً لبطاقتك البنكية. أما إذا استمرت حالات الفقدان في معاودتكم، فلعلها تكون رسائل من اللاوعي ينبغي عليكم حل شيفرتها.

من أين يأتي النسيان؟

بدأت تلاحظ إضاعتك للأشياء منذ وقت ليس بالقصير؟ قد يكون ذلك بمثابة إنذار مبكر ينذر باكتئاب وشيك وتعبٍ نفسي ينبغي أخذه بجدية؛ لكن ضع في اعتبارك أن الأدوية المستعملة في علاج بعض حالات الاكتئاب والقلق قد تتسبب بدورها في اضطرابات في الذاكرة والانتباه، فهي لأجل مساعدتك على أخذ خطوة إلى الوراء، تعزز لديك أيضاً الشعور بعدم الاكتراث بمحيطك.

النسيان هو الطريق الصحيح أحياناًّ!

هل فتر شعورك القويّ بالمسؤولية فجأة وصرت مهملاً وغير مكترث؟ ربما ظهور أمارة كهذه عليك يُعدّ إشارة إلى تقدم أحرزته، فأنت بذلك بصدد التحرر من نزعتك في وضع كل الأمور تحت السيطرة، وها قد صرت أخيراً قادراً على إزاحة متطلبات الحياة الاجتماعية عن رأس أولوياتك والسماح لرغبتك الشخصية في الاستقلال بأخذ مكانها. استمر على هذا المنوال! ستعود الأمور لتتحسن شيئاً فشيئاً.

نصيحة للمحيطين

“ألم ترَ محفظة نقودي؟”، “كنت متأكداً من وضع هذا الملف في الدرج السفلي”، “كيف وصلت بطاقتي البنكية إلى الثلاجة؟”. إذا كانوا يستهلكون الكثير من الجهد والوقت في محاولاتهم الدؤوبة لإيجاد أغراضهم الضائعة، فعليكم الوقوف في وجههم وعدم السماح لهم بالتعدي على مساحتكم وتبديد أوقاتكم؛ إذ كلما استمررتم في الموافقة على المشاركة في حملات التشطيب والبحث تلك، كلما ستطالبون ببذل المزيد، وكلما نصبّوكم المسؤول الأول عن إيجاد حاجياتهم، كلما تملصوا هُم من مسؤوليتهم.

كي تُعربوا لهم عن رفضكم أخذ نسيانهم وسهوهم على عاتقكم؛ يمكنكم إهداؤهم كتباً مفيدة تتحدث عن الذاكرة وثقوبها ستقترح عليهم تقنيات للرفع من مستوى قدرات التركيز والتذكّر.

شهادة

صوفي؛ مدرسّة لغة ألمانية تبلغ من العمر35 سنة: “المال مشكلتي الكبرى!”.

“إذا لم أضيّع بطاقتي البنكية بمعدل مرتين إل ثلاث كل سنة، فإني بالتأكيد سأنسى سحب الأوراق المالية من الصرّاف الآلي. في إحدى المرات أقدمتُ على حماقةٍ كبيرة حين رميتها سهواً في مجرى للصرف الصحي، وكأني بذلك أؤكد على ما يعتقده أتباع المدرسة الفرويديّة باعتبار المال في اللاوعي والأحلام يرمز إلى القذارة. يبدو أني محكومة بتكرار مثل هذا الفعل مراراً ثم التنبه فجأةً إلى ما قمت به كما لو أني أستيقظ في كل مرة من تنويم مغناطيسي. سأكون كاذبة لو قلت أني أخذت العبرة من تلك الحادثة؛

إنها فقط تقدم شاهداً حياً على تطلعي إلى عالم حيث لا وزن يقام للمال. أجل أقرّ بهذه الرغبة، وإن كان هذا النسيان سيظل يكلفني غالياً”.

 

المحتوى محمي !!