الدور المرتقب للذكاء الاصطناعي في تعزيز الصحة النفسية

الخدمات الصحية النفسية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تخيل المستقبل هكذا؛ أن يجد أي إنسان الخدمات الصحية النفسية والعقلية المناسبة له، في الوقت الذي يناسبه، وبالتكلفة المناسبة له، وفي أي مكان جغرافي يناسبه، دون جهد أو عناء.

واقع الخدمات الصحية النفسية والعقلية

تخيل أن تجد أقل من 10 أطباء نفسيين في منتصف ملعب رياضي ضخم يضم مائة ألف شخص ينتظرون بفارغ الصبر موعدهم مع أحد هؤلاء الأطباء، تلك هي الحقيقة المرّة في نحو 120 دولة حول العالم من بينها جميع الدول العربية دون استثناء، بحسب أرقام وبيانات “منظمة الصحة العالمية” (WHO).

وبالاعتماد على نفس التقرير؛ نصف دول العالم -بغض النظر عن اقتصادها ولغتها وعدد شعبها- يتوفر فيها نحو 4 أطباء نفسيين فقط لكل مائة ألف نسمة. وأما في بعض الدول منخفضة الدخل، فقد يصل ذلك إلى أقل بكثير من طبيب نفسي واحد لكل مائة ألف نسمة.

بحسب ورقة علمية؛ معظم الاضطرابات النفسية والعقلية قابلة للعلاج، ومعظم حالات الانتحار يمكن الحيلولة دون وقوعها. مع ذلك؛ أكثر من نصف أولئك الذين يعانون من الاضطرابات النفسية والعقلية في جميع أنحاء العالم لا يتلقون العلاج!

بناءً على ما سبق؛ حدد العلماء عدداً من الأسباب التي تخلق فجوة في خدمات الصحة النفسية كما يلي:

  • وصمة العار المستمرة التي تجبر الناس على إخفاء مرضهم العقلي، أو الفشل في إدراك أنهم أو أي شخص قريب منهم يعاني من اضطراب نفسي وعقلي.
  • تنوع أعراض الاضطرابات النفسية والعقلية يصعّب في كثير الأحيان من جهود التشخيص والوصول للعلاج الأنسب؛ ما قد يعني سنيناً من العلاج دون جدوى في بعض الحالات.
  • اختلاف الآراء في بعض الأحيان حول ما يمكن وصفه اضطراباً من اضطرابات الصحة النفسية والعقلية، واحتمالية اختلاف التقديرات المنشورة حول انتشار اضطراب ما؛ ما يضعف من دقة التشخيص في بعض الحالات.
  • نقص الاستثمار الحاد وواسع النطاق في خدمات الصحة النفسية والعقلية.
  • نقص المتخصصين المؤهلين. وبالمثل؛ هناك نسب منخفضة من المتخصصين الاجتماعيين، أو حتى الممارسين الصحيين المدربين.
  • حجم المشكلة يؤخر من الاستجابة؛ بحيث تجتهد الحكومات وشركاؤها وأصحاب المصلحة من أجل اتخاذ إجراءات فعالة ومستدامة وقابلة للتطوير، وبطبيعة الحال يمكن للمريض الوصول إليها.

وإذا افترضنا توفر الخدمات الصحية النفسية والعقلية المناسبة، فالخيارات المتاحة في أغلب الدول حول العالم -إن وجدت طبعاً- هي إما العلاج بوصفة دوائية، أو العلاج بجلسات نفسية حضورية مع طبيب نفسي أو بهما معاً.

وعلى الرغم من قدرة الخدمات الصحية النفسية والعقلية على إعطاء التشخيص المناسب في أغلب الحالات، وقدرتها على وصف العلاج الدوائي المناسب، ومقدار الجرعة المناسبة، وضرورة تغييره أو استمراره بمرور الوقت؛ تبقى نسب التعافي (Recovery Percentage) من الاضطرابات النفسية متدنية، نحو 50% فقط

على سبيل المثال؛ تشير أرقام الخدمة الصحية الوطنية في المملكة المتحدة التي صدرت عام 2018، إلى أنه من بين 525 ألف شخص حصلوا على إحالة طبية واستكملوا دورة العلاج بالتحدث إلى طبيب نفسي، تعافى فقط 49.3% من الأشخاص الذين أكملوا برامج علاجية للقلق أو الاكتئاب.

وفي نفس الوقت؛ بلغ وقت الانتظار للحصول على الرعاية المناسبة لنحو 98.2% من الأشخاص، ما يقارب 18 أسبوعاً، بينما بدأ 9 من كل 10 مرضى برنامج العلاج المناسب لهم في غضون ستة أسابيع.

الذكاء الاصطناعي في خدمات الصحة النفسية

فيما يلي، نتطرق إلى مجموعة من الفوائد التي يُتوقع الحصول عليها من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة النفسية:

فوائد الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية النفسية

في مراجعة علمية بعنوان “الذكاء الاصطناعي للصحة العقلية والأمراض العقلية: نظرة عامة” (Artificial Intelligence for Mental Health and Mental Illnesses: An Overview)، تم تحليل بيانات نحو 28 دراسة علمية حول استخدامات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في خدمات الصحة النفسية، يمكننا اقتباس الآتي: “مستقبل الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية النفسية واعد”.

الحقيقة أنه باستطاعة “الذكاء الاصطناعي” المساهمة في تحليل البيانات الضخمة التي يتم جمعها من الجلسات العلاجية؛ بحيث تكمن أهميتها ودورها الأساسي في توفير تجارب مبنية حول المستفيد (User-centric) باستخدام “تعلم الآلة” (Machine Learning) التي تستطيع تحديد النمط الأنسب للعلاج.

بالإضافة إلى ذلك؛ يمكن للذكاء الاصطناعي من خلال فحص وتحليل الأنماط المتكررة في البيانات، أن يساعد مؤسسات الرعاية الصحية النفسية على تحقيق أقصى استفادة من بياناتها وأصولها ومواردها، وبذلك ترتفع الكفاءة، وتتقلص التكاليف المالية على مزود الخدمة والمستفيد، ويتحسن أداء العمل السريري والتشغيلي.

ويمكن أيضاً من خلال الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة؛ أن يتم ربط بيانات الرعاية الصحية النفسية المختلفة؛ ما يساعد في بناء منصة بيانية تفاعلية تدعم صانعي القرار الذين يقفون وراء تلك البيانات، وتسهّل من عمليات اتخاذ القرار، وجعل تنفيذ الخدمات الصحية النفسية أكثر مرونة.

مثال على الذكاء الاصطناعي في خدمات الصحة النفسية

في يناير/كانون الثاني 2020، استضافت منصة “تيدكس” (TEDx) بمدينة “ناتيك” (Natick) في ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأميركية، آندي بلاكويل (Andy Blackwell)؛ كبير مسؤولي العلوم والاستراتيجيات في شركة “آي أي إس أو ديجيتال هيلث” (IESO Digital Health) التي تتولى تقديم العلاج السلوكي المعرفي، لمرضى الخدمة الصحية الوطنية عن بُعد في أجزاء من المملكة المتحدة.

وهناك تحدّث بلاكويل عن الذكاء الاصطناعي في خدمات الصحة النفسية من خلال محاضرة بعنوان “التقاء الذكاء الاصطناعي بعلاج الصحة النفسية والعقلية” (Artificial Intelligence Meets Mental Health Therapy)؛ حيث أعطى فكرة عن استخدام فريقه للذكاء الاصطناعي في تقديم الجلسات العلاجية الكتابية لعشرات الآلاف من المرضى، وكانت النتائج مذهلة!

استطاعت “آي أي إس أو” (IESO) من خلال برنامج “ثمانية مليار عقل” (Eight Billion Minds)، أن تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحلل بيانات أكثر من 20 مليون جلسة علاجية؛ بحيث يصبح تعلم الآلة أكثر ذكاء في تحديد وقت بدء الجلسة، والأحاديث الجانبية، والتقنيات العلاجية، ونهاية الجلسة، وحتى تحديد المسار الأنسب للعلاج؛ والذي يتم تصميمه حسب الاحتياج الحقيقي لكل شخص بناءً على البيانات بشكل مشابه لما يحدث عندما تُصنّع الأدوية المستخدمة في الصحة النفسية والعقلية، مع علم مسبق بالتركيب الدوائي الفعال بداخلها؛ والذي يختلف بطبيعة الحال من شخص لآخر ومن مرحلة إلى أخرى.

بالإضافة إلى ذلك؛ ساهم الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ -حسب الأدلة التي تم استخراجها من بيانات الاستبيانات المصاحبة للجلسات العلاجية التي تقدّم عن بُعد لأكبر عدد من المستفيدين- في رفع كفاءتها وفعاليتها.

على سبيل المثال؛ في التقارير السنوية، أشارت البيانات إلى تحسّن في نسب التعافي بين المستفيدين من خدمات برنامج “ثمانية مليار عقل”؛ بحيث وصلت لنحو 60%.

وفي الحقيقة؛ بعض من النتائج السابقة لم يكن مفاجئاً، ففي دراسة بحثية من كلية الطب بجامعة ستانفورد،قسم الطب النفسي والعلوم السلوكية عام 2017، وجد العلماء أن استخدام الذكاء الاصطناعي لتقديم العلاج المعرفي السلوكي من خلال برنامج للمحادثة كان مجدياً وجذاباً وفعّالاً.

في الختام؛ لا يزال مجال استخدام البيانات والذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية بحاجة لكثير من الشراكات البناءة التي تتطلب جهداً مضاعفاً من الأطباء النفسيين، ومحللي البيانات الضخمة، ومهندسي الذكاء الاصطناعي، والمشرّعين، ومختصي الأخلاقيات الصحية، والمستثمرين، وكثير من الأموال الطائلة والحلول المبتكرة، حتى تستطيع الدول توفير الخدمات الصحية النفسية والعقلية المناسبة لكل شخص في الوقت الذي يناسبه، والتكلفة المناسبة له، وفي أي مكان جغرافي يناسبه دون جهد أو عناء منه.

المحتوى محمي !!