كيف يؤثر الحضور الغائب للنساء في عالَم مُصمَّم للرجال في صحتهن النفسية؟

الحضور الغائب للنساء
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تزيد احتمالية إصابة النساء بجروح خطيرة بنسبة 47% عند التعرُّض لحوادث الطرق مقارنة بالرجال، ويميل برنامج التعرُّف إلى الكلام من “جوجل” إلى التعرُّف بنسبة 70% بدقة أكثر على كلام الذكور مقارنة بالإناث. ما هو أثر الحضور الغائب للنساء في عالم قد يكون مصمماً للرجال على صحتهن النفسية؟
كذلك، فقد يصعب التعرُّف إلى المشكلات الصحية؛ مثل أمراض القلب، لدى النساء لأن أعراضها ليست “نموذجية”، وتختلف عن تلك التي يختبرها الرجال.

إن الأمر ليس بشكاوى فردية؛ بل مجموعة من التصميمات في مجالات مختلفة اتخذت الرجال نموذجاً لبناء قوالب لا تتناسب في كثير من الأحيان مع احتياجات النساء، وبالتالي؛ أغفلت احتياجاتهن الحقيقية، وعرّضت حياتهن للخطر.

عالَم مُصمَّم للرجال

في كتابها بعنوان “النساء غير المرئيات: الكشف عن التحيُّز في البيانات في عالَم مُصمَّم للرجال” (Invisible Women: Exposing Data Bias in a World Designed for Men)، أوردت الصحفية والناشطة البريطانية؛ كارولين بيريز، عدة نماذج موثُّقة من الحياة اليومية للكشف عن التحيُّز ضد المرأة في عالم مُصمَّم للرجال؛ الأمر الذي يمكن أن يهدد حياة النساء في بعض الحالات.

من مجرّد معاناتها من الوصول إلى رف علوي تم تصميمه بناءً على متوسط طول الذكور، إلى الاصطدام بسيارة لا تتخذ اختبارات سلامتها قياسات النساء في الحسبان؛ توضح بيريز معاناة المرأة في عدة مجالات، مشيرةً إلى بداية تلك المشكلة منذ عصر الإنسان الصيّاد، حينما اتُّخِذت حياة الرجال مثالاً لتمثيل حياة البشر عموماً، والصمت في المقابل حول الجنس الآخر.

الأمر الذي ترتّب عليه وجود فجوة في البيانات بين الجنسين في مجالات مثل الأدب، والعلوم، وتخطيط المدن، وكذلك الاقتصاد.

بيئة عمل غير مريحة

تقول المؤلفة أن لذلك الصمت وتلك الفجوة عواقب عدّة، فهي تؤثّر في حياة المرأة اليومية؛ حتى لو كان ذلك التأثير طفيفاً نسبياً، فهو لا يزال مهمّاً وضرورياً للبحث.

على سبيل المثال؛ يتم تحديد درجة حرارة المكتب القياسية في بيئة العمل؛ والتي تم ضبطها في الستينيات، حول معدَّل الراحة الأيضي للرجل العادي.

في حين أوضحت دراسة هولندية من قسم البيولوجيا البشرية بجامعة ماستريخت؛ أن معدل التمثيل الغذائي للإناث البالغات اللاتي يقمن بأعمال مكتبية خفيفة، أقل بكثير من معدلات الرجال الذين يقومون بنفس النشاط؛ ما يعني أن الدرجة التي يتم ضبط درجة حرارة المكتب عليها تزيد عن معدل أيض الإناث بنسبة تصل إلى 35%؛ أي أن درجات المكاتب الحالية شديدة البرودة بالنسبة لهن ​بخمس درجات مئوية في المتوسط.

ذلك الأمر ليس غير عادل فحسب؛ بل يؤثر في كفاءة وإنتاجية المرأة في تلك البيئة غير المريحة للعمل.

أدوات وأجهزة مصمَّمَة لتناسب الرجال

ذكر الكتاب أنه في عام 1998، كتب عازف البيانو “كريستوفر دونيسون” أنه يمكن للمرء أن يُقسِّم العالم إلى كتلتين تقريباً: أصحاب الأيدي الكبيرة والأيدي الصغيرة؛ واصفاً معاناته مع استخدام لوحات المفاتيح التقليدية كعازف ذكر ذو يدين أصغر من المتوسط.

تشير المؤلفة إلى أن هناك الكثير من البيانات التي تُظهر أن النساء لديهن أيدي أصغر في المتوسط، ومع ذلك؛ يتم تصميم المعدّات بناءً على متوسط حجم يد الذكور، كما لو كان مقاس واحد يناسب الرجال هو نفسه مقاس واحد يناسب الجميع.

يشمل الأمر أيضاً الهواتف الذكية؛ حيث يبلغ متوسط حجم الهاتف الذكي الآن 5.5 بوصة. في حين أن الرجل العادي يمكن أن يستخدم الجهاز بيد واحدة بشكل مريح إلى حد ما، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للمرأة مع الهاتف ذاته.

أما عن تقنية التعرُّف إلى الصوت، فهي أيضاً متحيّزة للذكور. في عام 2016، وجدت راتشيل تاتمان؛ الباحثة في علوم اللغة بجامعة واشنطن، أن برنامج التعرّف إلى الكلام من “جوجل” (Google) يميل إلى التعرف بنسبة 70% بدقة أكثر على كلام الذكور.

وفي حين تهدف برامج التعرف إلى الصوت في السيارات إلى تقليل الانحرافات وجعل القيادة أكثر أماناً؛ إلا أن مشلكة التحيُّز طالتها أيضاً.

أشار أحد المقالات على موقع السيارات “أوتو بلوغ” (Autoblog) إلى أن امرأة اشترت سيارة “فورد فوكس 2012” (Ford Focus)، لتجد أن نظام الأوامر الصوتية الخاص بها يستمع إلى زوجها فقط، على الرغم من أنه كان في مقعد الراكب.

كيف تتعرّض حياة النساء للخطر على الطرق؟

في حين قد تبدو المشكلات السابقة “غير باهظة الثمن”؛ تأتي المشكلة الأكبر في صناعة السيارات والتي تحتاج من الشركات المُصنِّعة وضع أمرين مهمّين في الاعتبار: كيف يتم تصميم السيارة؟ ولمن هي مُصمَّمة؟

في كتاب حول حوادث الطرق، وفعالية تقنيات حماية الركاب المسنين والنساء؛ يوضّح المؤلف تشارلز كهانا أن الرجال أكثر عُرضة لحوادث الطرق من النساء؛ ما يعني زيادة أعداد إصاباتهم بجروح خطيرة.

ولكن عندما تتعرض امرأة لحادث سيارة؛ تزيد احتمالية إصابتها بجروح خطيرة بنسبة 47%، وإصابات متوسطة بنسبة 71%، كما أنها تكون أكثر عرضة للوفاة بنسبة 17%.

كذلك؛ تميل النساء إلى الجلوس إلى الأمام أكثر عند القيادة حتى تكون أرجلهن أقرب للوصول إلى الدوّاسات، لأنهن أقصر في المتوسط؛ ما ينتج عنه اختلاف في زاوية الركبتين والفخذين النموذجين، وتكون الأرجل أضعف حين تصل إلى الدوّاسات.

تحتاج النساء أيضاً إلى الجلوس أكثر استقامة للحصول على رؤية أوضح لما فوق لوحة القيادة: تلك الوضعية ليست المُثلى، فيقعون ضحايا للإصابة في الاصطدامات الأمامية. علاوة على ذلك، فالنساء أكثر عرضةً لخطر الاصطدامات من الخلف لامتلاكهن عضلات أقل في العنق والجذع العلوي؛ ما يزيد من احتمالية إصابتهن بنحو ثلاث مرات – بحسب بحث منشور في موقع (Gendered Innovations).

الحاجة إلى دمى اختبار تصادم إناث

تنتج كل تلك الحالات من أمر واحد؛ تصميم السيارات باستخدام دمى اختبار تصادم على أساس الذكر “المتوسط”؛ والتي تم تصميمها لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي.

ويبلغ طول الدمية الأكثر استخداماً 1.77 متراً ووزنها 76 كيلوغراماً؛ ما يعني أنها أطول وأثقل بكثير من المرأة المتوسطة. تحتوي الدمية أيضاً على نسب كتلة عضلية ذكورية، وعمود فقري ذكري.

كذلك تم بناء السيارات بحيث تتم محاذاة عجلة القيادة، والوسائد الهوائية، ومساند الرأس، وأحزمة الأمان بطريقة تجعل الشخص الذي يبلغ وزنه في المتوسط ​​197 رطلاً، مع هيكل فقري ذكر وتوزيع عضلي محدد، محمياً جيداً؛ لكن الأمر يختلف بالنسبة للنساء ذوي القياسات المختلفة.

على الرغم من وجود بعض الجهود لإدراج دمية أنثوية في اختبارات القيادة؛ فإن هذه الدمية ليست أنثى حقاً؛ إنها مجرد دمية ذكر مصغَّرة، والنساء لديهن توزيع كتلة عضلي مختلف، وكثافة عظام أقل، بالإضافة إلى وجود اختلافات في تباعد الفقرات.

كل ذلك يجب وضعه في الحسبان عندما يتعلق الأمر بمعدلات الإصابات والوفيات في حوادث السيارات.

تهميش المرأة في البحث العلمي

في مجال مهم كالبحث العلمي، ودراسة الأمراض وتحديد العلاجات وفقاً لها؛ يُعد تهميش النساء واتخاذ الذكور كنماذج أمراً شديد الخطورة أيضاً.

يتمثّل تهميش النساء في البحث العلمي في التحيّز في إجراء الأبحاث على الذكور، فدراسات الألم الكلاسيكية والعلاجات لا تنطبق كلها على النساء. ولما كانت أعراض بعض الأمراض وآلامها مختلفة بين الجنسين؛ قد يصعب إدراك الألم عند النساء؛ وبالتالي لا يتم تقديم العلاج المناسب في الوقت المناسب.

على سبيل المثال؛ عدم القدرة على التشخيص الصحيح لأمراض القلب لدى النساء لاختلاف أعراضها عن تلك “النموذجية” التي تصيب الرجال، تجعلهن أكثر عرضة سبع مرات للتشخيص الخاطئ عند الإصابة بنوبة قلبية، والخروج من المستشفى وهي لا زالت مستمرّة؛ ما قد تنتج عنه عواقب وخيمة – وفقاً لدراسة نُشرت في مجلة نيو إنغلاند الطبية.

الآثار النفسية لعدم المساواة بين الجنسين

يؤثّر ذلك التحيّز سلباً في الصحة النفسية للمرأة؛ حيث تشمل بعض الآثار النفسية له مستويات أعلى من التوتر، والقلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

وفقاً لمقال نُشر عام 2020 من معهد أبحاث كلية البنات بتورنتو؛ يفوق عدد النساء المصابات بأمراض عقلية عدد الرجال بما يصل إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف.

كذلك، تقع النساء ضحايا لاضطراب القلق العام، والهلع، والاكتئاب خلال حياتهن بنسبة تصل إلى ضِعف أعداد الذكور، كما يكنّ أكثر احتمالية للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، وأكثر عُرضة لمحاولة الانتحار.

بالإضافة إلى ذلك، يُعرِّض التمييز الجنسي النساء إلى العديد من عوامل الخطر المتعلقة بحالات الصحة العقلية؛ بما في ذلك الإجهاد المزمن، والصورة السلبية عن الذات، والصدمات.

وجدت دراسة متعددة الثقافات في عام 2015 أنه عبر 48 دولة، كان لدى الرجال تقديراً أعلى لذواتهم مقارنةً بالنساء. ويشير الباحثون إلى أن أحد أسباب ذلك هو التأثُّر بالقوالب النمطية التي توضع بها المرأة.

مقاس واحد لا يناسب الجميع

في حين قد تكون مقولة “مقاس واحد يناسب الجميع” (One size fits all) مُجدية في بعض الأمور؛ إلا أن أموراً قد تودي بحياة الأشخاص لا تناسبها تلك الفكرة؛ بل وقد تستحيل في بعض الأحيان تهميشاً مُمَنهجاً في ظل وجود دراسات وأبحاث تبرز أضرار ذلك.

المحتوى محمي !!