الحب والزواج: أيهما يبني الآخر؟

الحب والزواج
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وَهْمٌ مختلط بالمعاناة، ونشوةٌ وشغف وسمو يصيب القلب والعقل، هكذا هي بدايات الحب الذي يصفونه بالأعمى؛ لكن هل يتحتَّم عليها بالضرورة أن تُفضي إلى نهاية تراجيدية؟ ليس بالضرورة!

تيتوس وبرينيس، روميو وجولييت، هيلواز وأبيلار، لِمَ اقترن الحب دائماً بالنهايات المأساوية؟ ولِمَ يصفه العقل الجمعي على اعتباره معاناة وفخاً يتعين على الإنسان الحَذِق تفادي الوقوع فيهما؟ للحب مرادفات عديدة أحدها العشق، والعشق (passion) كلمة مشتقة من (pathos) ومفادها “المعاناة”، وفي هذا ربما جواب عن كل أسئلتنا السابقة.

في رائعتها المعنونة “هواجس موجعة يُسبِّبها الحب” (Les Angoysses douloureuses qui procèdent d’amours)، تحكي مارغريت بيريه (Marguerite Briet) تحت اسمها المستعار إيليزيين دو كرين (Hélisenne de Crenne)، عن العلاقة القلقة والصاخبة التي تجمع بين عاشقين يتناوبان على السرد من خلال وصف العذابات التي تلاقي كلاً منهما، فالعاشقة ضحية “شهوة حسيّة تتأججّ رغم أنفها”، والعاشق “ولهان” سقط صريع حُبّ المرأة منذ النظرة الأولى فهو رهين عينيها وعبثاً يحاول الفكاك.

تؤكد عالمة النفس أنيك هويل (Annik Houel) أن: “ما يقلب حال المرء رأساً على عقب هو الوقوع في الغرام من النظرة الأولى. في المحبّة مثلاً نحن نمتلك القدرة على إبصار عيوب الآخر؛ لكن ليس في الحب الذي يجعلنا بتعبير ستاندال: “نُلبس الآخر دونما وجه حقّ، كل فضيلة!”. ولهذا حين ينكسر الوهم، وندرك أن الآخر ليس الشخص الذي نزَّهناه عن كل مَنْقصة، يتهاوى كل شيء بقوة.

ما يذكرنا برواية “غرام سوان” (Un amour de Swann) للكاتب مارسيل بروست (Marcel Proust)، حين يقول سوان الذي بدأت تتفتح عيناه ليبصر الحقيقة: “تمنيتُ الموت، فالحبّ العظيم الذي بذلته بسخاءٍ كان في النهاية لأجل امرأة لا تروقني وليست من أنشد”. في الموضوع ذاته يقول وسام البالغ من العمر 40 سنة والذي لم يستفق بعد من أثر صفعة قوية وجهتها له زوجته السابقة وما عاد يؤمن بالحب على إثرها: “ثلاث سنوات كان عمر هذه العلاقة المُستَنزِفة، المليئة بالكثير من الاعتمادية وتقلّبات الحال والنرجسية وخيبة الأمل، تركتني زوجتي بعد أن أجَهضت ابننا، ظننت أني سأموت كمداً”. إنه تعلّق مدمّر؛ هذا الحب الذي يتسبب في خراب الطرفين ويُعجّل بنهايتهِ، إن لم يكن نهايتهما معاً!

الرجال من الأرض والنساء كذلك!

تلطف أنيك هويل من حدّة الأمر بقولها: “يحصل أحياناً أن نبدأ بالتفاوض مع أنفسنا والتنازل عن بعض الأوهام التي ألصقناها بالآخر، كي تنجح علاقتنا مع الشخص الذي اخترناه دوناً عن بقية الناس”. وعلاقة زواج جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) وفيليب سولرز (Philippe Sollers) مثال صريح على ذلك؛ إذ لا بد لهذه النشوة المُبهجة المتأججة غير المفهومة مِنْ غروب؛ غروب من شأنه أن يطول بطول العلاقة ولا شيء بوسعه أن يَمُدّ في عمره غير الرابطة الجسدية التي تربط الطرف بالآخر.

توضح المحللة النفسية كريستيان ألبيرتي (Christiane Alberti) بقولها: “حين يجانب الحب التخيلات المثالية، فنحن نصاب دائماً بخيبة أمل. لكن حين نبني علاقة حقيقية لا نسعى فيها إلى تحويل الآخر لنسخةٍ منا أو شخصٍ مُنزه عن كل عيب؛ حينها تصير العلاقة ممكنة وواقعية بالمعنى اللاكانيّ (نسبةً إلى جاك لاكان) للكلمة أي أنها تدوم. وإذا كنا نُعَبِّر عن الحب عبر الكلام فإن الجسم، برغباته، يقول كلمته أيضاً ويعترف بهذا الحب.

وإذا كان البعضُ، ولا سيما الرجال، يميلون إلى إنكار الحب ويجدون صعوبة في تقلبّه، فلأنه يُحيي داخلهم شعوراً أنثوياً يضعهم في وضعية هشّة؛ وضعية احتياج ونقص. وحين أطلق جاك لاكان (Jacques Lacan) مقولته الشّهيرة: “لا وجود لشيء اسمه علاقة جنسية” فهو لم يكن يعني أن الرجال والنساء بمنأىً عن هذا الشغف الجنسي؛ بل أراد إيصال عكس ذلك بين السطور أي أن أحدهما في محاولة تقرّب لا تتوقف من الآخر.

توضح كريستيان ألبيرتي هذه النقطة أكثر: “العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ليست مبرمجة ليُكَمِّلا بعضهما بعضاً، فهما يتطوران بطرق مختلفة لكن ما يجمع بينهما هو الرغبة في أن يكونا مفهُومَين. وحين يحصل هذا الانسجام والفهم تتكوّن العلاقة. ورغم أننا نزعم فيما يشبه الإجماع أن الرجال ميّالون إلى الاستيهامات، فيهيمون عشقاً بتفصيل محدد؛ بنظرة أو لون بشرة أو فستان، وأن النساء في المقابل يجدن متعةً أكثر في الحبّ نفسه أكثر من الاستمتاع بجسد الآخر؛ لكننا لو خرجنا من هذه الإطارين اللذين يُحجّمان من كيان الرجل والمرأة، فحينها فقط سيكون الاستمرار في بناء العلاقة ممكناً”. وهكذا يظلّ كلّ من الرجل والمرأة كالأواني المستطرقة؛ يصبّ كل منهما بتوازن الحبّ في الآخر فيظل التلاقي بينهما مستمراً للأبد.

اقرأ أيضا:

الحب: ولادة مستمرة ومتكررة

يخرج كل طرف من قوقعة ذاته ليستكشف الغموض الذي يلف الآخر؛ غموض قد لا يكون في عمقه سوى وسيلة للهرب من مواجهة غموض الذات نفسها. يوضح المحلل النفسي رولاند غوري في كتابه اللافت “منطق الحب” (Logique des passions) بقوله: “يهيم العاشق كي لا يعرف أي شيء” ونكمل بتصرف: كي لا يعرف بشكل لا واعٍ أي شيء عن نفسه، ولا يضطر إلى “اكتشاف نفسه كأنه شخص آخر” ولذلك يقوم “بصبّ اهتمامه بالآخر”. لكن بتسخير نفسه لرفع الغطاء عن غموض الآخر، فقد يحصل أن يعيد ربط الاتصال برغباته الشخصية المدفونة؛ تلك التي ظن أنه تخلص منها قرباناً للنضج والاندماج مع هذا العالم. نفضل في أغلب الأحيان ذاك الآخر الذي يمهد لنا الطريق نحو الأحلام السرية للطفل الذي كُنَّاه والذي أُجِْبرنا على التنكّر له، وعلى حدّ تعبير المحلل النفسي: “الطفل الذي يعيش داخلنا بلا توقف”، فهذا الطفل الحي الميت، المُجهَض أو المفقود، مَنْ يا تُرى أفضل من الحبّ سيشفي غليل الحنين إليه؟

يعيد هذا الحب في مرحلة أولى تفكيك الكيان البشري حدّ التخبط؛ ما يخوّل للمرء الوصول إلى استنتاج مفاده أن الآخرَ سيبقى آخر غريباً عنا للأبد، أما نحن فلن نعود كما كُنّا؛ لم نعد الشخص الذي ظننا أننا خبرناه طوال الحياة؛ الشخص الذي صار من حقه الآن ألا يتقبّل مصيره ومن حقه أن يمدّ يده ليستعيد حقيقته التي حاول دائماً إغراقها في بحر النسيان. بيَد الآخر، وبشكل غير مقصود، أن يفتح الباب لنعبر نحو هذا كله.

تحكي بيان التي لطالما استهوَتْها كتابة المسرحيات منذ الطفولة، أنها بمجرد ما اندلعت شرارة الحب بينها وبين زوجها حصلت على حقوق قصّة تعجبها منذ زمن وأنجزت نصاً مسرحياً مقتبَساً منها وجدَ على الفور مُخْرِجاً متحمّساً لإخراجه إلى النور. “لا أعرف كيف ولا لماذا صار لوسام هذا التأثير الإيجابي فيّ. هو حرّ كطائر، ومعه بدأت أنا بدوري أشعر أني قوية ولا أحمل همّاً لشيء”. وهذا مفهوم، فكما تؤكد كريستيان ألبيرتي” “لا نصير نفكر مثل الآخر إلا إذا كان التلاقي معه مستمراً ولم ينقطع”، فحين يكشف لنا أجزاء مجهولة عنا، هو بذلك يحوّلنا.

تحكي آني إيرنو (Annie Ernaux) في كتابها “الحب البسيط” (Passion simple): “قال لي ’لن تنشري كتاباً عنّي’ لكني لم أكتب عنه ولا عنّي. أنا فقط حوّلت ما منحني إياه وُجوده إلى كلمات؛ إنه نوع من رد الجميل!”. هذا هو الحبّ؛ سدّ منيع بين شجن أننا وُلدنا، ويقين أننا سنواجه نهاية الحياة لوحدنا.

اقرأ أيضا:

جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) وفيليب سولرز (Philippe Sollers): اللقاء الأبدي

انطلقت شرارة الحب بين الروائية والمحللة النفسية والكاتب في باريس سنة 1966، تزوّجا بعدها بسنة وظلّا منذ ذلك الحين يحبان بعضهما. هذا حوار مع جوليا كرستيفا وفيليب سولير؛ الزوجان اللذان يلفهما السّحر والغموض واللذان يكشفان عن بعض ملامح هذه العلاقة في هذا النص المؤثر والذكي.

  1. كيف تُعرفان الحبّ؟
  2. في كتابكما، تتحدثان عن حبكما المشبوب مثل اللقاء بين طفلين. ماذا تقصدان بذلك؟
  3. ما مدى أهمية استقلال أحدكما عن الآخر في العلاقة؟

جوليا كرستيفا: “لقد نمَّيْنا قدرتنا على البدء من جديد”

  1. لا تعريف لدي للحب؛ لا أجيد وضع تعريفات مختصرة لأنها تحُدّ ما لا ينبغي له أن يُحدّ. تنصُب كلمة “الحب” الفخ منذ البداية، بجعلكَ تقعُ فيه أي تحويلك في النهاية إلى ضحية. الحب حدث يحصل في الجسد واللغة، يقضي البعض عشر سنوات في التحليل النفسي ليفهم من هو ومن الآخر، ثم فيما بعد يشرعون في تحويل حياتهما عملاً فنياً، وهذا ما فعلناه أنا وفيليب منذ لقائنا الأول الذي أعتبره لم يتوقف لحد الساعة.
  2. حياتَيّ الفكرية والعاطفية تأسستا على محاولة دؤوبة لاستعادة جوّ الطفولة؛ تلك المرحلة المليئة بزخم المشاعر والفضول، وقد تناولها فرويد كثيراً في كتاباته. الطفل بطبعه مُستكشف؛ باحث في مختبر. وما حاولنا بناءه بيننا أنا وفيليب استلهمناه من هذه البراءة الشديدة التي تكتسي الجسد الطفولي. لو كُتب لذِكْر علاقة الحب التي بيننا أن يستمر مع الزمن، فلأننا نمَّيْنا القدرة على الولادة من جديد؛ الانبعاث في كل مرة من رماد كلّ موتٍ مررنا به.
  3. أجل لكن الاستقلالية لا تُسقِط أهمية بذل الدعم. هذا الدعم المتبادل يظهر من خلال الجسد والرغبة والتفكير والأخذ والرد والوجود المحسوس. في زمننا هذا نعاني من شُحّ رابطة الحب. يحاول البعض سدّ هذا النقص بالمال ما يُسبب لهم أزمة مالية، أو بالتعصب الفكري أو الديني الذي يقودهم إلى الأصولية، وفي النهاية تحصل التراجيديا. “سيموت الرجل، ستموت المرأة، كلٌّ منهما على حدة” تستشرف: “يخبروننا أن هذا ما سيحصل، وهذه الحقيقة التي ينبغي التعامل معها. أما أنا وفيليب، فنعتقد أنه ليس من الضرورة أن ينتهي كلّ من الرجل والمرأة منعزلاً عن الآخر؛ نحن نرى إمكانية حديث أبدي متجدد بينهما”.

فيليب سولير “الحب: أن تعيش داخل قصيدة”

  1. الحب؟ إنه إرادة الحياة حين تنتصر رغم كل الصعوبات؛ ما يسمح للكائن البشري بالاستمرار في الوجود. لا بد هنا من التمييز بين الحب المُرْضِي “الإيجابي” والحُبّ المَرَضيّ “السلبيّ”. فالحُب عاطفة إيجابية، وحتى إن كنا نعيش اليوم في عالم مشحون بالحوادث السلبية، فينبغي أن نتمسك به كخيار للعيش. الحب هو الحياة الكامنة في الشّعر وهي “جنة الحبّ الطفولي الخضراء”.
  2. ثمة حرب محتدمة بين الرجال والنساء؛ هذا أمر ليس بالوسع إنكاره لكنها حرب تتخللها هُدنات واحتفالات بوسعنا مشاطرتها. تنطوي الطفولة على الضحك؛ ضحكٌ بلا مقابل، وبوسع الضحك أن يوقف الحرب التي يتعارك فيها الرجال والنساء منذ فجر الخليقة. وأستشهد هنا ببيت بودلير (Baudelaire) الشّعري: “العبقريّة هي الطفولة المستعادة قصداً”. الأشخاص الراشدون هم أطفالٌ مع وقت التنفيذ ولن تُنكر جوليا، لو سألتموها، أني أجعلها تضحك وكثيراً. نعيش علاقتنا كما لو نلعب؛ نتحدث حول كل شيء؛ حول قراءاتنا، وحتى الأحداث الرهيبة حين نتحدث منها فإننا نحوّلها ملهاة مُضحكة. إنه ضحك جامح و حُرّ.
  3. أما بخصوص المال فلا شيء يفوقُ نفاقاً في هذا المجتمع الذي نعيش فيه من العلاقات المالية بين شخصين في علاقة عاطفية. يتحاشيان إثارة هذا الموضوع، ويستمر كل منهما في تدبر أموره لوحده. كل شيء مزيف؛ حتى الحديث بينهما يصير مُزيّفاً. في الاعتمادية والسيطرة والاستغلال والخضوع، يكمن وينتعش الكذب؛ لا في التطرق للمسائل العاطفية والنفسية. في الوضوح تكمن الحرية، وهذا أمر بالغ الأهمية. حين نتخذّ الحب والزواج فنّاً من الفنون الجميلة، فالمال ليس مركز العلاقة.

اقرأ أيضا:

المحتوى محمي !!