ما الذي تكشفه لنا تصرفاتنا الخرقاء؟

التصرفات الخرقاء
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما تكون بطل ذلك المشهد الشهير الذي تصطدم فيه بعمود وينكسر أنفك، فإنك تشعر بالخجل؛ لكن بمجرد أن تصبح متفرجاً على المشهد ذاته فإنك تضحك حتى البكاء! إن هذه التصرفات الخرقاء النادرة أو المتواترة، تثير الانزعاج أو السخرية أو الفرجة؛ لكنّها تكشف أولاً وقبل كل شيء جانباً من شخصياتنا. فهل تمثل إذاً حركاتنا الفاشلة أفعالنا الناقصة؟

  • الحماقة
  • إنها مسألة تعلّم
  • أمراض الطفولة
  • الحماقة رغبة في ترك الأمور لحالها
  • الحبّ الأخرق
  • أين يكمن الخلل؟

الحماقة

من منّا لم يسبق له أن لوى كاحله على سلم، أو سكب كأس قهوته أو كسر صحناً؟ جُلّنا عاش هذا الأمر، ومع ذلك، فإذا طلبتَ ممّن حولك استحضار هذه العادة المزعجة التي قد تظهر في كسر كل شيء تحمله، أو إيذاء قدمي الشخص الذي ترقص معه مثلاً، فقلّة هم أولئك الذين سيعترفون بأنهم يرتكبون الحماقات.

يقول فيليب بغينو؛ الطبيب النفسي وعالم الأنثروبولوجيا (الذي يعمل أيضاً مديراً لقسم علم الجنس في جامعة باريس الخامسة، وهو مؤلف كتاب “الجنس والحب” du Sexe et l’amour): “التصرفات الخرقاء تقلّل من شأن الفرد اجتماعياً، فهي تنطوي في دلالتها على بعث رسائل معينة، وعلى أن الشخص الذي يرتكبها يتصرّف وفقاً لثقافته”. لقد عانى تيم؛ البالغ من العمر 44 سنة، بشدة من هذا التهميش الاجتماعي عندما وُلدت ابنته. يقول تيري: “عندما كنت أحملها، كنت أشعر وكأنني أحمل طرداً بين ذراعي. إلى أن نطقَتْ، شعرت بأنني أخرق، وغير قادر على حمل طفل. كنت خائفاً من أن يلومني طفلي، وقد عشت قلة خبرتي وكأنها فشل شخصي”.

إنها مسألة تعلّم

التصرف بشكل أخرق أمر موجود فقط في نظرات الآخرين. إنهم أول من يكشف لنا ذلك، فعندما يكون المرء وحده في غياب ملاحظات الآخرين، فإن صاحب هذا النوع من التصرفات سيعيش مشكلةَ تواضع كفاءته دون أن تزعجه. تقول سوسن البالغة من العمر 35 عاماً: “إنهم يلقّبونني بغاستون” (غاستون لاغاف اسم شخصية من شخصيات القصص المصورة المعروفة بحماقاتها). ومنذ نعومة أظافرها، حاول مختصو تقويم النطق وجراحة العظام تحسين أوضاع هذه الفتاة العسراء المنزعجة دون جدوى. تقول عن مشكلتها: “أصطدم بكل شيء، وأطأ على أقدام الآخرين، وأُسقط كلّ ما أحمله بيدي على الرغم من أنني أركّز، خاصة خارج المنزل، لأنني أعلم أنني خرقاء، ولطالما عاتبتني والدتي على ذلك”.

أصحاب هذه التصرفات الخرقاء الذين يعيشون مشاهد حياتهم على طريقة الممثل الأميركي الكوميدي باستر كيتون عن غير قصد، يصلون إلى حدّ الشّك في أن حماقتهم مرض وُلد معهم. والحقيقة أن حماقتهم هي فقط نتيجة لسوء التعلّم النفسي الحركي الذي تلقّوه، ففي الواقع؛ إننا نبدأ منذ سن مبكرة في إتقان المهارات من خلال استكشاف كل ما يمرّ تحت أعيننا أو أيدينا أو أقدامنا. فهل سيصبح أطفال اليوم؛ والذين يعيشون في بيئة متطلّبة باستمرار، ماهرين جدّاً فيما بعد؟ يشكّ المعالج النفسي الحركي بيير دالارون في ذلك قائلاً: “أولئك الذين يظلون قابعين أمام التلفاز وألعاب الفيديو، يطوّرون مهارةً تقتصر على التصرّف بالإصبع والعين؛ ولكنها لا تشمل الجسم كله.

ولا يأخذ الكثيرون منهم الوقت الكافي لتكرار حركة ما من أجل ضبطها، فيصابون بالإحباط ويتجاوزون ذلك إلى شيء آخر”، والحال أنه لكي تكون حركة ما مثالية، فإنها يجب أن تصبح تلقائية.

أمراض الطفولة

يمكن للحضور المفرط لبعض العواطف خلال فترة التربية أن يعيق أيضاً اكتساب المهارة، وهكذا فإن بعض الآباء والأمهات المتشوقين لرؤية طفلهم مثلاً يقشّر تفاحةً بشكل صحيح، سيُعيقونه من خلال رد فعلهم القاسي، ويشجعون بذلك تعلّمه بطريقة غير كُفؤة. وفي مرحلة البلوغ؛ ستعود صورة الوالد القاسي عندما يحين وقت حمل السكين مجدّداً لتقشير التفاحة. “وعلى غرار ذلك؛ إذا صاحب الإحساس بالعار أو الخجل حركات المغازلة الأولى لشابٍ، فسيواجه صعوبةً في تخيّل نفسه يتحدّث إلى امرأة دون أن يرتكب حماقة ما، لأن صورته الذاتية ستكون اهتزت منذ بداية التّعلم” حسب تفسير فيليب بْغينو.

في حالات أخرى؛ يمكن أن تكون الصدمات الأكثر إيلاماً مصدراً لنقص دائم في المهارة. تفتقر سوسن للثقة في النفس بعد أن كانت ضحية حادثة تحرش من قبل أحد أقربائها في سن السادسة، ويولّد غياب الثقة بالنفس لديها تصرفات خرقاء، خصوصاً أنها امرأة نشيطة ومتسرعة. فعندما يعجز اللسان عن البوح، يعبر الجسد عن نفسه قدر استطاعته، وعندما يعيد الجسد الاتصال بمشاعرَ قويّة جداً بالنسبة له، فإنه يفقد السيطرة. فاتن -على سبيل المثال- امرأة بارعة جدّاً في كل مناحي الحياة، إلّا عندما تذهب إلى منزل والديها؛ أي إلى منزل العائلة حيث كانت تقضي إجازتها في الطفولة. تقول فاتن عن ذلك “في كل مرة كنت أؤذي نفسي؛ أصدم رأسي بباب خزانة أو أسقط في الحديقة أو أتعرض للوخز بأشواك الورد … قد يكون الألم شديداً لدرجة أنني أبكي! فأدركت أنني عندما أزور بيت العائلة أصبح في وضع طفل يحتاج إلى العناية به، ولا داعي للقول بأنني لن أحصل على ذلك في سن الخمسين. كل ما أحصل عليه من والديّ هو ضحكاتهما! لكن أليست هذه طريقةً لجذب الانتباه وتذكيرهما بأنني موجودة؟”.

وتعني الحماقة أخيراً صعوبة التكيّف مع موقف معيّن. تقول نور؛ أو السيدة الكارثة البالغة من العمر 31 سنة: “أن تعيش معي يعني أن تسمع “أوه” عدة مرات في اليوم، فخلال المواقف الدقيقة -كعشاء رسمي أو اجتماع– أنهض من مكاني بتكتّم… وإذا بي أسحب مفرش المائدة ورائي، أو أقهقه وأنا أشرب! وإذا تعثّرت، فإن سروالي سيتمزّق بالتأكيد …” هل تفعل ذلك عن قصد -كما أصبحت تعتقد- من كثرة سماع ذلك من أقاربها؟ تعترف ناتالي قائلة: “أحياناً أؤذي نفسي حقّاً وكأنني أهاجم نفسي لأتوارى”.

وعلى الرغم من أن الحماقات غير معتادة بالنسبة لنا؛ فإنها تظلّ منطقية. لقد تسبّبت جوى؛ البالغة من العمر 35 عاماً، في التواء كاحلها أثناء نزولها على الدرج عندما كانت تفكر كيف ستخبر زميلتين لها في العمل بالحادثة التي ألمّت بإحداهما، ومرض السّرطان الذي تم تشخيصه عند الثانية بشكل متزامن. كانت تتساءل هل تخبرهما أم لا؟ وبأي أسلوب ستفعل ذلك؟ فشغل هذا التردّد ذهنها كثيراً لدرجة أنها فقدت توازنها. وتذكر جوى عن هذا الحادث: “أشار لي طبيب حكيم أنني كنت تائهةً، ولم أكن أعرف ما الذي ينبغي فعله!”.

الحماقة رغبة في ترك الأمور لحالها

يوضّح بيير دالارون المقصود من “أن تكون ماهراً” بقوله: “يعني تطوير قدرة على الحضور للذّات وللآخرين ولكلّ ما قد يطرأ في مجال إدراكنا”. وهذا الأمر ليس ميزةً للأذكياء والحالمين الذين يحضرون في أغلب الأحيان ذهنياً أكثر من حضورهم جسدياً، “فالعالم الخيالي الذي يرتبط غالباً بالطفولة، يحميهم من واقع لا يريدونه أو لا يستطيعون العيش فيه”. وعندما يواجهونه رغماً عنهم، فإنهم يحاولون الاحتماء منه عبر سلوك غير لائق.

إن هذا الأخرق أو المهرج الذي يكسر دائماً أنفه وهو يصطدم بعمود النور، هو نفسه الشخص الذي لا يرغب أيّ منّا في التخييم معه؛ لكننا ننسى أن هذا الأخرق يلهمنا أيضاً بالتعاطف! إنه نقيض البطل، والذي يلمس قلوبنا بضعفه. ويسمح له شعاره الدائم “السخافة لا تقتل”، بالانتقال من الشعور بالعار إلى خلق فكاهة المهرجين، وتحويل الانزعاج إلى مُسحة من الّلطافة. ولذلك يمكننا أن نتعلّم مثله عدم تهويل الفشل، وسواء كان لدينا نقص في البراعة في المهام التي نحتقرها، أو تلك التي نودّ أن ننجح فيها، فيالها من سعادة أن نتخلّص من طموحنا لإتقان كل شيء! فنحن في كل الأحوال لسنا آلات.

الحبّ الأخرق

حسب مختصي العلاج الجنسي، فإن النساء على الخصوص هن من تشتكين من نقص مهارة الرجل في هذا المجال. تقول إحداهن عن زوجها: “إنه لا يعرف كيف يداعب”، “إنه يتصرف بشكل مباشر”، فهل هي مسألة تقنية؟. يوضّح فيليب بغينو أن الأمر “لا يتعلّق بتعلّم لمسات الحب؛ بل باكتساب الشهوانية. فمن الناحية الفيزيولوجية؛ يعبّر الرجل عن أحاسيس جسدية أقل من المرأة، وبالتالي فإن الأزواج غير القادرين على إدراك ملذّات المداعبة لن يميلوا إليها. وينطبق الأمر نفسه على المرأة التي تمارس الجنس فقط لإرضاء الرجل، فإذا لم تكن هذه الممارسة تمثل متعة لها قبل كل شيء، فإنها ستبتعد عنها في النهاية”.

إن الانتباه إلى ما نشعر به يتيح الوصول إلى الانسجام بين الزوجين بمساعدة المعالج المختص أو من دونه. وفي انتظار ذلك، فإن فيليب بغينو يمتدح “خُرْق الجنس” ويقول عنهم: “إنهم بالتأكيد أكثر العشاق إخلاصاً؛ أولئك الذين لديهم أكبر قدر من المشاعر”!

أين يكمن الخلل؟

النظر؟

“لم أره!”. غالباً ما يعتذر الأخرق بهذه العبارة عن عجزه البصري؛ لكن تركيزه على مُدركاته البصرية لن يجنّبه الاصطدامات، فهو يعاني في الواقع أيضاً من ضعف الحساسية الحركية؛ والتي ندين لها بإدراك حركاتنا، ووضعية وضغط عضلاتنا، ومن هنا تأتي في بعض الأحيان حركاتنا المباغتة للغاية.

التوازن؟

في بعض الأحيان يضطرب الشعور بالتوازن، ويحدث الميل لجهة دون أخرى من الجسم، فلدينا جميعاً جانب واحد يهيمن -الأيمن أو الأيسر- عندما نحرّك العين أو اليد أو القدم. وكمثال على هذا الاضطراب؛ بعض تلاميذ المدارس الذين يرجعون دفاترهم إلى المعلمين في حالة متّسخة، لأنهم يكتبون باليد اليمنى الموجّهة بالعين اليسرى.

الوزن؟

يفتقر الأخرق أيضاً للوعي بمحيطه، ويجد صعوبةً في مَوضعَة جسده في الفضاء. ويميل الأشخاص المعرّضون لإعادة تدوير الوزن -أو ما يُعرف بتأثير اليويو- إلى الاصطدامات بسبب عدم تقديرهم المضبوط لحجم أجسامهم.

لكن لنبقى مطمئنّين، فالمهارة يمكن أن تُطوّر. ويكمن الحل المثالي في ممارسة رياضة جماعية نتدرب فيها على التحكّم بالأشياء (الكرة أو المضرب أو السيف وغير ذلك)، ويكون علينا أن نتحرّك ونتنقّل بشكل مناسب في الفضاء، وأن نتموضع حسب موقع الرفيق أو الخصم، وأن نصوّب بدقة، كما نحفّز من خلالها جهود تكيّف الجسم مع المفاجآت، وتبقى هذه الرياضة الجماعية أفضل من رمي السّهام أو لعبة الكرة الحديدية.

المحتوى محمي !!