ما هو التعلق العاطفي المرضي؟ وكيف تتحرّر من العلاقات السامة؟

التعلق العاطفي المرضي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: التعلق العاطفي بطبيعته صحي للغاية، وهو جزء من عملية التطوّر البشري؛ إذ يحصل الفرد جرّاء الارتباط العاطفي على مشاعر إيجابية مثل الشعور بالأمان والحماية والانتماء والراحة. من جهة أخرى، يمكن أن يكون غير صحي تماماً وهو ما يُعرف بالتعلق العاطفي المرضي. إنه حالة تمكن ملاحظتها بسهولة من خلال تشخيص أعراضها التي من شأنها أن توضّح الفرق بين التعلق والحب. يمكن أن تكون معالجة هذه الأنماط من خلال العلاج النفسي أو أشكال الدعم والمساعدة الذاتية الأخرى خطوة مهمة في تعزيز النمو الشخصي وتطوير علاقات أكثر إرضاءً. لذلك، سواء كنت تعاني من مشكلات التعلق العاطفي المرضي أو تريد أن تفهم من تحب بشكل أفضل، استمرّ في القراءة لمعرفة المزيد.
هل شعرت يوماً أنك لا تستطيع نسيان شخصٍ أو التخلي عن ذكريات تجربة عاطفية مررت بها، على الرغم من أنك تعلم ما يسببه ذلك من ضرر أو أذى؟ هذا أول عرض نموذجي يصف حالة التعلق العاطفي المرضي. إنه فخّ يقع فيه معظمنا غالباً، وبخاصة في سياق العلاقات الشخصية والمواقف التي تجلب لنا الكثير من الراحة والأمان والألفة. ولكن عندما يصبح تعلّقنا أشبه بالهوس، فإنه يستهلكنا بالكامل ليبدأ معه تدهور حالة العافية النفسية؛ حيث يمكن أن تتأثّر نوعية حياتنا بشكل عام ونفقد قدرتنا على اتخاذ قرارات صحية وعقلانية.

ويعرّف الاستشاري في مجال التنمية والتطوير، عماد المصري التعلق المرضي على أنه حالة عاطفية يتعرّض لها الشخص في فترة معينة من حياته، ويكون ناتجاً من اضطرابات أصابته في مرحلة مبكّرة في حياته مع الأسرة أو المدرسة، أو بسبب حالة انفعالية ظهرت فجأة في موقف معين.

في هذا المقال، سوف نتعمّق في الأنماط المختلفة للتعلق العاطفي المرضي ونستكشف سبب حدوثها والعلامات الدالة على وجودها لدى الشخص. والأهم من ذلك؛ سنتعرّف إلى طرائق التغلب عليها.

ما هو التعلق العاطفي المرضي وما علاماته؟

ابتكر الطبيب والمحلّل النفسي البريطاني جون بوبي (John Bowlby) نظرية التعلق (Attachment Theory) في الخمسينيات من القرن الماضي، ويشرح فيها كيف أن العلاقة المبكرة مع الأبوين تؤثر في قدرتنا على تكوين علاقات صحية والحفاظ عليها طوال حياتنا. وتقترح النظرية أن جودة تجارب التعلق في الطفولة تؤثّر في معتقداتنا حول أنفسنا والآخرين والعالم؛ ما يؤثّر بدوره في كيفية ارتباطنا بالآخرين كبالغين، وقد أسهم باحثون آخرون في زيادة تطوير هذه النظرية.

أما التعلق العاطفي المرضي، فيشير عادةً إلى أنماط التعلق السلبية أو غير الآمنة بحيث يعتمد الشخص على الآخرين بشكل غير صحي لتلبية احتياجاته العاطفية والنفسية. ويمكن أن يظهر التعلّق غير الصحي في مرحلة الطفولة نتيجة الرعاية غير الكافية من قِبل أحد الأبوين أو كليهما، أو نتيجة تجارب مؤلمة أخرى مثل سوء المعاملة أو الإهمال أو الهجر. ويمكن أن يضرّ هذا النوع من الارتباط بصحة الشخص النفسية، ويهدّد استقراره وأمانه.

ووفقاً للخبراء من سايك سنترال (Psych Central)؛ تتمثّل العلامات التي تدل إلى أن الشخص يعيش في علاقة يعاني فيها من التعلق العاطفي المرضي في التالي:

  • الشعور بالمسؤولية عن سعادة الشخص الآخر.
  • الحاجة المستمرّة إلى التأييد والموافقة من الطرف الآخر.
  • الخوف من الهجر أو الوحدة.
  • الاعتماد على الشخص الآخر للحصول على الدعم العاطفي أو أي نوعٍ آخر من الدعم.
  • صعوبة وضع الحدود وقول “لا”.
  • التضحية بالقِيم أو الاحتياجات الشخصية للحفاظ على العلاقة.
  • الشعور بالذنب أو الخجل بخصوص الاحتياجات أو الرغبات الشخصية.
  • عدم الثقة في الطرف الآخر.
  • صعوبة التواصل والتعبير عن المشاعر في العلاقة.
  • الانخراط في سلوكيات التدمير الذاتي (Self-sabotage) استجابةً لضغوط العلاقة.

تشير هذه الخصائص في العلاقة إلى وجود أسلوب ارتباط غير صحي، وقد تؤدّي إلى ضائقة عاطفية وصراعات في العلاقات وصعوبات في تكوين روابط صحية مستقبلاً.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تعلُّق الطفل الآمن وغير الآمن بالأم في سلوكه؟

ما الفرق بين التعلق العاطفي المرضي والحب؟

تنطوي العلاقات الاعتمادية غالباً على ارتباط غير صحي؛ حيث تتميّز بانعدام الحدود، والتركيز على احتياجات الشريك واستبعاد الاحتياجات الذاتية. وبينما يمكن أن تنطوي العلاقة ذاتها على الحب والتعلق المرضي في آنٍ معاً، فمن المهم التعرّف إلى الفرق بينهما والسعي إلى تحقيق توازن صحي. وحسب رأي الخبراء من سايك سنترال:

  • الحب هو شعور إيجابي يظهر في الاهتمام بشخص آخر ودعمه واحترامه دون أن يفقد الفرد إحساسه بذاته؛ إذ يقوم الحب على الثقة والاحترام المتبادلَين، ويسمح للشريكَين كليهما بالنمو والتطوّر كفردَين مستقلَّين.
  • أما التعلق العاطفي المَرضي أو السلبي، فهو نمط من التشبّث والاحتياج والاعتماد على شخص آخر، ويمكن أن يؤدّي إلى التضحية باحتياجات الشخص ورغباته من أجل إرضاء الشخص الآخر أو احتوائه؛ حيث تتكوّن مشاعر الخوف والقلق عندما لا يكون الطرف الآخر حاضراً أو متجاوباً.

وللتعمّق أكثر في تلك الفروقات؛ نذكر دراسة أُجريت في سنة 2020 من قبل الباحثة من قسم العلوم النفسية بجامعة ميسوري الأميركية ساندرا لانجيسلاغ (Sandra Langeslag)، والباحث من معهد علم النفس بجامعة ليدن في هولندا هينك شتينبيرغن (Henk Steenbergen)، شارك فيها 83 شاباً ادّعوا أنهم واقعون في الحب.

وأوضحت نتائج الدراسة الفرق بين التعلق العاطفي والحب والافتتان، فالأخير بحسب الدراسة هو شعور مستهلَك للغاية؛ يزدهر بسرعة وقوة في بداية العلاقة، ويمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً وتصاحبه مشاعر مثل القلق والنشوة والعصبية، في حين أن التعلق العاطفي الإيجابي هو شعور يتطوّر تدريجياً وتُرافقه مشاعر الهدوء والراحة والسعادة. أما الحب، فهو حالة مزدوجة من مشاعر الافتتان والتعلق وتُرافقه علامات مثل سرعة ضربات القلب والرغبة في حماية الشريك، مع الشعور بالنشوة والقلق.

ويشرح مستشار العلاج النفسي وعلاج الإدمان وتنمية المهارات الذاتية والبشرية المصري، أحمد هارون (Ahmed Haroun) إن هناك تدرّجات قد تسبق الوصول إلى مرحلة التعلق العاطفي المرضي بين الرجل والمرأة عند بعض الأشخاص؛ وهي كالتالي: الارتياح والإعجاب (وهو واحد من التشوهات المعرفية لدى أغلب الناس)، ثم الحب، والعشق، وصولاً إلى مرحلة التعلق المرضي الذي يكون أقرب إلى حالة الهوس بحبّ الطرف الآخر؛ حيث تسيطر فكرة الحب على الشخص المهووس وتعطّله فلا يستطيع إنجاز شيءٍ بسببها وتتكرّر في ذهنه فلا يستطيع إيقافها، وهي حالة مرضية ليست لها علاقة بمفهوم الحب الحقيقي.

أنماط التعلق العاطفي

يحدث التعلق العاطفي لدى كلٍّ من الكبار والصغار على حدٍّ سواء، ويوضّح الخبراء من منصة بيتر هيلب (Better Help) أنماط التعلق العاطفي في ضوء الأنماط الأربعة التالية:

الأول: التعلق العاطفي الرافض (Dismissive)

في مرحلة الطفولة، إذا لم يُظهر الوالدان أي عاطفة تجاه أطفالهما فغالباً سيطوّر الأطفال ما يُسمى بالتعلق العاطفي الرافض؛ وهو نمط من التعلق عند الطفل يتّسم بنظرته الإيجابية تجاه نفسه والسلبية تجاه الآخرين، فهو يشعر أنه مستحق للحب لكنه يكون غير قادرٍ في الوقت ذاته على الثقة بالآخرين للحصول على الحب والدعم منهم، لذا يتجنّب العلاقات العاطفية في المستقبل.

الثاني: التعلق العاطفي الجبان (Fearful)

إذا لم تُلبَّ احتياجات الشخص الجسدية والعاطفية في مرحلة الطفولة بشكل إيجابي، فقد يؤدّي ذلك إلى تطوير التعلق العاطفي الجبان أو القلِق. وقد ثبت أنّ معظم الأشخاص الذي لديه هذا النوع من التعلق العاطفي، قد تعرض لخوف وإساءة معاملة وإهمال في مرحلة الطفولة، ويتميز هذا النمط بتكوين نظرة سلبية عن الذات والآخرين.

الثالث: التعلق العاطفي المُنهمك (Preoccupied)

إذا تلقى الشخص رعايةً غير متوازنة أو غير منتظمة من والديه في مرحلة الطفولة؛ بحيث يكونان محبَّين ودافئَين حيناً وبعيدَين وقاسيَين حيناً آخر، فقد تظهر لديه أعراض التعلق العاطفي المُنهمك الذي يتّسم بتطوير الشخص لنظرة سلبية تجاه نفسه وإيجابية تجاه الآخرين.

كشخص بالغ؛ سيشعر صاحب هذا النمط بالقلق حيال استمرار حب شريك حياته له أو غيرته عليه، وسيكون لديه شعورٌ بأن خطأً واحداً من قِبله يمكن أن يؤدّي إلى إنهاء شريك حياته للعلاقة بأكملها؛ كما يمكن أن يشعر بعدم استحقاقه للحب والدعم من الشريك أو الأصدقاء والعائلة.

الرابع: التعلق العاطفي الآمن (Secure)

إذا تلقى الطفل رعاية متوازنة ومشاعر دافئة من والديه بشكل ثابت، فإنه يطوّر فيما بعد نمط التعلق العاطفي الآمن؛ وهو نمط يتسم فيه الشخص بنظرة إيجابية إلى نفسه والآخرين.

كيف تخرج من نمط التعلق العاطفي المرضي؟

إذا ظهر نمط من أنماط التعلق غير الصحي عند شخص ما بسبب صدمة أو طفولة صعبة، فإن التحدّث إلى معالج ومختص مؤهل هو أول خطوة يجب اتخاذها للتغلّب على هذه المشكلة. يستخدم المتخصصون في الغالب العلاج المعرفي السلوكي (CBT) لمساعدة الشخص على تعديل طريقة تفكيره وتغيير طريقته المتَّبعة في علاقاته مع الآخرين، لتطوير سلوكيات أكثر إيجابية واستقراراً.

ويوصي خبراء سايك سنترال بالخضوع للعلاج المركز عاطفياً (EFT) كذلك؛ وهو من العلاجات قصيرة المدة التي تهدف إلى التغلّب على العديد من المشكلات كمشكلة التعلق غير الصحي، وينصحون أيضاً بإنهاء العلاقة تماماً إذا كانت من العلاقات السامة التي تُظهر أسوأ ما في شخصيات الطرفين.

3 خطوات نحو التحرّر من مشكلات التعلق

أما الكاتبة ومختصة علم النفس السريري ليزا فايرستون (Lisa Firestone)، فتقترح 3 طرائق لكي يتمكن الشخص الذي يعاني من مشكلات التعلق من بدء رحلة التعافي؛ ونلخّصها كالآتي:

  1. اخلق سرداً متماسكاً: من أجل التحرّر من الارتباطات العاطفية المتوتّرة؛ من المهم فهم التجارب السابقة ومعالجتها لأن المفتاح لإصلاح أنماط التعلّق وتطوير الأمن الداخلي هو “السرد المتماسك” لتجاربنا. من خلال التفكير في ماضيك وكيف يشكّل حاضرك؛ يمكنك تغيير حياتك وعلاقاتك وأنماط التعلّق التي تنقلها إلى أطفالك، وتساعد هذه العملية على حلّ الصدمات وتحاوز التجارب المؤلمة في حياتك.
  2. اختر شريكاً لديه نمط تعلّق صحي: تتمثّل إحدى طرائق تطوير أسلوب تعلّق أكثر أماناً في تكوين علاقة مع شخص لديه نمط تعلق صحي والحفاظ على تلك العلاقة على المدى الطويل. يمكن أن يوفّر هذا نموذجاً جديداً لكيفية عمل العلاقات ويساعد على تطوير الأمان الداخلي، فإذا نشأت مع والد غير متاح عاطفياً بشكل دائم، وعانيت من القلق أو عدم اليقين أو الغيرة في علاقاتك مع البالغين، فإن بناء علاقة مع شخص هادئ و ثابت يمكن أن يساعدك على اكتساب الأمان.
  3. اطلب العلاج: فالعلاج هو طريقة فعّالة لتطوير أسلوب التعلق الآمن. في علاقة العلاج الجيدة، يوفر المعالج قاعدة آمنة لتجربة عاطفية تصحيحية تسمح لك تكوين ارتباط آمن معه. فمن خلال العلاج، يمكنك أن تتعلم فهم قصتك وتجربة الدعم العاطفي الذي ربما فقدته في الطفولة؛ إذ يمكن أن يفيد هذا في النهاية كل مجال من مجالات حياتك.

اقرأ أيضاً: كيف تفرق بين الحب الحقيقي والحب العابر؟

يُعتبر التعلق جزءاً طبيعياً من أي علاقة إنسانية، وهو ركيزة أساسية في البنيان النفسي والعاطفي البشري. ولذلك تأثيرات إيجابية في النمو والتوازن؛ لكن التعلق العاطفي المرضي يمكن أن يقضي على إمكانية حصول ذلك، فإذا لاحظت بعض العلامات التي تدل إلى وجود نمط من أنماط التعلق العاطفي المرضي لديك أو لدى الأشخاص من حولك، فإن أول خطوة يجب عليك القيام بها هي طلب المساعدة والدعم من المتخصصين، أو البدء بأولى خطواتك نحو التعافي من خلال المساعدة الذاتية.

المحتوى محمي !!