هل النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية أداة تسويقية؟

النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية
النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يُعد الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية و العقلية (DSM) الذي نشرته الجمعية الأميركية للطب النفسي، الأداة التشخيصية الأكثر استخداماً في العالم في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك فإن النسخة الأخيرة المنشورة منه، وهي النسخة الخامسة، تحتوي على الكثير من الأخطاء الجسيمة التي تثير الالتباس إلى درجة أن الأطباء النفسيين ومحرري النسخ السابقة ومختصي التحليل النفسي، كانوا قد حذروا من أن نشر هذه النسخة من الدليل سيؤدي إلى أخطاء تشخيصية، والأهم من ذلك إلى استخدام العقاقير استخداماً خطيراً ومفرطاً.
“يقولون في الإعلانات التجارية التلفزية إن حياة الناس أصبحت أفضل بسبب تناول مضادات الاكتئاب!”، قالت هذه العبارة أمّ مصابة بالاكتئاب في مشهد من فيلم “تأثيرات جانبية” (Side Effects) للمخرج ستيفن سودربرغ (Steven Soderbergh) الذي صوّر فيه الاستخدام المحموم للمؤثرات العقلية في الولايات المتحدة الأميركية حيث يبتلع كبار المدراء التنفيذيين مضادات القلق كقطع الحلوى؛ كما سلّط الضوء على الشركات المصنِّعة لهذه العقاقير وسعيها لترويجها بغية تحقيق أكبر قدر من الربحية.

يعطي بطل الفيلم، وهو طبيب نفسي، أحد أدوية حاصرات مستقبلات بيتا لصديقته التي كانت تشعر بالتوتر بعد إجراء مقابلة عمل مع إحدى الشركات، ويقول لها: “هذا الدواء لا يجعلكِ شخصاً آخر بل يساعدكِ لتكوني على طبيعتكِ”.

لكن هل يا تُرى تعكس هذه الصورة التي قدمها الفيلم الواقع فعلاً؟ هل ضربتْ صناعة الأدوية النفسية عُرض الحائط بأساسيات العلاج والتحليل النفسي؟ يرى المثقفون والأطباء النفسيون في أميركا وأوروبا أن الإجابة هي “نعم” مع الأسف، ويلقون باللوم في ذلك على النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية.

النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي قائمة حافلة باضطرابات جديدة

كيف يبدو الإصدار الخامس من الدليل التشخيصي؟ يقول الطبيب والمعالج النفسي الأميركي إيرفين يالوم (Irvin Yalom) ساخراً: “يبدو وكأنه قائمة أطعمة في مطعم صيني!”. إنه ليس أكثر من قائمة “اضطرابات” محددة بالأعراض ومرقمة بحيث يمكن للأطباء ومسؤولي النظام الصحي إدخال رموزها في البرمجيات الإدارية واستعادة هذه الرموز عند الحاجة بدلاً عن البحث عن الاضطراب بالاسم.

كانت النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي قد صدرت في الولايات المتحدة الأميركية في مايو/أيار 2013، وصدرت نسخته الفرنسية بتاريخ 17 يونيو/ حزيران 2015، ويقول الطبيب النفسي أنطوان بيليسولو (Antoine Pelissolo)، الذي شارك في الترجمة الفرنسية للنسخة الرابعة من الدليل التشخيصي: “إنه أداة ثمينة فهو يسمح للباحثين والمختصين السريريين بالتحدث بلغة مشتركة لا سيما في مجال الأبحاث؛ إذ يمكننا تسمية الموضوعات التي نعمل عليها وتحديدها ومناقشتها وتبادل الآراء حولها مع علماء من مختلَف البلدان والثقافات ومن ثم طلب الحصول على تمويل لهذه الأبحاث”.

النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي كارثة حقيقية!

يؤكد المحررون والأطباء النفسيون الذين أشرفوا على النسخة الرابعة من الدليل التشخيصي؛ كالأستاذ الأميركي ألين ج.فرانسيس (Allen J. Frances)، أن الإصدار الخامس منه هو كارثة بكل ما تعنيه الكلمة.

ويؤيد هذا الرأي الفيلسوف ومؤرخ الطب النفسي ميكيل بورش جاكوبسن (Mikkel Borch-Jacobsen) إذ يقول: “تضمَّن الإصدار الأول من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية 106 اضطرابات فقط وبدأت المشكلات مع الإصدار الثالث الذي يرفض بصورة قاطعة أياً من مراجع التحليل النفسي؛ إذ ارتفع عدد الاضطرابات المدرَجة فيه إلى 265 اضطراباً، ومنذ ذلك الحين أخذت قائمة الاضطرابات المدرَجة تطول أكثر فأكثر، وبعضها لا وجود له من الأساس بل وُضع بناءً على مجموعات من الأعراض فقط دون الأخذ بالاعتبار أن ثمة الكثير من الأعراض المشتركة بين الاضطرابات النفسية. وعلى ما يبدو أن معامل تصنيع الأدوية النفسية قد نجحت في “اختراق” مجموعات خبراء الجمعية الأميركية للطب النفسي المسؤولة عن نشر الدليل التشخيصي، وساهمت في اقتراح إضافة اضطرابات جديدة بغية تصريف أدوية معينة تعتزم طرحها في الأسواق”.

في أحدث إصداراته، أضاف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية عواطف مثل الغضب أو التوتر أو الحسرة إلى تسمياته، والسؤال هنا: ماذا سيحدث إذا شُخصت الحالات العاطفية على أنها اضطرابات نفسية؟ سيصف الأطباء لمرضاهم الأدوية المصنعة كيميائياً، ويقنعونهم بأن هذه الأدوية ستكون كفيلةً بالقضاء على أي مشكلة نفسية يعانون منها، ويوضح مختص الطب والتحليل النفسي باتريك لاندمان (Patrick Landman) قائلاً: “في العام الماضي، استخدم نحو 20% من الفرنسيين الأدوية النفسية”.

اخترنا فيما يلي خمسةً من الأعراض الجديدة التي أُضيفت إلى النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي، وحللها المتخصصون ميكيل بورش جاكوبسن (Mikkel Borch-Jacobsen) وموريس كوركوس (Maurice Corcos) وكريستوفر لين (Christopher Lane) لصالح موقع بسيكولوجي (Psychologies).

استمرار شعور الحزن المرافق للفجيعة لأكثر من شهرين دلالة على الإصابة بنوبة اكتئاب كبرى

بحسب النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي؛ يجب أن يتعافى الفرد من آثار الفجيعة خلال 60 يوماً كما يوضح مؤلف أحد الأبحاث المرجعية حول هذا الموضوع، كريستوفر لين، أما عدم التعافي بعد انقضاء هذه المدة فيشير إلى أنه يعاني على الأرجح نوبة اكتئاب كبرى.

ووفقاً للمختص في طب نفس الأطفال في معهد مينتسوريس (Montsouris) بباريس، فإن هذه المدة كانت 3 أشهر في النسخة الثالثة من الدليل وقُلصت الآن إلى شهرين فقط؛ كما أن هذه المعايير لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الشخصية لكل فرد وهو عيب لا يمكن التغاضي عنه، حتى أن المجلة العلمية الطبية البريطانية ذا لانسيت (The Lancet ) كانت قد نددت بهذا التشخيص.

من المعروف أن فترة الحداد تتضمن حالةً من التأمل الذاتي تتيح للمفجوع إحياء ذكرى المتوفى والإبقاء على ارتباط معين معه، وإذا قوطعت هذه العملية عبر تناول مضادات الاكتئاب فإن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الأعراض الجسدية والنفسية. يبدو الأمر بمجمله في الحقيقة عمليةً تسويقيةً تهدف إلى دعم صناعة الأدوية النفسية لأن الأطباء العامين سيصفون دواءً مضاداً للاكتئاب لكل شخص ما زال مكتئباً بعد مرور شهرين على فجيعته، و هو الرأي ذاته الذي ذهب إليه ميكيل بورش جاكوبسن؛ إذ رأى أن النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي هي بمثابة “هدية” لمعامل تصنيع الأدوية النفسية.

الغضب الشديد عند الطفل دلالة على إصابته باضطراب المزاج الانفجاري

وفقاً للنسخة الخامسة من الدليل التشخيصي؛ يُعد الطفل مصاباً باضطراب المزاج الانفجاري إذا عانى أكثر من 3 نوبات غضب خلال الأسبوع واستمرت هذه النوبات لأكثر من 12 أسبوعاً. ويعتقد موريس كوركوس أن هذا الاضطراب غير موجود، وما هو إلا مفهوم نظري لأنه لا يتوافق مع البيانات الميدانية الموثوقة التي تمر بعدة مراحل من التقييم كما هو متَّبع.

ويندرج هذا التشخيص تحت منطق الطب الوقائي؛ إذ يريد واضعو النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي ربط فرط الانفعال في مرحلة الطفولة بالاضطرابات المزاجية في مرحلة المراهقة التي قد تؤدي إلى اضطراب ثنائي القطب في مرحلة البلوغ، ومن ثم تأكيد فكرة الصلة بين المراحل الثلاث في حياة الفرد، والتعامل مع المشكلة قبل أن تظهر، وحتى إن لم تظهر مطلقاً، وبهذه الصورة سيُشخَّص الكثير من الأطفال والمراهقين بهذا الاضطراب.

الخجل دلالة على الإصابة بالرهاب الاجتماعي

على سبيل المثال إذا كنتَ لا تفضل استخدام المراحيض العامة فأنت مضطرب نفسياً! يُعلق موريس كوركوس قائلاً: “الخجل مفهوم نسبي تماماً؛ مثلاً يختلف مفهوم الخجل في الولايات المتحدة الأميركية عما هو عليه في اليابان حيث تعد السلوكيات الانسحابية شائعةً هناك، ولذلك فإن واضعي النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي لا يأخذون في الاعتبار الاختلافات التاريخية والثقافية والاجتماعية بين دولة وأخرى. وبدلاً عن اللجوء إلى العلاجات الدوائية فإنه من الأفضل أن نحاول معرفة محفزات الخجل الداخلية لدى الفرد وتشجيعه على التحدث إلى معالج نفسي”. ويستدرك ساخراً: “لكن لا شك أن كتابة وصفة دوائية أسهل من كل ذلك”.

التشتت والتشوش الذهني دلالة على الإصابة باضطراب عصبي معرفي بسيط

مع التقدم في السن تصبح ذاكرة الإنسان أكثر انتقائية لذا فقد ينسى مواعيده مثلاً أو تلتبس عليه الاتجاهات في الشارع، ويوضح ميكيل بورش جاكوبسن أن الشركات تحاول بيع الأدوية لهذه الفئة من الأشخاص وذلك على الرغم من أنهم لا يعانون من داء ألزهايمر تحت مسمى “الوقاية” منه.

ومن جهته يرى موريس كوركوس أن هذا الأسلوب في الكشف المبكر عن الخرف وعلاجه بسرعة هو جزء من التركيز على ثقافة أداء الأفراد أكثر من صحتهم. ما الفئات المستهدَفة هنا؟ كبار السن أولاً بالتأكيد، إضافةً إلى الشباب الذين يعانون من التشتت الذهني، وهو أمر خطير جداً لأنه يفتح الباب أمام وصف الأدوية النفسية دون إجراء دراسة معمقة للحالة.

الرغبة في جمع المقتنيات دلالة على الإصابة باضطراب الاكتناز القهري

هل تجد صعوبةً أحياناً في التحرك ضمن منزلك لأنك ترفض بيع الأثاث الذي ورثته أو التخلي عنه؟ يشير ذلك وفقاً للنسخة الخامسة من الدليل التشخيصي إلى أنك مصاب باضطراب الاكتناز القهري. . يوضح الطبيب النفسي أنطوان بيليسولو (Antoine Pelissolo)، الذي يدافع عن إضافة هذا الاضطراب في النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي، أنه لنقول إن الشخص مصاب باضطراب الاكتناز القهري فيجب أن تكون الأغراض مكدسةً في منزله إلى درجة عدم قدرته على التحرك فيه.

ولكن بعض زملائه من المختصين يعترضون على هذا الكلام ويذكّروننا بالازدحام الذي تنطوي عليه ظروف الإقامة في الكثير من المدن الكبرى وضيق المساحات المتاحة عموماً، ويقول ميكيل بورش جاكوبسن: “تخيل شخصاً مسناً يعيش في شقة صغيرة جداً”. أما موريس كوركوس فهو يعارض بشدة قائلاً: “هل يُعقل أن يكون كل أولئك الذين تفيض خزائنهم وغرفهم بالمقتنيات مرضى نفسيين؟ بالتأكيد لا، فتكديس المقتنيات بهذا الشكل قد يكون محاولةً من الفرد للتعامل مع حالة حداد أو فقد يمر بها من خلال الاحتفاظ بالذكريات المرتبطة بها، الأمر الذي لم تفهمه الجمعية الأميركية للطب النفسي على ما يبدو. إن اعتبار أولئك الذين يجدون نوعاً من الرضا في الحنين إلى الماضي مرضى نفسيين يعني تجاهل أهمية الوقت، وهو بالضبط ما ينطوي عليه الإصدار الأخير من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية، فهو يتجاهل أهمية الوقت الذي يحتاجه الإنسان لتجاوز ألمه؛ وكأن كل ما يجب أن يركز عليه هو حاضره وأداؤه وكفاءته”.

ويختتم موريس كوركوس قائلاً: “من خلال النظر إلى الحياة بهذه الطريقة لن يتمكن الأطباء من علاج المرضى بل وأرى أنهم سيُفاقمون معاناتهم”.

اقرأ أيضاً: الأمراض العقلية بين الأعراض والأسباب وطرق العلاج.

المحتوى محمي !!