هل يمكننا العيش دون كذب؟ إليك الإجابة

العيش دون كذب
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على الرغم من أننا نطمح إلى التحلي بالصدق لنكون موضع ثقة الآخرين فإننا نقع في كثير من الأحيان في فخ الكذب، فما الذي يجعل العيش دون كذب مستحيلاً؟ وهل يمكن التخلص من هذا السلوك؟
أُصيب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) بحالة من الذهول عندما وقعت يداه على نص بعنوان “ردود الأفعال السياسية” (Des réactions politiques) وهو نص يؤكد فيه الكاتب والسياسي الفرنسي بنجامين كونستانت (Benjamin Constant)، أنه يمكن للكذب أن يكون مشروعاً تماماً بل واجباً في بعض الأحيان. وجاء في ما كتب: “لا يستحق الجميع سماع الحقيقة؛ بل فقط أولئك الذين يحترمونني هم الجديرون بها”. ظهر هذا النص في فرنسا في عام 1797 تزامناً مع نهاية عهد الإرهاب الذي أسسه ماكسيمليان روبسبير (Maximilien Robespierre)، وكان الكثير من المشتبه بهم قد نجا من تلك الحقبة المظلمة باستخدام الخداع والمراوغة والإنكار وهذا ما كان يشير إليه بنجامين كونستانت في كلامه.

لكن الأمر مختلف بالنسبة لفيلسوف الأخلاق إيمانويل كانط فهو لا يجيز أي استثناءات ويرى الكذب فعلاً مذموماً في جميع الأحوال. يقول كانط في كتابه “أسس ميتافيزيقيا الأخلاق” (Foundations of the metaphysics of morals): “الكذب يجعل صاحبه حقيراً في أعين الآخرين، ومن يكذب يرتكب جريمةً في حق نفسه”. دعونا نتساءل: هل يجوز للإنسان أن يسلم صديقه الذي أوى إليه للقتلة الذين يلاحقونه؟ أو يدل الشرطة إلى مخبأ مهاجر غير شرعي؟ بحسب كانط؛ نعم يجوز إذ يقول: “لن أكون متيقناً من أنني سأنقذ حياة الشخص الذي لجأ إليّ عندما أحاول التحايل على أعدائه لكن يقيني الوحيد حينئذ هو أنني انتهكت الحقيقة”.

ومع ذلك يوضح كانط إنه لا مانع من إخفاء جزء من الحقيقة، فإذا سألني جاري من باب المجاملة البحتة عما إذا كنتُ بخير، فلا شيء يمنعني من الرد عليه بالإيجاب دون ذكر مشكلاتي الزوجية والمهنية، وليس ذلك لأنني أعلم أنه لا يريد سماع شيء عنها بل لأن الصمت (إخفاء الحقيقة) ليس انتهاكاً للقانون الأخلاقي. أصبح الجدل بين إيمانويل كانط وبنجامين كونستانت الآن مسألةً فلسفيةً كلاسيكيةً، نقطة الخلاف فيها هي أن الأول نظر إلى مسألة الكذب نظرةً مجردةً، في حين ارتبطت نظرة الثاني بالمواقف الملموسة، ويرجع ذلك إلى أن عقلنا قد يقودنا خلال التفكر في المسائل إلى الكثير من الفرضيات المبهمة، أما واقع الحياة فلا يتوافق مثلاً مع فكرة أن الكذب سيعرضنا للنبذ الاجتماعي أو يجعلنا مجرمين.

الكذب أكثر تأثيراً من الصدق أحياناً

ما يميز عصرنا اليوم هو سعي البشرية المتزايد نحو تحقيق السعادة ولذلك فإن ما يلهمنا الآن ليس فلسفة كانط القائمة على الأخلاق الصارمة بل الفلسفة النفعية لجون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) (1806-1873) التي يطرح من خلالها مسألة تحقيق أكبر قدر من الرفاهية والسعادة للعالم أجمع، ففكرُه البراغماتي لا يهتم بالنوايا بل بنتيجة الأفعال، ويقول ميل: “قبل أن أفتح فمي يجب أن أزن إيجابيات وسلبيات ما سأقوله، فإذا كانت الكذبة ستقتل أربعة أشخاص وتنقذ عشرة لن أتردد، وكذلك الأمر إذا كان بإمكاني تحسين حياة شخص ما عن طريق الكذب عليه”.

فالشخص النفعي لن يتردد مثلاً في إخبار والده المسن المريض بأن الأطباء يتوقعون له الشفاء العاجل، فهذه الكذبة قد تحفز دوافع الحياة لديه ومن ثم ستتحول إلى حقيقة. . . . .

عندما يكذب الشخص تنشط اللوزة الدماغية وهي جزء من الدماغ مسؤول عن تنظيم العواطف وبخاصة الخوف، فترسل إشارة تحذير تتجلى في مشاعر الضيق والخجل لتذكيرنا بأن الكذب قبيح، وهي مشاعر تدفعنا لتجنب “الخطر الأخلاقي” الذي نتعرض له، وكلما اعتدنا الكذب قل نشاط اللوزة الدماغية في مواقف مماثلة.

كن صادقاً ولكن راعِ مشاعر الآخرين

حذرت فرانسواز دولتو (Françoise Dolto) في السبعينيات الآباء من الكذب على أطفالهم وأوضحت ضرورة إخبارهم بالحقائق الحساسة بكلمات يمكنهم فهمها، إضافةً إلى تعليمهم الصدق. ومع ذلك فعندما تشتكي منى ذات الـ 6 سنوات من رائحة جدتها الكريهة يطلب منها والداها أن تلتزم الصمت، وهنا نقول إن الصدق فضيلة لا غنى عنها لكن من الضروري أن ننتقي كلماتنا ونعرف متى يجب أن نصمت؛ أي لا تكذب ولكن تعلّم في الوقت ذاته التعامل مع الواقع ومراعاة مشاعر الآخرين. تسأل نجوى صديقتها علا: “ما رأيكِ بقصة شعري الجديدة؟”. في الحقيقة كانت قصة شعرها مريعة؛ لكن علا فتاة مهذبة وخلوقة لذا حاولت أن تلطف كلامها قدر الإمكان.

على الرغم من اعتبار الكذب سلوكاً مذموماً فإنه جزء لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية وتقول مختصة علم النفس ومؤلفة كتاب “علم نفس الكذاب” (Psychologie du menteur) كلودين بيلاند (Claudine Biland): “على الرغم من أننا نحب أن نبدو صادقين وموضع ثقة فإننا نكذب مرتين يومياً على الأقل”

ويرجع ذلك إلى علاقة البشر الإشكالية بالحقائق والأكاذيب منذ الأزل. يقول عالم التحليل النفسي جاك لاكان (Jacques Lacan): “يعبر الإنسان عن نفسه من خلال اللغة ومع ذلك بمجرد أن يبدأ الطفل بإتقانها يبدأ في الكذب، لأنه يمارس خياله لجعل الواقع أكثر انسجاما مع رغباته، أو لأنه يواجه مواقف لا يستطيع التعامل معها أو ليهرب من وعيه أو يحاول السيطرة على والديه”. لكن علماء نفس الأطفال يرون أن السبب الرئيسي وراء كذب الصغار هو الضغط الذي يشعرون به بسبب مطالبة من حولهم لهم بطريقة استبدادية بعدم “إخفاء أي شيء” فيصبح الكذب وسيلةً يحمون بها أنفسهم من محيطهم.

نحن محكومون بالكذب

يقول الدكتور هاوس بطل المسلسل الذي يحمل الاسم نفسه: “الكل يكذب”، وكما قال جاك لاكان: “نحن محكومون بالكذب”؛ محكوم علينا أن نتجاهل الدوافع وراء أفعالنا وأفكارنا. ومع ذلك، فقد لاحظ فرويد أنه كلما تمكن الشخص من تحليل تصرفاته قلّ كذبه؛ أي كلما فهمنا أسباب أفعالنا وسلوكياتنا والعوائق التي تحول بيننا وبين الحقيقة، اقتربنا منها أكثر وتمكنا من إيجاد الجزء الصادق الذي يكمن في كل كذبة، فالكذب وإن كان يخفي الواقع فإنه يقول الكثير دائماً عن آلامنا ورغباتنا.

المحتوى محمي !!