هل يدفعنا ألم الانفصال إلى تجنّب الوقوع في الحب؟

الوقوع في الحب
الوقوع في الحب
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عادة ما يكون قرار الانفصال عن الآخر حاسماً، فقد قطع هؤلاء النساء والرجال أنفسهم عن كل المشاعر، ويخشون دخول قصة حب جديدة. ولكن قلة من يستطيعون العيش من دون هذه المشاعر العاطفية النبيلة.

“لقد تمكنت دائماً من إدارة حياتي العاطفية والتحكم فيها” كما تشهد ليلى البالغة من العمر 35 عاماً. وتتابع: “لكن قبل ثلاث سنوات، وقعت في الحب بجنون. ولأول مرة في حياتي، قررت أن أفعل ذلك دون التفكير في العواقب. لقد ترك شريكي زوجته للتو بعد مرور عام على الوقوع في الحب. لم أكن سعيدة بهذا القدر من قبل أبداً! ثم فجأة أخبرني أنه سيعود للعيش معها، ومن هنا بدأت الكوابيس. لقد مررت بأسوأ تجربة في حياتي، وتملكتني كل الأحاسيس السيئة مثل الهجران والفقدان. ظننت أنني سأموت؛ لكنني نجحت في التغلب على الألم. ليست لدي إلا غاية واحدة؛ أن اترك كل شيء ورائي. لا أريد أن أعيش تلك التجربة مرة أخرى، فالحب يسبب ألماً كبيراً من الأفضل الابتعاد عنه”.

المشاعر المتجمدة بعد الاحتراق بنار الحب

مثل ليلى؛ هناك الكثير ممن أحرقهم نار الحب ويحاولون حماية أنفسهم بقول إن ما حدث معهم لن يتكرر أبداً. لا مزيد من الهجران؛ لا مزيد من خيبة الأمل أو الخيانة. لكي نتوقف عن الشعور بالألم يحب أن نكون على استعداد لعدم الشعور بأي شيء على الإطلاق.

يقارن بوريس سايرولنيك هؤلاء الرجال والنساء الذين قرروا عدم تعريض أنفسهم لنيران العاطف، بالمصابين في حوادث الطلاقات الذين لا ينفكون على الصراخ قائلين:لا تلمسوني!”. بهذا التصرف يتبنون موقفاً دفاعياً مسكّناً. آلية الدفاع هذه تسمى “اليقظة الباردة”. الحب الذي ينتج عنه خيبة الأمل هو ألم عظيم يسعى الكثيرون نتيجةً له للدفاع عن أنفسهم بالتجميد العاطفي.

رفض الحب

يتذكر لؤي ذو الـ39 عاماً شعوره عندما تركته أميرة فجأة بعد قضاء أربع سنوات معاً. وقد حدث ذلك مع وضعها قائمة شاملة مشيرة فيها إلى جميع عيوبه وإخفاقاته؛ بما في ذلك قدراته الجنسية: “لقد تم قطعي إلى نصفين حرفياً. أصبح جزء مني مثل جهاز الكمبيوتر، بينما أصبح الجزء الآخر كتلة خرسانية. من الصعب التعبير عن شعوري؛ ولكنني شعرت وكأنني تمثال. كما لم يعد بإمكاني الكلام؛ لقد سحقتني الخيانة! مكثتُ شهوراً في هذه الحالة دون أن أكون قادراً أو أرغب في الشعور بأي شيء”.

في هذا السياق؛ تشرح المحللة النفسية مارتين تيلاك: “رفض الحب باعتباره عاطفة مؤلمة هو أمر طبيعي في البداية. بالإضافة إلى ذلك، فهو رد فعل للبقاء في نفس الوقت مثل مرحلة حداد كلاسيكية. إن جرح الحب هو أيضاً جرح حب الذات، وتختلف وسائل إصلاح الذات نرجسياً وفقاً للبناء النفسي والعاطفي لكل شخص”.

شخصية “دون الخوان” أو الاستثمار المهني المفرط أو النشاط الاجتماعي المفرط أو الانسحاب أو التباعد العاطفي؛ كلها تثير ردود فعل مختلفة. عادة ما تجد النساء -عن طيب خاطر- ملاذاً في الكلمات والرجال في العمل؛ لكن الهدف النهائي يظل كما هو: عدم تعريض أنفسهن للألم.

أساليب دفاعية مختلفة

يقول سامي البالغ من العمر 41 عاماً، إنه كان يعاني من مثل هذه القصص ولكن وجد ضالته في التعرف إلى نساء أخريات. كنت بحاجة للانتقام. ووفقاً لما يوضحه: “كانت هؤلاء النساء وسيلة تجعلني أنسى لينا وأنتقم. وكأنها طريقة لإخبارهن وإعلام نفسي بأنني “لا أحتاجهن” في حياتي”.

تبنّت كارول ذات الـ36 عاماً أسلوب الدفاع المعاكس؛ بحيث تتغذى على الامتناع عن ممارسة الجنس من خلال رفض الكون الذكوري. تقول كارول: “لمدة عامين، أصبح كل ما هو ذكوري بالنسبة لي مرادفاً للأنانية والجبن. كان هذا الغضب والرفض هما اللذان سمحا لي بمعالجة الصدمة”.

اقرأ أيضاً: القلب المكسور: هل يمكننا تعلّم كيفية الإقلاع عن حب شريك حياتنا السابق؟

إلى متى يمكن أن نعاني من ذلك؟

إذا كان تجميد مشاعرك لإسكات معاناتك ردَّ فعل صحياً، فإن تسجيل هذا السلوك بمرور الوقت يمكن أن يصبح ضاراً. في ذات الصدد؛ تعترف أسماء ذات الـ42 عاماً، أن التخدير العاطفي كان مفيداً في البداية. وتوضح: “حان الوقت لآخذ أنفاسي وأستعيد حواسي”.

لكن قرارها بعدم الوقوع في الحب مرة أخرى بدأ يزعجها شيئاً فشيئاً. وتضيف: “أصبحت شخصاً ساخراً ومريباً. هل سأحتفظ بفكرتي الثابتة لكي لا أنخدع؟ كنت عدوانية وفي حالة تأهب. وفي الواقع لم أخاطر بمقابلة شخص ربما أقع في حبه، لأنني لم أعد مهتمة بأي شخص. وفجأة فتح نقاش مع صديقة لي عينيّ على بعض الأمور. ثم قررت أن أثق بنفسي مرة أخرى؛ وهذا يفيد بشكل أساسي أن أثق في الحياة من جديد”.

كيف تدافع عن نفسك ضد الحزن بسبب الحب ولا تنجر وراء الألم؟ 

غالباً ما يسمع الأطباء النفسيون مثل هذه الأسئلة. كما أن الفزع شبه الطفولي الذي يعبرون عنه هو صدى نفس السؤال: كيف نخرج من المأزق؟

من الواضح أن خيبة الأمل بعد الوقوع في علاقة غرامية، تجعل ما يحدث بعد العلاقة أمراً مرعباً بالنسبة لأولئك الذين وقعوا في الحب. نحن نعلم القسوة الساخرة وغير الطوعية للنصيحة بشأن الوضع الحالي. ومع ذلك؛ لا تزال هناك مفاتيح يمكن أن تساعد على جعل هذا الاختبار أداة لمعرفة الذات.

تتابع مارتين تيلاك: “البدء بقبول معاناتك هو الخطوة الأولى في التحرك نحو الشفاء”. من الخطِر على المرء أن يكتم عواطفه، فالرفض لا يختفي. إن الترحيب بالمعاناة يجعل من الممكن تخفيفها، بينما من خلال محاربة مشاعرنا، نُلحق بأنفسنا مزيداً من الأذى. 

اقرأ أيضا:

أوقف تدمير الذات

بمجرد أن يهدأ الألم، من المفيد محاولة فهمه. إذا كان تعذيب نفسك بأسئلة لجلد الذات أمراً عقيماً ومؤلماً، فإن محاولة قياس مسؤوليتك في قصتك يمكن أن تكون مفيدة. 

توضح مارتين تيلاك: “لا تحجب العاطفة وقتاً طويلاً. يمكن أن يكون ذلك ضاراً. إنه يشبه سياسة النعامة وعدم الاستفادة من هذه الفترة لمحاولة رؤية الذات بشكل أوضح”.

التساؤل عن سبب معاناتنا الشديدة ولماذا انصهرنا في الآخر ولماذا تبدو الخسارة لا تطاق؛ كلها أسئلة يمكن أن توقف عملية تدمير الذات المحتملة في العلاقات العاطفية المختلة. ضع في اعتبارك أن الحب -طريق المشاعر الأكثر حدة- ينطوي بالضرورة على المخاطرة.

تقول كاثرين بن سعيد: “لا يمكنك حماية نفسك تماماً من الحزن. لكن من الواضح أنه كلما عملت على نفسك أكثر، زاد فهمك لآلياته وقلّت المخاطرة بتدمير نفسك في العلاقة التالية. كما أنه كلما عرفنا بعضنا البعض، قل الألم الذي نشعر به. وعلى الرغم من أننا نقبله فحسب، فإننا لا نتغذى عليه ولا نريد التعايش معه. تماماً مثلما نعلم أن من خلال قمع عواطفنا؛ لا يمكن أن نجعل المعاناة تختفي من حياتنا”.

العودة إلى الحياة

يوضح بوريس سيرولنيك: “إن البرود الذي يغطي مشاعر أولئك الذين قرروا حماية أنفسهم من الحب، طريقة للتظاهر بالصمود فحسب. وفي الأعماق، يوجد ذلك البركان الذي لن يكون بعيداً عن الانفجار. من جهة أخرى؛ يمكننا إذابة هذا الجليد لكن ليس بأي طريقة أو مع أي شخص”. 

من المهم أن تتماسك داخلياً أولاً، لإصلاح الجرح النرجسي الناتج عن الفشل في الحب بشكل كافٍ. أي أن إعادة تعلم الحب، تقتضي ضرورة إظهار حبنا لأنفسنا أولاً. فضلاً عن أن التوقف عن التشكيك في قيمته هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. بمجرد اختفاء هذا الآخر الذي كان مصدراً للسعادة والثقة بالنفس، ستجد نفسك وحيداً في مواجهة شكوكك ومخاوفك. 

توضح مارتين تيلاك: “في هذه اللحظات يكون من المفيد إجبار نفسك على فعل ما لا تريده. اعتنِ بنفسك. امنح نفسك هدايا صغيرة واعتنِ بمظهرك واخرج. إن إعادة تثقيف نفسك حول المتعة يجعل من السهل العثور على المسار الذي يؤدي إلى الحياة.

ويبقى أيضاً أن يقنع المرء نفسه بأن المرء لن “يقدم” شيئاً مقابل لا شيء. “لقد بذلت كل ما لدي ولكن في المقابل تعرضت للخيانة” هو شعور شائع.فالحزن دليل على أننا لم نبخل في العطاء وبقينا صادقين مع أنفسنا” وفقا لكاثرين بن سعيد. 

السؤال الحقيقي: هل الأفضل أن نعاني ونعيش عاطفة الحب بكل ثرائها وشدتها، أم نحمي أنفسنا ونتغذى فقط على المشاعر الفاترة؟

بمجرد أن يمر وقت المعاناة أو الاستياء أو الغضب، فإن أولئك الذين تابوا عن الحب ينتهي بهم الأمر بالاعتراف بأنهم مستعدون للمغامرة مرة أخرى. تتابع كاثرين بن سعيد: “من الواضح أن عبارة “لم أعد أرغب في الوقوع في الحب” مجرد ترهات لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد”. يتعلق الأمر أكثر بـ: “كيف أتوقف عن الوقوع في حب شخص سيجعلني أعاني؟”. من الضروري أيضاً أن نعرف أنه عندما نحب؛ سنحب مرة أخرى لأن الحب والرغبة، لحسن الحظ، خارجان عن إرادتنا.

في هذا السياق؛ عاش أحمد البالغ من العمر 41 عاماً تجربة “الطلاق الانتقامي” في أمسية. ويوضح: “كنت أقول لنفسي أنني مع أفضل صديقَين لي؛ أننا انتهينا من قصص الحب وسنستأنف الدور الذي لم يكن يجب أن نتركه أبداً: دور الصياد. في نهاية الأمسية تعرّفتُ إلى ملاك؛ امرأة مرحة وجميلة وذكية. لقد عشت معها لمدة ثلاث سنوات”.

الحب من أول نظرة متكرّر

يجمع الحب من النظرة الأولى بخيبات الأمل التي تليه بوتيرة شيطانية. عقيدتهم: دون حب، لا يستحق المرء أن يعيش الحياة. 

“لا يلمس الحب من النظرة الأولى القلوب بصفة عشوائية” هذا ما أورده الطبيب النفسي بوريس سايرولنيك. عادة ما تحتاج النساء حيوية الأحاسيس التي يوفرها الحب. إنها الحاجة التي تكشف عن تبعية معينة: من دون مشروع شخصي حيوي كافٍ، فهن في بحث دائم عن الآخر لملء حياتهن. خيال من نوع آخر يضمنونه مع رغباتهن وتوقعاتهن واحتياجاتهن. 

بدافع من تخيلاتهم ومشاعرهم المتفاقمة؛ يتغذى العشاق المزمنون فقط على الحب المثالي. ولكن عندما يأتي الواقع لكسر البناء الخيالي، فإن خيبة الأمل والمعاناة تحل محل التمجيد. 

بالنسبة للأطباء النفسيين؛ غالباً ما يدل “الحب من أول نظرة” المتكرر على القلق الوجودي العميق الذي ينكر الواقع. تقول مارتين تيلاك: “مع ذلك؛ لا يمكن بناء علاقة إلا من خلال اختبار الواقع”. يتطلب هذا معرفة نفسك جيداً بما يكفي لتتمكن من اكتشاف الآخر بشكل جيد أيضاً. 

إنه بالضبط ذات البناء الذي يحاول “عشاق المسلسلات” تجنبه دون أن يكونوا على علم به دائماً. “يظهر البدء من جديد في كل مرة، عدم استقرار البناء النفسي العاطفي للطفولة”، بحسب ما يحلله بوريس سايرولنيك. 

الخوف من المحبة المفرطة والضياع في الآخر وفقدانه، دليل على أن هذا الحب من النظرة الأولى مثل الضمانات. إنه يسمح لك بالابتعاد عن المواقف التي يمكن أن تعيد تنشيط مخاوفك وآلامك القديمة. فعبارات على غرار: “لم أعد أرغب في الوقوع في الحب” أو “أنا أقع في الحب باستمرار” وجهان لعملة واحدة: الخوف من الحب.

اقرأ أيضا:

عندما يلوح الاكتئاب في الأفق

بالنسبة لأولئك الذين أصيبوا بالحب، فإن عنف الحزن يجعل احتمالات الغد مستحيلة. “يزداد الألم حدة عندما نكون في حالة حب ونعتقد أن عالمنا مليء بالكامل بالآخر” كما يحلل الطبيب النفسي بوريس سايرولنيك. وهذا ما يسمى في التحليل النفسي بـ “امتلاء القلب بالحب”. ومع ذلك كلما تعلق وجودنا بالآخر، تركنا اختفاؤه مرهقين نفسياً. خاصة إذا حصل ذلك من دون إعلام مسبق أو علامة تشير إليه.

في المقابل؛ يبدو أن الأشخاص الذين لا يتعافون يتمتعون بالتوازن الجيد. لكن وجع القلب هو الذي يكشف ضعف شخصيتهم. ثم تبقى المعاناة التي يكون سببها شعورك بأنك لا تساوي شيئاً، وبعد ذلك يمكن أن يستمر الاكتئاب لفترة طويلة.

والمعيار الوحيد الذي يمكنه التمييز بين الحزن العادي والاكتئاب هو مدة أعراض المعاناة. عندما يستقر الانسحاب إلى الذات ويصعب القيام بأعمال الحياة اليومية، ويزداد الإنكار الذاتي، بالإضافة إلى نوبات الدموع التي لا يمكن كبتها وعدم القدرة على العثور على المتعة بمرور الوقت؛ يكون التهديد حقيقياً للغاية. 

لذلك تنصح المحللة النفسية مارتين تيلا: “من الحكمة التشاور بمجرد أن تشعر أنك لن تعيد ذات التجربة بعد ثلاثة أو أربعة أشهر”. كلما غرقنا في الحزن، زاد فقداننا للرغبة في العودة إلى الحياة. ولذلك يمكن أن تكون المحنة العاطفية الكبرى فرصة لمهاجمة أقسام كاملة من كيانك تركتها من دون اهتمام.

اقرأ أيضاً: كيف تكون الحياة بعد فقدان المحبوب؟

المحتوى محمي !!