تعرّف إلى تجارب أشخاص أفلتوا من الموت

الغيبوبة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لقد قطعوا مسافات طويلة في مساحات اللاوعي المجهولة. أرادوا إخبارنا برحلتهم في أثناء الغيبوبة كما لو كان يكفي إلقاء نظرة على ما حدث معهم. لكن كيف يمكن مشاركة مثل هذه التجربة الحميمة – لا سيما الغوص في أعماق اللحظة المنتهية؟

كان حثّ العائدين من حالة الغيبوبة على التحدث عن إقامتهم في ذلك “المكان”، وعما مروا به وما الذي استَخلصوه وكيف غيّرهم؛ مجرد فكرة بسيطة. لقد وافق ثلاثة على سرد مغامراتهم مع الغيبوبة وهم كالآتي: ألما التي قادها ورم دماغي حميد -ولكنه متكرر- إلى طاولة العمليات؛ والتي غابت بشكل عرضي بين الحياة والموت لمدة أسبوع. ولمياء التي كانت “فاقدة” للوعي لمدة أربعة أشهر تقريباً بعد تعرضها لحادث تزلّج. ومهدي الذي أصيب بسكتة دماغية تركته حبيس الغيبوبة لمدة عشرة أيام.

عاد هؤلاء الثلاثة إلى حياتهم “الطبيعية” بعد مرور عدة سنوات من الغيبوبة، وبغض النظر عن بعض الندوب؛ إلا أنهم لم يعانوا من استمرار مضاعفات متأخرة إلى حد ما ودائمة، جرّاء غيابهم عن الوعي لفترة زمنية. تخيلتُ نوعاً من روايات الرحلات في بلد غير معروف، غريب بعض الشيء وغامض. ثم تُطمس الذكريات بمرور الوقت؛ حيث يضع الناجون بعد لحظة مأساوية ومؤلمة، أجسادهم تحت اختبار قاسٍ؛ ولكنها نقلتهم أيضاً إلى “مكان آخر”. إنه “مكان” يثير الدهشة والإعجاب، كما لا يزال العلم لا يعرف عنه شيئاً تقريباً لتفسيره.

من الخطأ دائماً تخيّل الرحلات التي لم نقم بها، لتعتقد أنه كما هو الحال في الأفلام؛ أنك ستستيقظ يوماً ما من غيبوبة وتتابع حياتك من حيث توقفت قبل وقوع الحادثة. دون معرفة أو قياس أو فهم الألم اللامتناهي والعمل الضخم الذي يحتاجه أولئك الذين عادوا إلى أنقاض حياتهم أو بالأحرى إلى ما قبل حياتهم وما بينها وما بعدها.

تحدث كلّ من ألما ولمياء ومهدي، عن بعض أجزاء حياتهم؛ والتي حاولوا بصبر تفكيكها وإعادة تجميعها، لإيجاد معنى لها وفهم من أين جاؤوا، والتكيّف مع هذه الحياة “الطبيعية” التي تستوجب تعلم كيفية المواجهة من جديد خطوة بخطوة.

نسيت ألما كل شيء تقريباً؛ لكنها تشعر بالراحة في ذلك. وجمعت لمياء ذكرياتها، ووجدت فيها قدراً من المعرفة الثمينة التي تعتمد عليها حالياً. من جهته؛ سجل مهدي كل ما لديه، قبل أن يبدأ بإعادة ترميم ثنايا حياته. كل قصة من قصصهم فريدة من نوعها، وهذا ما قاموا به عند عودتهم إلى الحياة.

“مثل فجوة في حياتي”

● ألما، 47 عاماً، 6 أيام من الغيبوبة عام 2006

تقول ألما: “أنا لا أتذكر أي شيء أو ربما القليل. في الحقيقة؛ لم أكن قادرة على أن أعرف أن ما أقوله نابع من ذاكرتي أو مما قيل لي. أتذكر أنني شعرت بأنني عالقة، لا أعرف كيف أصل إلى بر الأمان. كنت أعرف أنني متزوجة من رجل أحببته؛ لكنني لم أستطع معرفة شكله. عندما أردت التحقق من ذلك اكتشفت أنه ليس لدي خاتم زواج”.

وتتابع: “لقد قلقت كثيراً. أخبرتني صديقة أنني عندما استيقظت أخبرتها عن رحلتي: كان لديّ الاختيار بين البقاء أو العودة؛ وهو ما لا أريده لأنني كنت أعرف أن العودة ستكون فظيعة. ولكن كائناً ما – ملاك، شجعني على العودة على أي حال. وانتهى به الأمر بإقنَاعي للعودة إلى الحياة، ووعد بمرافقي والبقاء معي لمساعدتي”.

وتضيف: “كنت على حقّ؛ لقد كانت هذه الرحلة فظيعة وفقدت من خلالها كل التفاصيل، وشعرت وكأنه كابوس مروّع للغاية، في وقت ما انتهى الأمر وعدت. وعندما فتحت عيناي، كان هذا الملاك جالساً بجانب سريري. لم أستطع وصف ذلك؛ لكنني تعرفت عليه على الفور؛ كان زوجي”.

توضّح ألما: “وكأن الغيبوبة أحدثت ثقباً في حياتي. إذا لم يخبروني بحدوثها، فلا أعتقد أنني سأعرِف شيئاً عنها. لقد فقدت إلى الأبد تلك الأيام التي كنت فيها مُلكاً لنفسي. كان عليّ إعادة بناء كل شيء بشكل مختلف؛ لكن اخترت على الفور ترك الأمر ورائي، لاستعادة السيطرة والقتال واستغلال كل الفرص المتاحة لي. لطالما ضحكت من كل شيء؛ لكن منذ عودتي أجد صعوبة في أخذ أي شيء على محمل الجد. أعتقد أن الحياة عبارة عن مهزلة واسعة النطاق، وأن مفهوم المستقبل -حتى القريب- لم يعد يستوعبه تفكيري. إنها رحلة لا أتمنى أن يقوم بها أحد ولكنها جزء مني، ولن أغير ما أنا عليه الآن”.

“عشتُ في وضوح رائع”

● لمياء، 47 عاماً ، 126 يوماً في غيبوبة عام 1992

تقول لمياء: “أتذكر أنه تم الإلقاء بي في مساحة بيضاء ناصعة. لم أستطع التحرك؛ لكنني تمكنت من التنقل إلى الفضاء إلى نقطة عالية. أذهلتني! اكتشفت منظراً طبيعياً ناعماً وهادئاً؛ حيث توجد كائنات على شكل بيضة تتحرك. لقد شاهدت لأول مرة الإسقاط السريع لحياتي، منذ ولادتي وحتى الحادث؛ بما في ذلك بعض التفاهات الشخصية التي أفزعتني. ثم تم تثبيتي في قرية من الأكواخ المستديرة، وأدركت أنها منطقة وسيطة لأولئك الذين لم يعودوا على قيد الحياة؛ لكنهم غير مستعدين بعد للمغادرة إلى الحياة الآخرة. كما أنني كنت أريد البقاء هناك حتى أعرف ما إذا كان يمكن إعادة إحياء جسدي أم لا”.

وتتابع: “هذا هو المكان الذي أمضيت فيه كل إقامتي في وضوح رائع؛ عاطفي وفكري وروحي. تمكنت من الوصول إلى المعرفة المطلقة، وتعلمت الكثير من الأشياء حول الولادة والحياة والموت وما بعد الحياة. بعد ذلك كل ما كان علي فعله هو أن أطرح على نفسي أسئلة ليشرحها لي أحد الأشخاص!”.

وتوضح: “كنت أيضاً قادرة في بعض الأحيان على التحدث مع حبيبي بطريقة غير مادية ودقيقة للغاية. أتذكر أنني حلّقت فوق جسدي عدة مرات ووجدته في حالة من الفوضى ومثيراً للاشمئزاز بالنسبة لي، إلى درجة أنني لم أعد أرغب في العودة. في مرحلة ما تم إخباري أنه تم فحص جسدي، وأنه يمكنني العودة إلى حياتي، قبل أن أتمكن من الوصول إلى الحياة الآخرة، ثم عدت بلا حماس، وبرأس فارغ”.

وتضيف: “كان علي أن أتعلم كل شيء من جديد وأن أعيد بناء أحجية ذاكرتي. استغرق الأمر مني حوالي 10 سنوات. منذ ذلك الحين؛ قمت ببناء حياتي ورُزقت بأطفال، مع إدراك هادئ أن كل يوم يمكن أن يكون الأخير؛ إنني أعلم أن الموت مجرد مرحلة وأن الحياة تستمر بعد ذلك”.

“لقد كنت في كل مكان على وجه الأرض”

● مهدي، 53 عاماً، 10 أيام في غيبوبة عام 2002

يوضح مهدي: “لقد عدت من مكان لا يُصدق؛ حيث يتم مزج الأجمل والأقوى والأكثر فظاعة في الحياة معاً. خلال هذه الغيبوبة؛ وجدت نفسي فوق جسدي، مراقباً لزوجتي وصديق لي. كانا يتحدثان عني في ساحة المستشفى بينما كنت طريح الفراش؛ لكن لم أتمكن من سماعهِما. يُخيل إليّ أنني قاتلت إلى جانب رجال الشرطة ضد الخاطفين المفترضين الذين اختطفوا ابنتي، واستمر ذلك إلى الأبد. قمت برحلة رائعة؛ عارياً في جبل، مستمعاً إلى صوت الطبول المقدسة، أبحث عن الرجل الدب الذي أفتقده بصعوبة؛ لكن قابلته لاحقاً في الحياة “الحقيقية”.

ويقول: “كنت ألعب دور حاسة الشم، ذهبت في كل مكان على الأرض وزرت كل الجبال. عندما استيقظت؛ اختلطت علي كل هذه التجارب؛ النشوة، الرعب والأحلام التنبؤية. كنت مقسماً لألف قطعة وقطعة ولا رغبة لي، إلا في أن أكون بين أحضان زوجتي. ضائعاً كلياً”.

ويتابع: “كنت محظوظاً لأن طبيب عائلتي قال لي: “اكتب كل شيء!”. ملأت الدفاتر، ثم بدأت بالتحليل النفسي. استغرق الأمر مني طاقة ضخمة لإعادة بناء نفسي، بعد كل هذه الأحداث. ولكي أفهم ما وقع خلال هذه الأيام العشرة- والتي بدت لي وكأنها استمرت لأربع أو خمس سنوات على الأقل- تيّقنت أنني عشت أكثر بكثير مما يمر به المرء عندما يكون في وعيه العادي. لقد استغرق الأمر مني سنوات، للأخذ بزمام الأمور بالترتيب والمطابقة”.

ويضيف: “الغيبوبة هي عودة إلى مرحلة الطفولة. لم يكن هناك أفضل من إيقاظي على جميع المستويات؛ الروحية، والعاطفية والنفسية. اليوم؛ أنا معالج نفسي وزوجتي أيضاً، وأنا أسعد الرجال”.

المحتوى محمي !!